الاوضاع الاجتماعية في الجزيرة العربية

بقلم أحمد الواسطي


إنّ النظم الاجتماعية لعرب الجاهلية هي حصيلة التفاعل بينهم وبين البيئة التي عاشوا فيها . فقد خضعوا لشروط بيئتهم ولاءموا حياتهم الاجتماعية مع الظروف الطبيعية التي نشأوا فيها .

والجدير بالذكر أنّ الظروف المعيشية الصعبة والأرض الصحراوية القاحلة أوجبت أن يكون الأساس في حياة العرب ، وبخاصة عرب الشمال ، البداوة ، والبداوة تعني الحياة القبلية المتنقلة ، إذ إن طبيعة البلاد الصحراوية تفرض على ساكنيها أن يعانوا حياة شاقة لا مجال فيها للقرار واستيطان الارض .

والقبيلة هي الوحدة التي يتجمع حولها الأفراد ، والأفراد لا يعرفون سوى قبيلتهم ملاذاً لهم ، خلافا لأهل الحضر الذين يكرّسون ولاءهم للدولة في أيامنا الحاضرة .

وإذا كانت القبيلة تقوى بأفرادها ، وكانت قوة الأفراد من قوة الجماعة ، وجب على الفرد في القبيلة أن يتضامن مع قبيلته على الخير والشر ، وأن ينصر



--------------------------------------------------------------------------------

--[266]--

أخاه ظالماً أو مظلوماً ، وأن يكون أفراد القبيلة يداً واحدة على من سواهم :

لا يسألون أخاهم حين يندبهم *** في النائبات على ماقال برهانا

فالناظر الى مجتمعات شبه الجزيرة العربية ، سواء في ذلك المجتمعات القبلية البدوية أو مجتمعات الحضر التي تظهر على أوضحها في التكوينات السياسية الكبيرة ، يجد أنها تشترك جميعا في عنصرين أساسيين :

العنصر الأول : عوامل التماسك التي تبدو وكأنها تشدّ المجتمع الى بعضه .

والعنصر الثاني : عوامل الانقسام الطبقي التي تسير في موازاة العوامل الأولى .

عوامل التماسك :

وفيما يخصّ عوامل التماسك فإننا نجد عدداً واضحاً منها في التكوينات القبلية تهدف الى إشاعة التماسك ، حسب تصور معين في المجتمع القبلي ، ومن هذه العوامل : عامل العصبية وعامل آخر مكمّل له وهو الثأر .

وتتولد العصبية القبلية عند الأفراد عن وعي أو غير وعي ، وتستمر بتعاقب الأجيال على نمط عاطفة عميقة وفكرة ثاقبة . فهي بمثابة الرباط الذي يشدّ بطون القبيلة وأفرادها بعضهم الى بعض ، فيجعلهم يداً واحدة .

ولولا هذا الشعور لما كان في وسعهم أن يدافعوا عن أنفسهم ومصالحهم . فالعصبية القبلية بهذا المعنى هي البديل الذي لابد منه للرابطة القومية ، ولكن في حيّزها المتطرف(1) .

ويقترن بالعصبية القبلية عادة الثأر ، إذ تقضي تقاليد البادية أن يطالب أهل المقتول بقاتله ليقتلوه به ، وهو الأمر المعروف باسم (القَوَد) إلاّ إذا رضوا بدية القتيل .

والدية تختلف باختلاف مركز القتيل من الناحية الاجتماعية ، فالدية واجبة عن الملوك والزعماء ، وتختلف عن دية الأفراد والصعاليك ، ودية الصريح ضعف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الآلوسي : بلوغ الارب في معرفة احوال العرب : 3/22 . د . جواد علي : تاريخ العرب قبل الاسلام 1/367 ـ 368 .



--------------------------------------------------------------------------------

--[267]--

دية الحليف . والذي جرى عليه العرب أن يأخذوا مائة من الإبل دية القتيل من عامتهم ، ودية الأشراف تزيد عن ذلك ، بينما تكون دية الملوك ألف بعير .

أما إذا لم يحصل القَوَد ، ولم يرضَ ذوو القاتل أو عشيرته بدفع الدية ، ويكون القاتل قد لاذ بالفرار ، عندئذ يصبح الأخذ بثأره واجباً محتماً ، إذ يصمم ولي المقتول ، ويكون عادةً أقرب الناس إليه ، على الأخذ بثأره ، وغالباً ما يحرم على نفسه أن يشرب الخمر أو يقرب النساء أو يمس رأسه غسل حتى يدرك ثأره(1) ، وقد يستغرق طلب الثأر عشرات السنين .

والعرب يعتقدون أن القتيل تخرج من رأسه هامة تنادي على قبره (اسقوني فإني صدية) ، ولا ينقطع نداؤها إلاّ حين يؤخد بثأره(2) .

وحتى أدرك أولياء القتيل ثأرهم ، ورأوا أنّ من قتلوه كفؤ لقتيلهم ، نام الثأر في صدورهم ، وعندئذ يسمى (الثأر المنيم) . أما الذي يتوانى عن طلب الثأر لقتيله فيلحقه العار . وقد يلحق العار القبيلة بأسرها إذا نامت عن ثأرها ولم تسعَ إليه ، فينظر العرب إليها نظرة ازدراء واحتقار . وحتى من يقبل دية قتيله ينظر إليه بمثل هذه النظرة . وكثيراً ما يتولد عن الانتقام للدم المسفوح ثأر جديد ، يجرُ وراءه سلسلة من الثارات المتبادلة ، أشبه ما يكون بالحلقة المفرغة وقد يستغرق ذلك أجيالا . كما قد تسوى الأمور ، بأن يسلّم القاتل طوعاً أو كرهاً الى أهل القتيل كي يقتلوه به ، فلا يبقى مجال لطلب الثأر . لكن القبيلة التي تفعل ذلك تكون قد جلبت على نفسها عاراً لا يمحى .

لذلك فإنّ القبائل تفضل أن تقتل القاتل بدلا من تسليمه طوعاً للمطالبين به ، دفعا للعار .

وقد تتفق قبيلتان متحاربتان على تسوية الثارات بينهما لحقن الدماء فترضيان بالتحكيم ، يتولاه شخص معين أو هيئة محكمين ، يرضى بهم الطرفان ، يحكمون بأن تدفع القبيلة التي يكون قتلاها أقل من الثانية فضل الديات لها . وقد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الآلوسي : 3/24 .

(2) الآلوسي : 2/312 .



--------------------------------------------------------------------------------

--[268]--

يحكمون بإبطال المطالبة ببعض الدماء ، باعتبارها لا تستوجب دفع الدية ، ويقال لذلك (الشرخ) . والمثال على ذلك : الحكم الذي أصدره (يعمر بن عوف) بين قصي وخزاعة ، فحكم بأن كلّ دم أصابه قصي من خزاعة موضوع ، يشدخه قصي تحت قدميه ، فسمي يعمر لذلك باسم (يعمر الشداخ)(1) .

وحقيقة إنّ العصبية والثأر قد أدّيا الى مناسبات كثيرة من الصراع بين قبائل شبه الجزيرة في العصر السابق للإسلام ، وكان هذا الصراع يصل في بعض الأحيان الى فترات من العداء الصريح الذي يستمر عقوداً بأكملها بين توتر أو مناوشات أو غارات كثيفة متبادلة حفظ التراث العربي لنا عدداً من مواقعها وهي التي تسمى أيام العرب(2) .

ولكن من الجانب الآخر فإن كلاًّ من هذين العاملين كان أمراً حيوياً بالنسبة للقبيلة حتى لا يذوب كيانها في مجال العلاقات بين القبائل في ظلّ الظروف القاسية ، التي سادت مجتمع البادية في شبه الجزيرة . فالعصبية التي تنتج عن تصور حقيقي أو مفترض لرابطة القرابة أو الدم كانت وسيلة التكتل الأساسية بين أفراد القبيلة في غياب أية وسائل أخرى ثابتة لإشاعة هذا التكتل . وهي وسيلة تجمع بين هؤلاء الأفراد بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى المطروحة مثل اعتبارات الحق والباطل أو الظلم والعدل ، بحيث يصبح هذا التكتل هو القيمة الأولى في حياة القبيلة ، التي كثيراً ما كان يدفعها السعي وراء الكلإ الى التنقل ، وهو ظرف قد يؤدي الى التشتت ومن ثم الاندثار كوحدة اجتماعية ، أو الى التصارع مع قبائل أخرى في سبيل الحصول على هذا الكلإ أو على عين ماء إذا أدخلنا في اعتبارنا قلة الماء في شبه الجزيرة الى درجة الندرة في بعض الأحيان .

والجدير بالذكر أن العصبية والثأر هما صنوان متلازمان وأمران طبيعيان في الصحراء ، حيث لا قوة أو دولة تحمي الفرد إذا ضعف ، أو تنتقم له إذا اعتدى عليه أحد ، اللهم إلاّ عشيرته أو قبيلته . ولذا فرضت تقاليد البادية أن يثأر الفرد لنفسه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جواد علي/1/369 .

(2) جرجي زيدان/العرب قبل الاسلام : 254 ـ 274 ، عمر فروخ/ تاريخ الجاهلية : 77 ـ86 ، السيد عبدالعزيز سالم/تاريخ العرب في العصر الجاهلي : 426 ـ 443 ، سعد زغلول عبدالحميد/تاريخ العرب قبل الاسلام : 311 ـ 318 .



--------------------------------------------------------------------------------

--[269]--

أو لذويه من كلّ من يلحق الأذى به أو بذويه . ويتضامن معه أفراد عشيرته ، أو بطون قبيلته في الوصول الى حقّه ضد أي فرد أو جماعة تعتدي عليه من خارج قبيلته .

عوامل الانقسام :

ولكن مع كلّ العوامل المؤشرة الى التماسك سواء في مجتمع التكوينات القبلية ، أو في مجتمع التكوينات الكبيرة ، فإنّ عوامل الانقسام كانت موجودة في داخل هذه التكوينات في الوقت ذاته . ففي المجتمع القبلي رغم ماكانت عليه العصبية من رسوخ يدفع القبيلة الى أن تخفّ للدفاع عن أي فرد من أفرادها إذا تعرّض لأذى أو اعتداء أو إهانة من قبيلة أخرى ، فإن نداء العصبية هذا لم يكن يمارس بنفس الحماس في حالة كلّ الاشخاص .

ولعل الأقرب الى الواقع في هذا الصدد هو أن هذا الحماس في الاستجابة لنداء العصبية كان يشتد أو يخفّ أو حتى ينعدم حسب وضع الشخص في القبيلة ، فإذا كان من الوجهاء أو الاعيان أو السادة فإن القبيلة تهب في استجابة فورية لهذا النداء ، كما حدث على سبيل المثال ، فيما يرويه (ابن الاثير) من غضب (عمرو بن كلثوم) حين أحسّ أن إهانة قد لحقت بأمّه على يدي أمّ الأمير اللخمي (عمرو بن هند) فنادى آل قبيلته تغلب ، واستجابت القبيلة للنداء ، وكان بعدها صدام مسلح انتهى لصالح التغلبيين(1) .

ونحن نستطيع أن نقابل بين هذا وبين ما نستنتجه من شعر قاله (قريط بن أنيف) أحد بني العنبر (وهو شاعر مخضرم) وكان عدد من أفراد (بني ذهل بن شيبان) قد نهبوا عدداً من إبله فاستغاث بقومه فلم يغيثوه ، فندّد بموقفهم هذا في أبياته . والتفسير المنطقي هنا هو أن قريطاً ربما كان من (طبقة العوام) في قبيلته ، ومن ثم لم يكن ما أصابه من أذى (سواء بالحق أو بالباطل) مدعاة للاهتمام بين أفرادها ليهبّوا لمساندته ، وهو يشرح لنا هذا الموقف بكلّ وضوح حين يقول :


ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن الأثير : الكامل في التاريخ : ج1/331 .



--------------------------------------------------------------------------------

--[270]--

لو كنت من مازن لم تُستبح إبلي *** بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا

إذن لقام بنصري معشر خشن *** عند الحفيظة إن ذو لوثة هانا

قومٌ إذا الشرُّ أبدى ناجذيه لهم *** طاروا إليه زرافات ووحدانا

لا يسألون أخاهم حين يندبهم *** في النائبات على ما قال برهانا

لكنّ قومي وإن كانوا ذوي عدد *** ليسوا من الشر في شيء وإن هانا(1)



وهكذا تتكون بالتدريج داخل كلّ قبيلة فئة أو طبقة لا تشعر بالانتماء الكامل لها ، ويمكن أن تصبح عنصر انقسام بدلا من أن تكون عنصر تماسك .

والشيء ذاته نجده في أفراد القبيلة الذين تخلعهم القبيلة; لتصرف أتَوه ولم ترضَ القبيلة عنه . إن القبيلة تعلن عن لسان سيدها أو شيخها أنها غير مسؤولة عن تصرفاته ، وبالتدريج تتكون مجموعة من المنبوذين عن المجتمع القبلي تشكل بدورها عنصراً من عناصر الانقسام .

رتب الأنساب :

وتشمل الشعب ، القبيلة ، العمارة ، البطن ، الفخذ ، والفصيلة(2) . وكلّها أصول وفروع للنسب القبلي تقابل أسماء من أعضاء الجسم .

الشعب :

وهي تشمل النسب الأبعد كعدنان وقحطان ، ونسل كلّ منهما شعب فهما شعبان . وفي القاموس : الشاعبان هما : المنكبان لتباعدهما . وفيه أيضا : الشعب : موصل قطع الرأس (في أعلاه) وربما سمي الشعب بهذا الاسم; لانه أعلى مرتبة من مراتب النسب ، مثلما الشعب (موصل قطع الرأس) في أعلى رأس .

القبائل :

والقبائل العربية تتفرع من الشعب كما تتفرع قبائل الرأس ، (وهي قطع عظم الرأس المشعوب بعضها الى بعض) من أعلى الرأس (أي الشعب) .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ديوان الحماسة مختارات أبي تمام ، طبعة الرافعي ، القاهرة ، أولى قصائد الديوان .

(2) الآلوسي : 3/188 .



--------------------------------------------------------------------------------

--[271]--

يقول القلقشندي : القبيلة هي ما انقسم فيه الشعب كربيعة ومضر .

ربما سميت القبائل باسم جماجم أيضاً : آ«جماجم العرب هي القبائل التي تجمع البطونآ» .

العمارة :

وهي بمثابة العنق والصدر من الإنسان . وهي ما انقسمت فيه أقسام القبيلة كقريش أو كنانة .

البطن :

وهو ما انقسمت فيه أقسام العمارة كبني عبد مناف وبني مخزوم .

الفخذ :

وقد جعلوها بعد البطن; لأن الفخذ من الإنسان بعد البطن . والفخذ ما انقسمت فيه أقسام البطن كبني أمية على سبيل المثال .

الفصيلة :

وقد جعلوها بعد الفخذ; لأنها النسب الأدنى الذي يفصل عنه الرجل بمثابة الساق والقدم ، والفصيلة ما انقسمت فيه أقسام الفخذ كبني العباس(1) .

والعصبية القبلية هي في الأصل الشعور بصلة النسب الى جد واحد ، وتختلف شدة رباطها باختلاف درجات الالتحام في النسب . غير أن هنالك من الدلائل ما يشير الى أن النسب أمر عرضي ، الى جانب كونه أمراً طبيعياً ، إذ يدخل فيه الأفراد الذين يصاهرون القوم وينتسبون اليهم بالولاء ولو كانوا من قبائل أخرى .

ويكون للعصبية القبلية قيمة أعظم من حيث الرباط الذي يجمع بين القبائل التي ترجع الى نسب واحد ، إذا رفد رابط النسب رابط من المصلحة والجوار ، وقد لا يكون للنسب شأن كبير أحياناً إذا تضارب مع المصلحة وحسن الجوار .

ويبلغ الشعور بوحدة النسب في القبيلة درجة من القوة بحيث تعتبر أن كلّ من لا ينتمي إليها إنما هو غريب ، وأحيانا وفي ظروف معينة عدو ، ذلك أن القبائل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) القلقشندي : نهاية الارب في معرفة أنساب العرب : ص13 ـ 14 ، الآلوسي : بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب : 3/188 ـ 189 ، وراجع المنجد عن معاني كلّ كلمة من الكلمات التي تطلق على مراتب الأنساب .



--------------------------------------------------------------------------------

--[272]--

العربية كانت تألف مجتمعاً يسوده التفكك وعدم الشعور بالروابط القومية الجامعة .

العناصر التي تتألف منها القبيلة :

والقبيلة تتألف في العادة من عناصر كثيرة :

1 ـ الصرحاء : وهم أبناء القبيلة الذين يجري في عروقهم دمها النقي ، كما أنهم ينحدرون من الجد الذي تنتسب إليه ، وهؤلاء هم الذين يسودون القبيلة ، ويؤلفون بيوتات الشرف فيها .

2 ـ ابناء القبيلة بالنقلة : فقد كان جائزاً نقل رجل نسبه من قبيلة الى قبيلة أخرى ، فيصبح من أفرادها .

3 ـ أبناء القبيلة بالاستلحاق : فقد تُزوّج القبيلة عبداً من عبيدها امرأة من القبيلة ، فيصبح مع الزمن فرداً من أفرادها يحمل نسبها . أما أولاد العربي من زواج غير شرعي أو من جواريه ، فله الخيار في أن يلحقهم بنسبه أو لا يلحقهم ، وإذا فعل أصبحوا يحملون نسب القبيلة(1) .

4 ـ العبيد : وهم على نوعين : عرب وأجانب ، ومصدر الرقيق العربي بين القبائل العربية ، إذْ أن العربي الذي يقاتل في الحرب ذوداً عن قبيلته ، كان عليه أن يواجه إحدى حالات ثلاث : إمّا أن يُقتل أو يَفِر أو يُجرح ، وحينئذ يؤسر فيُستَرَقّ .

أمّا الناس فغالباً ما كنّ يؤخذن أسيرات وسبايا في عقب القتال . وربما كان هدف الغارة سبي النساء ، وهذا ما كان يدعو القبائل إلى أخذ الحيطة الشديدة لحمايتهن .

وتمنح القبيلة من يقوم بهذه المهمة بشجاعة ألقاباً بطولية (كحامي الظعينة) ، أو (فارس الظعينة) ، وكثيراً ما كانت القبائل تبيع سبيها واسراها (أم عمرو بن العاص كانت سبيّة ، ثم بيعت في سوق عكاظ) .

أما مصدر الرقيق الأجنبي فكان الشراء ، حيث كان العرب يرتادون أسواق الروم وفارس ، فيشترون الأرقاء الذين كانت كلّ من دولتي الروم والفرس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) د . فروخ : تاريخ الجاهلية : ص150 .



--------------------------------------------------------------------------------

--[273]--

المتعاديتين تأسرهم من الأخرى اثناء الحروب الكثيرة ، التي كانت تجري بين الطرفين . كما كان العرب يعتبرون أبناء جواريهم ، الذين لا يعترفون ببنونتهم رقيقاً لهم .

والرقيق أصناف يختلف ثمن العبد باختلافها ، فهناك : الرقيق الأسود ، وكان في منزلة غاية في الانحطاط بالنسبة للرقيق الأبيض ، ذلك أن العرب كانوا يتعشّقون البياض ويحتقرون السواد ، حتى ليطلقون على العبيد السود اسم (الاغربة) تشبيها لهم بطائر الغراب البغيض المشؤوم(1) .

أمّا الرقيق الأبيض فهو ذو مكانة أعلى وثمن أغلى وهو من جنسيات مختلفة : فارسية أو بيزنطية أو من بعض الشعوب الأوربية .

وبالرغم من أن الرقيق قد اعتُبر كالآلة ، يؤمر فيستجيب ويعمل ، غير أن أثره كان عظيماً على أهل مكة من حيث كثرة أفراده إذْ ندر ما خلا دار من دور مكة من عبيد يقتنيهم رب الدار .

وقد استخدمهم مالكوهم ، لما لهم من معرفة وخبرة ومهارة فنية ، لا سيما الرقيق الأبيض في الحرف المختلفة ، كأعمال البناء والتجارة والتعدين وغيرها ، يشتغلون لحساب أسيادهم ، كما استخدموهم كحرس لهم ومشرفين على إدارة مبيعاتهم ، وقد روي أن عاملا رومياً عمل في بناء الكعبة ، في حياة الرسول قبل البعثة .

كما رسم بعض العمال المسيحيين صوراً للأنبياء والملائكة ومريم العذراء ، وغير ذلك من قصص الوحي الديني على جدران الكعبة ، حتى إذا فتح الرسولُ مكةَ طمسها مثلما حطم الأصنام ، التي كانت هذه الصور قد أقحمت معها للزينة وربما تقديساً لها .

وكان لهؤلاء الأرقاء سهم في إدخال بعض الألفاظ الفارسية والإغريقية والحبشية الى اللغة العربية ، منذ عهد ما قبل الإسلام ، كما استخدموا في الترفيه من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أحمد ابراهيم الشريف : مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول : ص37 ـ 39 .



--------------------------------------------------------------------------------

--[274]--

رقص وغناء وضرب على الأوتار . وكان بوسع العبد أن يسترد حريته بأن يؤدي لسيده خدمة عظيمة ، أو يظهر شجاعة فائقة في موقعة حربية ، أو يتفق مع سيده على أن يشتري حريته بمبلغ من المال ، ويعرف ذلك باسم (المكاتبة) . والرقيق الذي يتحرر بهذه الطريقة يعرف باسم (المكاتب)(1) .

5 ـ الموالي : وهناك أيضا الموالي ، ويرجعون الى مصدرين :

الأول : أن الرقيق عندما يعتق يصبح من الموالي ، إذا أراد البقاء في القبيلة .

والثاني : أن يلتجئ فرد من إحدى القبائل الى قبيلة أخرى بسبب خلع قبيلته له ، فيعتبر مولى من مواليها ، ويطبق عليه التقليد المعروف باسم (الجوار) ، وهو : إمّا جوار ضد عدو معين ، أو جوار عام ، وفي هذه الحالة يصبح للمستجير ما لأفراد القبيلة من حقوق ، من حيث حمايته والأخذ بثأره إذا قتل ، ويطلق عليه اسم (حليف)(2) . وقد يصل الأمر بالمجير أن يقتل أعزّ الناس إليه إذا قتل حليفاً مستجيراً ، كما فعل أوفى بن مطر المازني الذي قتل أخاه ; لأنه فتك بمستجير به طمعاً في زوجته الجميلة التي كانت ترافقه .

وقد ينزل رجل صريح من غير الحلفاء على زعيم قبيلة فيصبح حليفه ويعقد بين الاثنين عهد وميثاق ، يشهد عليه الملأ ، وينصّ على بنود تقول : آ«دمي دمك ، وثأري ثأرك ، وحربي حربك ، وسلمي سلمك ، ترثني وأرثك ، وتطلب بي وأطلب بك ، وتعقل عني وأعقل عنكآ»(3) .

وللحليف واجبات : ألا يسيء مادياً أو معنوياً الى القبيلة المجيرة وإلاّ خلعته ، وتحللت من التزاماتها نحوه ، ومع ذلك لم يكن للحليف منزلة كمنزلة أبنائها الصرحاء ، ذلك أن ديته نصف دية الفرد الصريح منها .

الخلع والخلعاء :

وفي مقابل ما يرفد القبيلة من عناصر خارجة عنها ، هناك من التقاليد المعروفة عند العرب ما يقضي بأن القبيلة تستطيع أن تخلع أي فرد من أفرادها ولو

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أحمد إبراهيم الشريف/المصدر نفسه/ص37 ـ 39 .

(2) في لسان العرب : الحليف هو من انضم الى شخص فعزّ بعزه وامتنع بمنعته .

(3) أحمد إبراهيم الشريف : المصدر نفسه : ص43 ـ 44 .



--------------------------------------------------------------------------------

--[275]--

كانوا من الصرحاء ، ويسمى هؤلاء بالخلعاء (مفردها خليع ويطلق عليه ايضا اسم لعين) .

والخَلْع في المجتمع القبلي شبيه باسقاط الجنسية عن المواطن في عصرنا الحاضر ، ويجري الخلع لأسباب :

1 ـ إذا قتل فرد ما شخصاً آخر من قبيلة ، ورفض ذوو المقتول قبول الدية ، عندئذ تصبح القبيلة ، بشخص زعيمها مضطرة لقتل القاتل ، أو خلعه حفاظاً على وحدة القبيلة .

2 ـ لما كانت القبيلة مسؤولة عن أعمال أفرادها ، تضطر أحيانا الى خلع من يسيء منهم اليها ، بكثرة اعتدائه وجرائره ضد القبائل الأخرى ، التي تَحْملُها أفعاله على شن الغارات الثأرية ضدها مفضلة أن تضحي بفرد بدلا من جماعات منها .

3 ـ وتخلع القبيلة كلّ من يلحق بها العار بأعماله اللاأخلاقية والمشينة ، التي تعتبرها لوثة في جبينها .

يذاع الخلع بطرق عديدة في المواسم والأسواق بالمناداة أو الكتابة . وكان الرجل يأتي بابنه الى المواسم ويقول : آ«ألا إني قد خلعت ابني هذا فإن جُرَّ (أي أخذ بجريرة) لم أضمن ، وإن جُرَّ عليه (أي قتل) لم أطلبآ»(1) فلا يؤخذ الأب بجرائر ابنه الخليع . ومن وقتها تصبح قبيلته في حلّ من أعماله ، وتسقط حقوقه عليها ، ويحرم عليه البقاء فيها ، فيذهب ملتجئاً الى غيرها .

وأما إذا كانت شروره ومآثمه كثيرة فنادراً ما يلقى مجيراً ويصبح الأمر خطيراً بالنسبة إليه ، إذ يجد نفسه في موقف حرج ووضع شاذ(2) .

وقد يتكتل الخلعاء ، ويطلق عليهم أيضا اسم (ذُؤبان العرب) بضروب من الشجاعة والإقدام وعدم المبالاة بالحياة ، بحيث كان بعض الرؤساء والزعماء يستخدمونهم للفتك بخصومهم ، وقد انضم قسم منهم الى امرىء القيس الشاعر الكندي عندما نهض مع قبيلة بكر للأخذ بثأر أبيه من قبيلة أسد .


ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الآلوسي : 3/27 .

(2) أحمد إبراهيم الشريف : المصدر نفسه : ص 31 ـ 36 .



--------------------------------------------------------------------------------

--[276]--

كما كانوا متحللين من العصبية القبلية ، لا يفرّقون بين قبيلتهم وغيرها ، من حيث الإغارة عليه والسطو على أموالها ، وإن كانوا في أغلب الأحيان يؤثرون التمركز في المناطق المجاورة للأسواق التجارية أو طرق القوافل التجارية ، بحيث يغيرون عليها ، ويُعملون يد السلب والنهب فيها(1) .

وقد اشتهر منهم عدد من الشعراء الذين اطلق عليهم اسم (الشعراء الصعاليك) ، والذين مارسوا هذه الأعمال ، مثل (الشنفري) و(عروة بن الورد) ، الذي اشتهر بعلوّ الأخلاق والجود والكرم ، ينفق مايسلبه على الفقراء والمعوزين . ومنهم (تأبط شرا) و(السليك بن السلكة) و(جعفر بن علية) .

والشعراء الصعاليك كانوا على العموم كرماء يتصفون بالشهامة والمروءة والأنفة . وفي شعر (للشنفري) ما يبسط لنا بعض الصفات الخلقية لهؤلاء الشعراء ، حيث يخاطب بني قومه الذين آذوه ، بأبيات من قصيدته المعروفة باسم (لامية العرب)(2) .

الأسرة :

إن الوحدة الاجتماعية في البادية والحضر معاً هي القبيلة ، وركن القبيلة هي الأسرة ، والرجل هو عماد الأسرة وربّها وصاحب نسبها ، والعلاقة الاجتماعية بين أفراد الأسرة كانت قائمة على أساس التضامن الوثيق بين أفرادها كتضامن أسر القبيلة ضد القبائل الأخرى .

فالعلاقات في المجتمع العربي تقوم على أساس التضامن المتسلسل الصاعد ، اعتبارا من أفراد الأسرة ثم الأفخاذ فالبطون فالعشائر ، ثم الأحلاف ، وللنسب دخل كبير في هذا التضامن ، وهو الذي نسميه بالعصبية القبلية .

الزواج :

كانت الأسرة تقوم على أساس الزواج بعقد وبمهر معين ، يدفعه الزوج بعد رضا أولياء الفتاة ورضاها في بعض الأحيان ، وهو مايسمى بزواج المهر ، أو زواج

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جواد علي : المصدر السابق : 1/369 .

(2) أقيموا بني قومي صدور مطيّكم *** فإني الى قوم سواكم لأميلُ

فقد خمّت الحاجات والليل مقمر *** وشُدّت لطيّات مطايا وأرحُلُ

وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى *** وفيها لمن خاف القلى متعزّلُ

لعمرك مافي الأرض ضيق على امرئ *** سرى راغباً أو راهباً وهو يعقلُ



--------------------------------------------------------------------------------

--[277]--

البعولة ، وقد يغالي بعض الآباء في قيمة المهر مغالاة شديدة ، على أنه ذكرت الى جانب هذا أنواع أخرى من الزواج منها زواج السبي من نساء العدو الأسيرات ، ولا يشترط فيه رضا الفتاة أو المهر ، ثم زواج الإماء ، ويكون بشراء أمة تكون هي وأولادها منه ملك يمينه إلاّ إذا أعتقهم . وهذه الانواع من الزواج كان يقرّها المجتمع الجاهلي ، وقد أقرّها المجتمع الإسلامي بعد ذلك مع شيء من التعديل ، من حيث تحديد تعدّد الزوجات ، والتشجيع على عتق الإماء .

ومن أنواع الزواج التي عرفت في الجاهلية (زواج الشغار) ، وذلك بأن يتفق رجلان على أن يتزوج كلّ منهما قريبة الآخر ، ممن له عليها حقّ الولاية كالأخت أو الابنة ، وبدون مهر(1) وفي ذلك ما فيه من عدم احترام المرأة وحقوقها ، ولم يكن شائعاً شيوعاً كبيراً . وقريب منه (نكاح البدل) كأن ينزل رجلان كلّ منهما للآخر عن زوجته ، وهو لا يقتضي المهر .

وقد عرف في الجاهلية نكاح (الخدن) (المخادنة) كأن يتخذ رجل صديقة له (خليلة) .

ومن انواع الزواج التي استهجنها المجتمع الجاهلي أيضاً ، (زواج المقت) ، ويكون بأن يرث الابن الأكبر زوجة أبيه ، إذا لم يكن لها أولاد منه ، كما يرث المتاع ،إلاّ إذا افتدت نفسها من الورثة برضا منهم ، وإذا أراد زوّجها من أحد إخوته بمهر جديد ، وما ذلك إلاّ لأن الزواج كان يعني أن تقطع المرأة صلتها بأبيها واخوتها ، فإذا لم تكن ذات ولد ساءت حالتها ولم تجد من يعيلها(2) والمعتقد أن هذا النوع من الزواج كان نادر الوقوع ، ومقصوراً على فئات خاصة ضئيلة من السكان .

وقد سمي باسم آ«زواج المقتآ» لأنه كان ممقوتاً ، والولد الذي يكون ثمرته يسمى (مقيت) . أما الرجل الذي يخلف أباه على امرأته إذا طلقها أومات عنها أو يزاحم أباه على امرأته فكانوا يطلقون عليه اسم (الضيزن) أي الشريك أو المزاحم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الآلوسي : مصدر سابق : 2/3 ـ 5 .

(2) د . أحمد شلبي : التاريخ الاسلامي والحضارة الإسلامية : 1/79 . د . جواد علي : مصدر سابق : 5/274 .



--------------------------------------------------------------------------------

--[278]--

عند الاستسقاء . وقد حرّم المجتمع الجاهلي زواج الاب بابنته ، والزواج بالأمهات والأخوات والعمات والخالات وبنات الاخت وزوجات الأبناء . لكن زواج الرجل باختين تكونان معاً في عصمته كان مباحاً .

ويضاف الى العادات التي كانت معروفة عند العرب في الجاهلية أن أحدهم إذا تقابل مع آخر من غير قبيلته ومعه ظعينة قاتَلهُ عليها ، وإن تمكّن أخذها منه ، واستحلّها لنفسه .

كما أن الجاهليين قد اعتبروا الاتصال الجنسي بين الرجل والمرأة بدون عقد ضرباً من الزنى ، فيقولون للمرأة عندئذ إنها بغي وزانية وفاجرة وعاهرة ومسافحة(1) .

ولم يكن عدد الزوجات محدّداً ، بل كان للجاهلي أن يعدد من الزوجات ما يشاء ، مدفوعاً الى ذلك بعوامل شتى ، قد تكون شخصية بحتة أو إنسانية ، كأن يدخل في عصمته نساء لا معيل لهنّ ، أو سياسية بأن يُصهر الى عدد كبير من القبائل ، تناصره عند الحاجة .

الطلاق :

كان الطلاق من حقّ الرجل يستعمله متى شاء ، لأي سبب أو حتى بدون سبب . وكان العرف يقضي بأن الرجل إذا طلّق زوجته واحدة كان أحق الناس بها . أما إذا استوفى الثلاث انقطع السبيل عنها ، فالطلاق ثلاثاً معناه الفرقة التامة بين الزوجين(2) على ان هناك من النسوة من كنّ يشترطن عند الزواج أن يكون لهنّ الحق في الطلاق إذا أردن .

وكانت المرأة إذا أرادت أن تطلّق زوجها غيّرت باب قبائها ، فإن كان قِبَل المشرق جعلته قِبَل المغرب ، فإذا رأى الزوج ذلك عرف أنها قد طلقته فلم يأتها ، لكنّ ذلك لم يكن ليحصنهنّ من تطليق أزواجهنّ لهنّ إذا أرادوا .

وإذا طُلقت الزوجة أو مات عنها زوجها أُلزمت بقضاء العدة حتى يتبيّن ما


ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جواد علي : 5/254 ـ 258 .

(2) الآلوسي : 2/49 .



--------------------------------------------------------------------------------

--[279]--

إذا كانت حاملا أم غير حامل ، خوفاً من أن تختلط الأنساب فيما لو تزوجت قبل انقضاء العدة(1) .

العلاقات ضمن الأسرة :

لقد اختلف الباحثون المحدثون حول وضع المرأة الاجتماعي في العهد الجاهلي ، وقد استنتج بعضهم(2) من الآيات القرآنية التي تدعو الى إحقاق حقوق المرأة ، وعدم إمساكها ضراراً إذا طُلّقت ـ كقوله تعالى : }وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهنّ{(3) و}يا أيها الذين آمنوا لا يحلّ لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهنّ لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ . . .{(4) ـ أنها كانت مضطهدة ، يُبْغى عليها ويستهان شأنها ، بينما استنتج آخرون من اخبار الجاهلية التى وصلت إلينا في كتب التاريخ والآداب القديمة ، أنها كانت تتمتع بمكانة مرموقة في المجتمع الجاهلي .

لكن الواقع أن موضوع مكانة المرأة في العصر الجاهلي ، يحتاج الى دراسة عميقة وشاملة ، ولا يمكن للباحث أن يعطي أحكاماً مطلقة موجزة عنه في ثنايا البحوث العامة . ومن الأخبار المتناثرة في بعض كتب الأدب نلمس أن علاقة الرجل بالمرأة في العهد الجاهلي كانت قائمة على الاحترام المتبادل في كثير من الأحيان ، إذ كانت تستشار في بعض الأمور وتشارك الرجل أكثر أعماله ، وتتمتع بقسط من الحرية . وبعض الآباء يستشيرون بناتهم في أمر زواجهنّ واختيار بعولتهنّ(5) .

لا نكران بأن الرجل في الأسرة الجاهلية كان له المركز الممتاز ، فهو قوام الأسرة وربّها والمسؤول عن حياتها ورزقها ومختلف شؤونها ، والمحارب المدافع عنها ، والمطالب بالثأر والغرامات ، وصاحب الكلمة النافذة ، والمرأة كانت تابعة له ، ومنسوبة إليه ، وتحت حمايته ومسؤوليته ، غير أنها كانت تشاطر الرجل كثيراً من مسؤولياته . وإذا كانت لا تغني غناء الرجل في الحروب ، والحروب هي أساس الحياة في المجتمع الجاهلي ، ولذلك تدنّت منزلتها عن منزلته ، إلاّ أنها كانت خير

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) جواد علي : 3/273 .

(2) محمد عزة دروزة : عصر النبي وبيئته قبل البعثة : 131 ـ 135 .

(3) البقرة : 232 .

(4) النساء : 19 .

(5) د . أحمد شلبي : مصدر سابق : ص77 . والشيخ محمد الخضري : محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية : 1/17 ـ 20 .



--------------------------------------------------------------------------------

--[280]--

رفيق له وخير عون ، وكانت تجيد من الفنون ما يجعلها في مستوى يلائمه ، بالاضافة الى قيامها بواجباتها كأمّ ومربية للأطفال ، وكانوا يسمونها ربة المنزل تكريماً لها(1) .

وفي الروايات القديمة أن المرأة مارست الكهانة والعرافة كالرجل ، وكان الرجال يلجأون الى رأيها في معضلات الامور .

والمرأة الجاهلية فوق ذلك كانت تشعر بسخصيتها وبمكانتها في المجتمع ، وتحرص على مكانتها من أن تُهان .

ومما تجدر الإشارة إليه أن العرب لم يكونوا يزوّجون بناتهم من غير العرب ، وأن الفتيات البدويات لم يكنّ يُحبِبن الزواج في الحضر ، وأن المرأة المرغوب فيها هي الولود التي تنجب كثيراً من البنين ; لأنهم عماد الأسرة العربية ، التي اعتادت أن تعيش في حراسة السواعد المفتولة والرماح السمهرية .

كان العربي يغار على نسائه ، ويحرص عليهن ، ويعتبر العرض أغلى من النفس والمال والولد(2) .

ولذلك كان الرجال يصطحبون نساءهم في الغزوات والحروب ، ويجعلونهن في مؤخرة الجيش ، خوفا من مباغتة العدو لهنّ في مضارب القبيلة والرجال غائبون ، وكي يدرك المحارب ، بأن هزيمته ستجعل عرضه مباحاً لأعدائه فيستميت في القتال; ليُجنّب نساءه السبي . وفضلا عن ذلك فإن النساء في المؤخرة كنّ يعنين بالمرضى ويضّمدن جراح المصابين ، كما يشجعن المحاربين ، ويأخذن بتلابيب الفارّين من ساحة القتال .

معاملة الأولاد :

إن أولوية الرجل في الأسرة الجاهلية ، قد جعلت للأب سلطة على أفراد عائلته ، وقد تصل الى حدّ تجعل للآباء على أولادهم حقّ التصرف بمصائرهم ، ففي بعض الأحيان ، كانوا يجعلون أولادهم رهائن في أيدي خصومهم ، فيؤدي ذلك

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يقول أحدهم :

يا ربة البيت قومي غير صاغرة *** ضمّي إليك رحال القوم والقربا

(2) المعتقد أن الجاهليين يعاقبون الزانية بالرجم فجاء الإسلام وأقرّ ذلك .



--------------------------------------------------------------------------------

--[281]--

أحيانا الى قتل هؤلاء لهم ، وإذا استثنينا هذه الحالة الشاذة ، ومثلها ما كان من وأد البنات ، فإن العربي كان يعامل أبناءه معاملة تنطوي على اللطف والحنان والمحبة(1) مع حرصه على تربيتهم تربية خشنة ، تؤدي بهم الى استكمال أسباب القوة ، ليكونوا درعاً حصيناً له ولقبيلته . وكان الآباء يتخيّرون لأبنائهم الأسماء التي تدل على الخشونة ، أو توحي بالتفاؤل بالظفر على الأعداء مثل : كلب ، أسد ، فهر ، صخر ، غلاب ، ضرار ، حنظلة ، حرب ، بينما كانوا يتخيّرون لأرقائهم أسماء جميلة مثل : سهيل ، ميسور ، وهانىء ، نجاح ، فلاح ونحو ذلك .

كان الجاهليون يُفضلون من المواليد البنين على البنات ، وقد دعاهم الى ذلك عوامل عديدة ، فالأولاد يصبحون في المستقبل محاربين ، تعتمد عليهم القبيلة في الدفاع عن حوزتها ، وفي الكسب ، بينما تكون البنت عبئاً ثقيلا تحتاج الى حماية ، أو قد تجلب العار الى قبيلتها ، فيما إذا تعرّضت للسبي . تقول الآية الكريمة : }وإذا بُشّر أحدهم بالأنثى ظلّ وجهه مسوداً وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بُشر به أيمسكه على هون أم يدسّه في التراب ألا ساء ما يحكمون {(2) .

وكذلك جاء في قوله تعالى : }وإذا بُشّر أحدُهم بما ضرب للرحمن مثلا ظلّ وجهه مسوداً وهو كظيم أَوَ مَن يُنَشَّؤا في الحِلية وهو في الخصام غيرُ مبين . .{(3) }وإذا الموؤدة سئلت * بأي ذنب قُتلت{(4) .

يتضح لنا من هذه الآيات أن العرب كانوا يفضلون البنين على البنات ، وأنهم كانوا يئدون البنات ، وقد لمس الباحثون أسباباً أخرى للوأد منها الإملاق كما في الآية : }ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم{(5) ، وعدم القدرة على إعالة الأولاد ، أو الحرص على صيانة العرض ، وخشية أن يلحق القبيلة عار من السبي .

وعلى كلّ حال لم يكن الوأد شاملا ، بل اقتصر على بعض الأوساط المتردية مادياً واجتماعياً ، ولا سيما في سني القحط والمجاعة ، وفي البوادي القاحلة ، ويروى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كقول احد شعراء الجاهلية:

وانما أولادنا بيننا *** أكبادنا تمشي على الارضِ

(2) النحل : 58 ـ 59 .

(3) الزخرف : 17 ـ 18 .

(4) التكوير : 8 ـ 9 .

(5) الأنعام : 151 .



--------------------------------------------------------------------------------

--[282]--

أنه قد اقتصر على بعض الحالات في بعض بطون قبيلتي تميم وأسد(1) ، كحالة ولادة مولود مشوّه ، أو إذا كان الوالد فقيراً ، أو كثير العيال ، أو كان مع فقره مئناثاً ، وفوق ذلك لا يستطيع الدفاع عن حريمه لضعفه .

ومع ذلك كان هناك ما يحدّ من هذه العادة السيئة ، كإقدام ذوي الشهامة والمروءة على تبني أولاد ليسوا من صلبهم ، يجعلون لهم مثلما لأولادهم من حقوق ، وانقاذ المجتمع من عادة الوأد . فالشاعر الفرزدق كان يفتخر بأن جدّه (غالب بن صعصعة) ، كان يُعرف في الجاهلية أنه محيى الموؤدات .

الإرث :

كان الإرث من حقّ الرجل فقط ، وقد حُرمت منه المرأة والأولاد الصغار والجواري والبنات . ويظهر أن هذا الحق قد خُصّ به الذين يركبون الخيل ويحملون السلاح ، وقاعدتهم في ذلك آ«لا يرث الرجلَ من ولده إلاّ من أطاق القتالآ»(2) .

وللرجال أن يرثوا من النساء ، وأن يرثوهن أنفسهن ، كما يرثون المتاع (يرث الابن الأكبر زوجات أبيه) . ومَن مات عن بنات ولم يكن له أبناء ذكور يرثه إخوته ، وتحرم بناته من ميراثه . ولكن يظهر أن حرمان المرأة من الميراث ، لم يكن عاماً في جميع القبائل ، بل إن بعضها كانت تعطي النساء الحق في الإرث(3) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) محمد الخضري : مصدر سابق : ص21 .

(2) د . جواد علي : مصدر سابق : 274 .

(3) د . جواد علي : مصدر سابق : 6 : 328 ـ 329 .

منقوول





hgh,qhu hgh[jlhudm td hg[.dvm hguvfdm > frgl Hpl] hg,hs'd