علم التفسير كيف نشأ وتطور حتى انتهى إلى عصرنا الحاضر لعبد المنعم النمر

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله الذى نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدرسول الله الذى أنزل عليه القرآن هدى وشفاء لما فى الصدور وعلى آله وأصحابهوالتابعين الذين أدوا رسالتهم فى حفظ كتابهم والحفاظ على تعاليمه وبعد. فالعلومكأى كائن حى يبدأ صغيرا ثم ينمو ويتزايد، ومنذ نزل القرآن قامت على شواطئه علومتخدمه وتوضحه، وتبين تعاليمه ومبادئه. وكان من الطبيعى أن تشرئب النفوس لمعرفةمعانى القرآن الكريم، منذ نزل على رسول الله .. يعرف العرب بسليقتهم ما يعرفونويسألون الرسول عما أغلق عليهم فهمه ويحتاجون لتوضيحه. وحين اتسعت رقعة الدولةالإسلامية من أول عهد الخلفاء الراشدين ودخل غير العرب في الإسلام، كانوا أشداحتياجا إلى معرفة معانى القرآن ..
وإذا كانت الحاجة أم الاختراع كما يقال. فقد كانت حاجة المسلمين ولا سيما الداخلينالجدد فى الإسلام إلى معرفة معانى القرآن سببا فى الكلام عن تفسيره كما كانتالثقافات التى اختلطت بثقافة المسلمين الأصيلة سببا فى احتكاكات العقول، وتعددمشاربها من القرآن ..
وكان العلماء المسلمون فى كل زمن يلبون حاجة المسلمين إلى فهم كتابهم سواءبالتدريس أو بالتأليف والتدوين حين بدأ عهد التدوين ..
كيف نشأ علم التفسير، وكيف تطور، وماذا كان يحكم المفسرين حين يعمدون إلى التفسيرأو ما هى مذاهبهم ومناحيهم فى التفسير .. وإلى أى مدى يمكن أن يخدم العلموالمكتشفات العلمية الحديثة علم التفسير .. وهل قام المسلمون بتوصيل معانى القرآنإلى غير العرب وإلى أى مدى كان جهدهم فى هذه الناحية؟

ذلك ما أحببتأن أقدمه لك فى هذه الصفحات دون تطويل يصرفك عن الكتاب والله المستعان
40 صالح حقى. مصر الجديدة. الدكتور عبد المنعم النمر

تمهيد:الإسلام والعلوم
ما دمنا سنتكلم عن بعض علوم الدين عند المسلمين، فإن هذا يقتضينا أن نقدم بكلمةموجزة عن نظرة الإسلام إلى العلم بكل أنواعه وموضوعاته، لا سيما بعد أن ألقى علىموقف الإسلام من العلم شىء من الظلال، ولا سيما فى العصور المتأخرة، وعند بعضالغربيين. متأثرين بفكرتهم عن المسيحية وموقفها العدائى- فى بعض العصور- منالعلوم.
فالعلم فى نظر الإسلام: هو كل ما يمكن ويطلب أن يعرف ويعلم، مهما يكن موضوع هذهالمعرفة، ومهما تكن وسائلها، وإن كان فى مقدمة هذه الموضوعات ما يعرفه بربه- عقيدةونظاما- ويقربه إليه .. باعتبار أن ذلك هو مفتاح الحياة الحقيقية الهادفة للإنسان،ومفتاح الانطلاق فى كل جانب من جوانبها على هدى وبصيرة.
فحين مدح الله العلماء ورفع درجاتهم لم يخصص العلماء بعلوم الدين، بل أطلق وعممفقال: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَدَرَجاتٍ (1). وحين قارن بين العلماء والجهال أطلق وعمم كذلك .. فقال:
هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (2) وحين حددالذين يخشونه ويعرفونه قال: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ(3) وقد جاء هذا عقب آيات تلفت الأنظار إلى التأمل والتدبر فيما خلقه الله من ماءوثمرات ودواب وجبال وإنسان الخ .. ليصل المتأمل إلى الإيمان بالله وعظمته مما يميلبمفهوم العلماء هنا إلى العلماء الباحثين المتدبرين فى هذه المخلوقات مما يطلقعليه الآن علوم الفضاء والجو، وعلم النبات، والحيوان، والجيولوجيا .. الخ .. لأنهؤلاء أكثر اطلاعا على أسرار الكون وعظمة صنع الخالق ..
__________
(1) سورة المجادلة/ 11.
(2) الزمر/ 9.
(3) فاطر/ 28.

وقد كثرت فىالقرآن الآيات التى تعرض مظاهر الكون ويأتى فى آخرها حث أصحاب العقول على التدبرفيها ليصلوا إلى ما وراءها ويبدأ التدبر من نظرة سطحية ينظرها الإنسان العادى فيجدعظمة الله فى كل شىء، إلى النظرة المتعمقة القائمة على العلم ولو ببعض التفاصيلوالسنن فى هذه المخلوقات. وهذا يفتح الباب للمؤمن لكى يتعلم وينظر ويتدبر ويتعمقلتأتى نظرته فيها عمق، وفيها اعتبار أكثر .. مما جعل علماء الإسلام يقولون، إن هذايفرض على المسلمين تعلم العلوم التى تتيح لهم الوصول إلى دقائق صنع الله فيما خلقه.. من أجل غاية عليا هى تعميق الإيمان فى القلوب، وهذا بالتالى يبعد هذه العلوم عنأن تكون وسيلة للشر والإيذاء، مما يحصل مثله الآن ولا سيما أثناء الحروب ..
وإذا انتقلنا بعد ذلك إلى أحاديث رسول الله وهى الموضحة والمفسرة للقرآن وأغراضه،نجد الأحاديث تحض المسلمين على التعليم وتبين فضل العلماء، ولا تقيد العلم
بفرع دون آخر.
«فالحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها» رواه الترمذى ..
والحكمة تعنى هنا كل علم نافع.
«اطلبوا العلم ولو فى الصين» وقد روى من طرق يقوى بعضها بعضا ..
«إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع» رواه أبو داود والترمذى
«من سلك طريقا يبتغى به علما سهل الله به طريقا إلى الجنة» رواه أبو داود والترمذى
«من خرج فى طلب العلم فهو فى سبيل الله حتى يرجع» رواه مسلم والترمذى
«الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما ومتعلما» رواهالترمذى
«فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب» وفى رواية كفضلى على أدناكم.. رواه الترمذى
«طلب العلم فريضة على كل مسلم» «البيهقى وغيره»

ففي هذهالأحاديث وغيرها كثير لم يحدد العلم بعلم خاص، فهو مطلق العلم فى أى فرع منالفروع، مراعيا فى تعلمه تقوى الله، ونفع النفس والعباد.
وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم من وسائل فداء أسرى بدر، أن يعلموا المسلمينالقراءة والكتابة.
وأمر صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت رضى الله عنه، أن يتعلم لغة اليهود- بعد ماحدث منهم، ولم يعد يأمن جانبهم، وهذا الفهم العام الواسع لمعنى العلم هو الذى كانسائدا فى تلك الأيام، ولم يكن محددا كما هو الحال عندنا عند ما قسمنا المواد إلىعلوم، ورياضة، وآداب، وفن. و. و .. الخ .. والقرآن يقول: «وفوق كل ذى علم عليم»ويقول على لسان قارون: «إنما أوتيته على علم عندى» ويقول: «ولقد آتينا داودوسليمان علما» .. وكل هذا علم عام.
وفى علوم الدين خاصة، وردت الآية الكريمة
فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِيالدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْيَحْذَرُونَ 122 (1)
ليسد هؤلاء المتعلمون المتفقهون حاجة المسلمين إلى معرفة أمور دينهم.
ومن هذه الآية أيضا يمكن الانطلاق إلى العلم وإلى التخصص فى كل فرع تحتاج إليهالأمة فى أمور حياتها.
وهكذا يدفع الإسلام المسلمين دفعا إلى طلب العلم والتبحّر فيه، دون أن يحدد نوع أوفرع هذا العلم، فالحكمة والمعرفة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها ..
__________
(1) التوبة/ 122.

نهضة المسلمين العلمية
وعلى هذا الأساس من الفهم المستقيم لمعنى العلم، انطلق المسلمون إلى العبّ منالمعرفة، بشتى ألوانها وموضوعاتها دون أى تحرج من تعلم أى علم، حتى ولو كان شرا أوفيه شر .. ومنطقهم فى هذا كما يقول أحدهم:
وأعرف الشر لا للشر ... ولكن لتوقيه
فمن لا يعرف الشر ... من الخير يقع فيه
وكان من الطبيعى أن يبدءوا بمعرفة ما يتصل بدينهم من فهم القرآن، وأحكام العبادات،والمعاملات التى جاء بها الإسلام، من واقع إخلاصهم لدينهم. وحرصهم على تطبيقه فىحياتهم .. ثم انطلقوا بعد ذلك ومعه إلى كل علم، وكل فن لم يقفوا عند حد فيه ولميتحرجوا من العبّ منه .. على اعتبار أن ذلك مما يأمرهم به دينهم أو على الأقل ممايرضى عنه .. حتى كنا نجد العالم منهم بجوار إحاطته بعلوم التفسير والحديث والفقه،وعلم الكلام متبحرا فى الطب، وفى الفلسفة، وفى الموسيقى .. وفى اللغة، والأدب،ونذكر نموذجا لهذا النوع من العلماء. الإمام فخر الدين محمد عمر بن الخطيب الرازىالمولود فى سنة 453 هـ والمتوفى سنة 606 هـ، فقد صدرت عنه كتب فى: التفسير، وعلمالكلام، والأصول والفقه، والنحو والأدب، والفلسفة، والطب والهندسة، والفلك، بجوارمعارفه التى لم يصدر فيها كتب، ويعتبر تفسيره موسوعة عامة فى مختلف العلوم معالتفسير.
فكان العالم بالطب أو الهندسة، أو الفلك أو بها جميعها عالما أيضا فى شئون الدين،واللغة والأدب، مما يشبه أن يكون عالما موسوعيا يجمع بين أطراف العلوم المختلفة فىموضوعاتها .. لم يروا بحكم دينهم وتدينهم أن هناك شيئا يحد من تعلمهم ومن تبحرهمفى علوم أخرى بجوار العلوم المتصلة بالتفسير والحديث واللغة .. كلها علوم يدعوهمدينهم إلى معرفتها.
ولذلك وجدنا فطاحل من علماء المسلمين، فى كل فرع من فروع العلم ..

ويذكر «روملاندو» فى كتابه «الإسلام والغرب» (1) تحليلا لذلك بعد أن يدركه ويعجب به، ويرى أنالدافع إليه عند المسلمين:
رغبة متقدة فى اكتساب فهم أعمق للعالم كما خلقه الله.
قبول للعالم المادى لا بوصفه دون العالم الروحى شأنا ومقاما، ولكن بوصفه صنوا لهفى الصحة والسوخ.
واقعية قوية تعكس فى صدق وإخلاص طبيعة العقل العربى اللاعاطفى.
فضولهم الفهم الذى لا يعرف الشبع فى المعرفة.
وأخيرا وأولا أن الدين والعلم فى نظر الإسلام لم يول كل منهما ظهره للآخر، ويتخذطريقا معاكسا، بل كان الأول عندهم باعثا من البواعث الرئيسية للثانى.
اعتقادهم بأن كل ما فى الوجود صادر عن الله، وكاشف عن قدرته، ولذا فهو جديربالمعرفة والتأمل: من وجد الصوفى إلى قرصة البعوضة، إلى انطلاق السهم، إلى مرضالطاعون. إلى غير ذلك من المظاهر، كله من الله، فيجب أن يدرس ويعرف حق المعرفة.
وقد روى أن عمر بن الحسام كان يقرأ يوما كتاب «المجسطى» فى الرياضيات السماوية«الفلك» لبطليموس على أستاذه الأبهرى، فدخل عليهما بعض الفقهاء، فقال لهما: ماالذى تقرءانه؟ فقال الأبهرى: «أفسر آية من القرآن الكريم وهى قوله تعالى:
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاهاوَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (2)
فأنا أفسر كيفية بنائها.
فهكذا كان الربط عندهم بين العلوم المختلفة والقرآن الكريم .. فكلها نابع منه،وخادم له.
__________
(1) ص 246.
(2) سورة ق/ 6.

ولذلك يعلقالإمام فخر الدين الرازى على هذه الرواية، فيقول بعد أن أوردها: «ولقد صدق الأبهرىفيما قال، فإن كل من كان أكثر توغلا فى بحار مخلوقات الله كان أكثر علما بجلالالله وعظمته»
والله الذى يحب المؤمنين الأقوياء كما يعلمنا رسول الله، كيف يكونون كذلك إذا لميتعلموا كل ما يوفر لهم هذه القوة؟
والله الذى أمرهم أن يعدوا لأعدائهم ما يستطيعون من القوة لكى يسكتوهم ويرهبوهم عنالتعرض لهم ..
والله الذى جعل العزة له ولرسوله وللمؤمنين.
كيف يمكن أن يكون ذلك كله واقعا كما يحب الله ويرضى دون أن يكون المسلمون على أكبرقدر من العلوم المختلفة التى يحتاجونها فى صلاتهم بربهم، وفى صلاتهم مع الناس، وفىسيطرتهم على الطبيعة، وتسخيرهم لها؟
كيف يكونون ملبين أمر ربهم «وأعدوا لهم» إذا لم يكونوا أسبق الناس جميعا فى معرفةأسرار الكون، وفى صنع القنابل والصواريخ .. وغير ذلك من أحدث وسائل القوة، وإذا لميكونوا المبرزين فى علوم الفضاء والبحار، والزراعة وفى الصناعة والصحة، وفى كل مايوفر للإنسان القوة والصحة فى كل جانب؟ والمؤمن القوى خير وأحب الى الله من المؤمنالضعيف.
ومن هنا سار الدين مع العلم فى طريق واحد .. وكان الدين هو القاطرة التى تجرمقطورات العلم، وخزائنه المتنوعة. وكلها تكون قطارا واحدا، أو قافلة واحدة فىالحياة تسير باسم الله.
وقد أنتج هذا نهضة علمية وحضارية أضاءت الدنيا، ومهدت الطريق للنهضة الأوروبيةالحديثة .. وحمل هذه النهضة، أو أضاء شمعتها، رجال مؤمنون بربهم، على مختلفمستوياتهم، واتجاهاتهم .. لا يزال الكثير منهم درة فى تاج الإنسانية.
نذكر منهم على سبيل المثال: عالمنا «أبا الريحان البيرونى» 362 هـ- 973 م وتوفىسنة 440 هـ- 1048 م .. ونبوغه فى عدة علوم كان من أهمها الفلك

والرياضة،يقول عنه المستشرق الألمانى الذى نشر كتبه: إن البيرونى هو أعظم عقلية ظهرت فىالتاريخ، لا فى الشرق وحده، ولا فى الغرب وحده، ولا فى القديم وحده، ولا فى العصورالمتوسطة ولا العصور الحديثة، إنه أكبر عقلية ظهرت فى التاريخ.
هذا العالم الفذ الذى سبق الأفكار كلها فى عالم الرياضة والفلك، كان من كبارالعلماء المشتغلين بعلوم الدين أيضا، حتى ليروى أحد أصدقائه أنه ذهب ليزوره، وهوعلى فراش الموت وفى النزع الأخير، فحين رآه قال له: لقد كنا نتحدث فى يوم منالأيام عن الجدات الفاسدات (اصطلاح فقهى للجدود من ناحية الأم)، فإلام انتهينا منأمرها؟
فقال له صاحبه: أفى هذه الحالة، وهذه الظروف تسأل عن الجدات الفاسدات؟
فقال له البيرونى لأن ألقى الله وأنا من العالمين بها، خير من أن ألقاه وأنابها منالجاهلين»
وتحدثا سويا فى الموضوع ثم خرج الزائر الصديق، ولم يبعد إلا قليلا عن البيت، حتىسمع الصراخ لموت البيرونى.
هذه الواقعة التى كانت آخر تحرك علمى فى حياته، ترينا لماذا كان أعظم عقلية، وأعظمعالم فى التاريخ .. ثم ترينا الحافز الدينى الذى كان يدفعه ويدفع أمثاله إلى العبّ
من العلم بكل أنواعه .. فكان مع نبوغه فى الفلك والرياضيات وغيرها، متبحرا كذلك فىالعلوم المتصلة بدينه وأحكامه، لأنه لم يكن هناك أى حاجز بينها، بل كان بعضها يغذىبعضا ويقويه ..
وكان «الكندى» أبو يوسف يعقوب بن إسحاق 185 هـ 801 م المتوفى سنة 251 هـ- 865 م،الفيلسوف العربى المولود بالكوفة، كان ملما بعلوم الدين، بجوار اشتهاره بالفلسفةوالرياضيات والطبيعيات والفلك، والطب والجغرافيا، والموسيقى وكان لحبه لدينهوغرامه بالفلسفة معنيا بالتوفيق بينهما.
يقول عنه الغربيون الذين درسوا كتبه: «إنه أحد ثمانية هم على وجه الإطلاق النابغونفى العالم».

كان مع دراستهوإحاطته بعلوم الدين، أحد ثمانية من النابغين فى العالم فى الرياضة، وكان طبيباناجحا وموسيقيا يعلم الموسيقى ويعزف، ويتخذها إحدى وسائل العلاج، مما وصل إليهالعلم أخيرا.
وابن الهيثم (أبو على الحسن، ولد بالبصرة سنة 355 هـ 965 م ورحل إلى مصر وأقام بهاوتوفى سنة 431 هـ- 1039 م فى عهد الدولة الفاطمية) كان نموذجا بل من أعلى النماذجفى النبوغ فى العلم بشتى فروعه، وإن كان قد اشتهر عنه نبوغه فى «علم البصريات» ولهنظريات وطرق فى البحث التجريبى سبق به كل علماء أوربا، وكان أستاذهم الذى عنهأخذوا، وبفضله عليهم اعترفوا ..
وابن سينا (أبو على الحسين بن عبد الله بن سينا، المولود قرب بخارى سنة 370 هـ 980م- والمتوفى سنة 428 هـ 1036) درس العلوم الشرعية والعقلية، حتى أصبح حجة فى الطبوالرياضة والفلسفة والموسيقى بجانب تبحره فى العلوم الدينية، ومحاولاته التوفيقبينها وبين الفلسفة.
تلك بعض النماذج للعلماء الذين جمعوا بين علوم الدين، والعلوم الأخرى التى نبغوافيها، وهناك مئات وآلاف من أمثالهم، نبغوا فى ظل الإسلام ..
وجمعوا بين علوم الدين واللغة، وبين العلوم الأخرى التى نسميها الآن علوما حديثة،وكل ذلك فى ظل الإسلام وبتوجيه منه، حتى ليقول العالم الفرنسى «سيديو»: لقد كانالمسلمون منفردين بالعلم فى تلك القرون المظلمة، فانتشر فى كل مكان وطئته أقدامهم،وكانوا هم السبب فى خروج أوربا من الظلمات إلى النور.
ويقول «بريفو» فى كتابه «تكوين الانسانية»: العلم هو أجل خدمة أسدتها الحضارةالعربية إلى العالم الحديث، فالعلم الأوربى مدين بوجوده للعرب.
ويتحدث السيد جمال الدين الأفغانى فى كتاب «خاطرات جمال الدين» للمخزومى، عما سبقإليه العرب ونبغوا فيه، فيذكر الكثير من اكتشافات العلماء الإسلاميين. كالجاذبيةوالمركز، ولم يكن المكتشف لهما «إسحاق نيوتن» وكذلك التحليل والتركيب، والفوسفور،واستحضاره، واستحضار

الأوكسجين،والإيدروجين، والآزوت، وحامض الكبريت والكبريت وغيرهما وقال: كل ذلك من مكتشفاتالعرب، وكان الأساتذة فى علم الكيمياء للجيل الثالث الهجرى هم: أحمد بن سلمةالمجريطى، وتلميذه ابن بشرون، وأبو السمح، وقد تقدمهم مثل جابر بن حيان الحرانى،ومن بعدهم زكريا أبو بكر الرازى وغيرهم.
وقالوا إن «بيكون» هو أول من جعل التجربة والمشاهدة قاعدة العلم العصرية، وأقامهامقام الرواية ... وذلك حق فى أوربا، وأما عند العرب فقد وضعوا هذه القاعدة لبناءالعلم عليها فى أواخر القرن الثانى الهجرى .. ومنها أخذ «بيكون» ويذكر «جوستافلوبون» أن القاعدة عند العرب كانت «جرب وشاهد ولاحظ تكن عارفا» وعند الأوربى إلىما بعد القرن العاشر المسيحى: «اقرأ فى الكتب وكرر ما يقول الأساتذة تكن عالما»
«وأما فى الكيمياء فلا يمكنك أن تعد مجربا واحدا عند اليونانيين، ولكنك تعد من المجربينمئين عند العرب، ولهذا عدت الكيمياء الحقيقية من اكتشاف العرب دون سواهم».
ويقول الفيلسوف «درابر» الأمريكى: تأخذنا الدهشة احيانا عند ما ننظر فى كتب العربفنجد آراء كنا نعتقد أنها لم تولد إلا فى زماننا.
ويقول الرئيس السابق للولايات المتحدة «أيزنهاور» فى خطاب له:
«إننى عند ما أتطلع إلى المستقبل أرى ظهور دول عربية حديثة سوف تقدم إلى القرنالحاضر مساهمات تفوق تلك التى لا نستطيع أن ننساها، إننا نذكر أن علوم الحسابوالجبر فى الغرب مدينة كثيرا للرياضيين العرب، كما أن الكثير من أسس علم الطب فىالعالم، وكذلك علم الفلك قد وضعه العرب». (1)
ذكرت هذا مختصرا قدر الإمكان، لنزيل من الأذهان ما علق بها أخيرا فى عصور الضعف منأن الإسلام يفرق بين العلوم، فيحتضن بعضها، ويحث على تعلمه، ويكره بعضها، ويكره أنيتعلمه المسلمون، وهو ما عرف فى عصور
__________
(1) نشرة الاستعلامات فى 10/ 2/ 1959.

الضعف بالعلومالحديثة، وليعلم المسلم وغيره من نصوص القرآن والسنة، ومن واقع المسلمين إبانالعصور الأولى، أن الإسلام يحتضن العلم على مختلف موضوعاته، وأن الواجب علىالمجتمع المسلم، أن يوفر لنفسه العلماء والصناع والزراع وغيرهم فى كل ناحية من نواحىالحياة .. فإذا خلا المجتمع من علماء أو متخصصين فى ناحية من النواحى، وجب وجوباشرعيا عينيا مؤكدا على ولى الأمر، العمل على توفير هذا التخصص للأمة، حتى لا تحتاجلغيرها، وتكون عالة عليه فى حياتها. يستوى فى ذلك كل علم، وكل حرفة ومهنة، وإن كانمن الضرورى- عقلا وشرعا- أن تكون هناك أولوية بين هذه العلوم حسب حاجة الأمةإليها، سواء فيما يتصل بعلاقتها مع ربها أو بعلاقتها مع الناس وتشكيل حياتها.
ولما كان الإسلام يضع قاعدة أولى للانطلاق إلى العمل فى الحياة وهى قاعدة الإيمان،ويبنى على هذه القاعدة تنظيم حياة الإنسان التنظيم الدقيق الإيجابى، كان من المهمأولا العناية بكيفية بناء هذه القاعدة وما يتفرع عنها من نظم لضبط حياة الإنسانواستقامتها.
ومن هنا كانت علوم الدين فى مقدمة العلوم التى يجب على الإنسان تحصيلها، وكان منالضرورى أن يوجد العلماء أو المعلمون، والمتخصصون الذين يتولون الإشراف والتوجيهلبناء هذه القاعدة وصيانتها.
ومن أجل هذا كانت عناية القرآن الخاصة بهذه المهمة، وكان النص عليها بذاتها، مع ماجاء من حث عام على العلم، ومدح للعلماء، ورفع لدرجاتهم.
. الخ ..
كان هذا التخصيص دليل عناية خاصة ببناء القاعدة الأساسية، فى حياة الفرد المسلم،وفى حياة الجماعة.
وذلك فى قوله تعالى «فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌلِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُواإِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» (1).
__________
(1) التوبة/ 122.

ذلك لأن لكلأمة قاعدة تنطلق منها إلى نهضتها، وإلى إثبات وجودها وقيمتها فى الحياة
والمسلمون لم يبدءوا حياتهم، ولم يخطوا الخطوة الأولى فى وجودهم، استجابة لفلسفةيضعها بشر، وإنما بدءوا حياتهم على أساس الإيمان بدين منزل من عند الله، وتوجيهرسول أرسله الله، وعلى هدى قرآن أنزله الله على رسوله .. واستمدوا من ذلك وجودهموكيانهم وشخصيتهم، وبنوا عليه كل تحركاتهم وسكناتهم، وشكلوا على هديه كل مظاهرحياتهم ..
فمن الضرورى والحالة هذه أن تكون عنايتهم الأولى مركزة على فهم دينهم، وفهم القرآنالذى يمثل العمود الفقرى فى حياتهم، وفهم ما يتصل بالعقيدة وسلامتها، وما يتصلبالأحكام فى العبادة والمعاملات، حتى تأتى أعمالهم طبقا لما يطلبه منهم دينهم ..
وقد برزت هذه الناحية فى حياة المسلمين بصورة طبيعية، سواء من جانب رسول الله صلىالله عليه وسلم، أو من جانبهم، فكانت عناية الرسول بتبليغهم ما أنزل عليه منالقرآن أولا بأول، وتطبيقه على نفسه، وعلى من حوله من أصحابه، وشرح ما يحتاجونإليه من شرح وبيان .. وكانت عنايتهم كذلك بتلقى ما نزل من القرآن، وحفظه ما أمكن،والحرص على ملازمة الرسول، وفهم توجيهاته، حتى كانوا يتناوبون حضور دروسه،ومصاحبته، والحاضر منهم فى نوبته يبلغ الغائب ما سمعه وعرفه .. حتى لا يفوت الواحدمنهم شىء نزل من القرآن، أو قاله الرسول .. مدفوعين إلى ذلك بقوة إيمانهم باللهورسوله، وحرصهم على أن تكون حياتهم صورة حية لما جاء به نبيهم ورسولهم، وطبقالتعاليم دينهم ..
كان دينهم هو كل شىء هو زادهم فى حياتهم، وهو رفيقهم حين يلقون ربهم .. وكانالقرآن- كما قلنا- يمثل العمود الفقرى لحياة المسلمين، فمن الطبيعى- والحالة هذه-ألا يغيب عنهم منه شىء، وكانوا يفهمون القرآن وتوجيهاته بسليقتهم العربية، فإذاأشكل عليهم منه أمر استوضحوه من رسول الله، أو سأل بعضهم من يظن أنه عارف به ..

وقد جاءالقرآن مغطيا لكل جوانب الحياة تفصيلا أو إجمالا، وزاده الرسول توضيحا وبياناوتفصيلا، استجابة لأمر الله وتوجيهه
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْوَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ 44 (1)
فلم يكن عجيبا، أن يركزوا كل حياتهم، ويوجهوا كل اهتمامهم إلى القرآن يلتمسون منهالرشد والهدى.
وكان أسلوب القرآن مع ذلك أسلوبا عربيا جديدا جاذبا أخاذا لم يسمع العرب الفصحاءمثله من قبل، ولم يتمالك أعتى المشركين من أن يصفه برغم معارضته له بقوله «إن لهلحلاوة، وإن عليه لطلاوة» كما لم يتمالك عمر بن الخطاب وهو فى ثورته ضد الرسول،وضد من اتبعه، من أن يلقى سلاحه، ويسلم حين سمع آيات منه من سورة «طه».
وكان العرب فى ذلك الوقت على أعلى درجة من الفصاحة، فلم يكن من الصعب عليهم، أنيفهموا القرآن، ويتذوقوا حلاوته .. وإن كانوا متفاوتين بالطبع فى مدى الفهموالإدراك .. وواقفين ضرورة عند بعض ألفاظ ومعلومات جديدة عليهم يحتاجون إلىتفسيرها وتجلية المراد منها.
وفى هذه الأرض الطيبة، وفى هذا المناخ، وضعت البذور الأولى لما كان يمكن أن نسميه:بعلوم الدين. من تفسير وحديث وأحكام وعقيدة ..
كانت كلها شيئا واحدا يرسم طريق المسلم على هدى القرآن وتعليمه .. يتصل بعضه ببعض،ويغذى بعضه بعضا .. وكانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأقواله، أوضح بيانوتفسير للقرآن الكريم .. وصورة عملية لما يطلبه الله من المؤمنين .. فحين سئلتالسيدة عائشة رضى الله عنها عن خلق رسول الله، قالت: كان خلقه القرآن ..
ومن أجل هذا يكون كلامنا عن تفسير القرآن أولا هو الوضع الطبيعى الواقعى.
__________
(1) النحل/ 44.

علم التفسير
نشأة العلم كنشأة كل كائن حى نام .. يبدأ بذرة صغيرة تتطور لتصبح جنينا أو نبتا،ثم تنمو شيئا فشيئا لتكون فى نهاية أمرها إنسانا، أو شجرة، أو نبتا مثمرا يعطىثمره، أو يمنح ظله والفائدة منه ..
فحين نتكلم عن علم التفسير أو غيره من العلوم التى سنتحدث عنها، فإننا نتكلم عنهمن خلال هذا التدرج الطبيعى .. ونلقى الضوء عليه منذ تبدأ بذوره الأولى .. فما أىشىء ولد كاملا، ولا وجد عملاقا .. ولكنها سنة الله فى الحياة، كل حياة «ولن تجدلسنة الله تبديلا».

استطراد لا بدّ منه:
وقبل أن نكشف عن البذور الأولى فى علم تفسير القرآن أحب أن ألقى ضوءا سريعا أمامالقارئ حول القرآن ونزوله وكتابته وجمعه.
1 - بدأ نزول القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو فى سن الأربعين، وذلكبقوله تعالى «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ .. الآيات» من سورة العلق.
2 - ثم توالى نزول القرآن بعد ذلك عليه فى مناسبات متفرقة، ولدواع متنوعة، حتىتوفى صلى الله عليه وسلم وهو فى سن الثالثة والستين فكان منه ما نزل عليه فى مكةوهو أكثره، ومنه ما نزل عليه بالمدينة .. وكانت آخر آية نزلت بعد رجوع الرسول منحجة الوداع هى آيات الربا المذكورة فى أواخر سورة البقرة (1)، بينما كانت آية«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» - المشهور عند الكثيرين- خطأ- أنها- آخر مانزل- قد نزلت قبل ذلك فى عرفات والرسول يحج حجته الأخيرة- حجة الوداع- باتفاق.
3 - كان جبريل عليه السلام ينزل على الرسول بالسورة أو الآيات أو الآية، فيسارعالرسول فى حفظها كما يتلقاها .. ثم يمليها على كتاب وجيه فيكتبونها ..
__________
(1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَالرِّبا .. الآيات.

ويسمعها لمنيلقاه أو يحضر إليه من اصحابه، فيحفظونها، وهؤلاء بدورهم يتلقى عنهم من لم يسمعهامن الرسول فيحفظها، وكان مما يسهّل عليهم الحفظ، أن القرآن لم ينزل دفعة واحدة ..كما يقول الله:
وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ، عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُتَنْزِيلًا (1)
4 - وكان جبريل عليه السلام ينزل على الرسول فى رمضان من كل سنة فيراجع معه ما سبقنزوله، حتى كان آخر رمضان من حياة الرسول فقرأ على الرسول وقرأ عليه الرسول كل ماأنزل خلال السنين التى نزل فيها القرآن، يقرءانه مرتبا حسب الموجود فى المصحف الآن..
5 - لم يتيسر لكل الصحابة أن يحفظوا القرآن كله، بل تيسر لعدد قليل منهم، والباقونحفظ كل منهم ما تيسر له، ولكنهم جميعا كانوا حريصين على العمل بالقرآن أولا بأول.
6 - نزل القرآن أولا فى مكة ومدة فى المدينة بلهجة قريش وحدها وكانت للقبائل لهجاتعربية تختلف فى بعض النطق والكلمات عنها فى قبيلة أو قبائل أخرى .. فلما دخلتالقبائل العربية بكثرة فى الاسلام بالمدينة، احتاج الأمر إلى التسهيل عليها فىالقراءة بلهجتهم فى بعض الكلمات، بناء على رجاء توجه به الرسول لمولاه، تخفيفا عنأمّته. كما جاء فى الحديث الصحيح المشهور فى هذا الموضوع .. «انزل القرآن على سبعةأحرف»
7 - توفى الرسول صلى الله عليه وسلم والقرآن محفوظ فى الصدور كله لدى بعض الصحابة،ومتناثر عند الكثيرين. كما أنه كان مكتوبا محتفظا به ..
8 - فى عهد أبى بكر رضى الله عنه وبمشورة عمر رضى الله عنه، كانت مراجعة المكتوبعلى المحفوظ مع ترتيبه حسبما نزل واحتفظ به عند أبى بكر الخليفة، ثم عند حفصة زوجالرسول وبنت عمر رضى الله عنهم جميعا بعد وفاة أبى بكر.
__________
(1) سورة الأسراء/ 106.

9 - وفى عهد عثمانرضى الله عنه، ظهرت الحاجة الماسة إلى كتابة مصحف يكون مرجعا وإماما لجميع المصاحفوللقراء، وكان أساس الجمع لهجة قريش، وإهمال ما عداها من اللهجات العربية الغربيةالتى لم تنتشر، حتى لا يستفحل الخلاف بين قارئى القرآن، مما يتسبب عنه تفريق وحدةالمسلمين، فعمل رضى الله عنه على كتابة مصحف يجمع عليه المسلمين.
10 - أرسل لكل قطر من الأقطار نسخة من هذا المصحف الإمام الذى سمى بمصحف عثمانليكون هو المرجع الوحيد فى قراءة القرآن وحفظه، وليحرق ما عداه مما يخالفه، مماكان يضم بعض اللهجات التى أهملها المصحف الإمام وأجمع الصحابة على استحسان هذهالخطوة توحيدا لكلمة المسلمين حول كتاب الله».
11 - ومنذ هذا اليوم وعلى مر الأيام والسنين، والمسلمون شديد والعناية والحرص علىالتمسك برسم المصحف الإمام وكلماته، برغم ما فى رسمه من مخالفات أحيانا لما عرففيما بعد بالإملاء وطريقة كتابة الكلمات والحروف ..
حتى لا يتسرب إليه أدنى خلاف ولو فى رسم حرف من حروفه ..
12 - وبذلك امتاز القرآن على كل ما عرفه البشر من كتب مقدسة، وغير مقدسة، أنهالكتاب الوحيد الذى ظل كما هو، وكما أنزله الله، محفوظا فى الصدور، مكتوبا فىالمصاحف. وهذه ميزة تفرّد بها القرآن، كما تميز بها المسلمون على غيرهم فى الحفاظعلى قرآنهم، وكان ذلك كله تحقيقا لوعد الله:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ 9 (1)
13 - كان لأكثر ما نزل من القرآن أسباب. من أسئلة أو حوادث نزلت من أجلها الآيات،مما سمى أخيرا بأسباب النزول، وأفردها العلماء بمؤلفات خاصة بها .. وهى تهيئللقارئ والمفسر فهم الآيات. ولكن لا تبقى الآيات خاصة
__________
(1) سورة الحجر/ 9.

بهذا الذىنزلت من أجله، وينتهى مفعولها بانتهائه، بل تبقى لتعالج كل موضوع يجد، ويمكنانطباقها عليه، مما عبر عنه العلماء بعد ذلك بقولهم:
«العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» فلم تبق حاجة لمعرفة السبب إلا للمعاونة علىفهم الآية، وإن كان من الضرورى أحيانا معرفته عند فهم بعض الآيات.

هل ترك الرسول تفسيرا كاملا للقرآن؟
لعل البعض يفهم من قوله تعالى «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَلِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» أن الرسول صلى الله عليه وسلم تولى تفسير كل آيةمن القرآن لصحابته رضوان الله عليهم .. ولكن هذا فهم مبالغ فيه وغير دقيق، إذ أنقوله تعالى:
«لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» يعنى تبين ما يحتاج منه إلى بيان..
وقد أنزل الله القرآن على رسوله بلغة قومه «إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناًعَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» وكان العرب فى ذروة البلاغة وهم أربابالفصاحة، وقد نزل القرآن يخاطبهم جميعا. ويحثهم لما يدعوهم إليه، ومن الطبيعى ألايكون غامضا عليهم فكانوا أقرب الناس إلى فهمه وإدراك معانيه وتقدير بلاغته، حتىوجدنا أعتى الناس عداوة للرسول، ينقلب- بمجرد سماعه- إلى مسلم تابع له، وأيضا أشدالناس إخلاصا ودفاعا عنه، ووجدنا آخرين يتزعمون معارضته، وإيقاع الأذى به وبدعوته،ومع ذلك تأسرهم بلاغة القرآن ومعانيه، ويتسارقون ويتسربون ليلا، للاستماع إلىالرسول صلى عليه وسلم وهو يقرؤه بصوت مسموع، إشباعا للذة الاستماع إليه، معكراهتهم له.
ولو لم يفهموه ويحسوا بلاغته، ما سحرهم بيانه، وما جذبهم لهذه المخاطرة التىخاطروا فيها بأنفسهم وبمراكزهم وزعامتهم وسط معسكر الكافرين بالرسول، لو انكشفأمرهم .. وقلنا كانوا أقرب الناس إلى فهمه، لأنهم لم يكونوا جميعا على مستوى واحدمن الفهم له وإدراك معانيه إذ من الطبيعى أن تكون أفهامهم متفاوتة، حتى لما يسمعونمن كلامهم .. وذكرت لنا الروايات الصحيحة، أن بعضهم، ومنهم مقربون إلى رسول اللهكان يتوقف فى فهم بعض ألفاظ وردت فيه، وإن كان يفهم المعنى الإجمالى للآيةوالسورة. والغرض من سياقها .. فوجدنا الفاروق عمر بن الخطاب رضى الله عنه، معمكانته يسأله رجل عن معنى «الأب»

بتشديد الباءفى قوله تعالى «وَفاكِهَةً وَأَبًّا» فيقول: نهينا عن التكلف والتعمق (1)» وفى روايةأخرى .. أنه كان يقرأ الآية فتساءل عن معنى «الأب» كما روى (2) أيضا أنه كان يقرأ«أو يأخذهم على تخوف» وهو على المنبر، فتساءل عن معنى «تخوف» فقال له رجل من هذيل:التخوف عندنا هو التنقص، ونحن الآن مع تباعد القرون بيننا وبينهم، لا نجد القرآنغامضا علينا إلا النادر منه الذى يحتاج إلى وقفة معه حتى العامى منا يدرك الكثيرمن معانى الآيات، ويخشع قلبه لما يسمعه ..
وفى ذلك يروى ابن جرير الطبرى عن ابن عباس رضى الله عنهما قوله:
«التفسير على أربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته،وتفسير تعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله» كوقت قيام الساعة.
فالوجهان الأولان ظاهران لا يحتاجان إلى عناء فى فهمهما، والثالث هو مدار البحثوالأسئلة، والرابع يسكت عنه لأنه مما استأثر الله بعلمه ..
ومما لا شك فيه أن الصحابة كانوا أحيانا يتوجهون إلى الرسول لفهم بعض الآيات، أويتولى الرسول شرحها دون سؤال ويتلقى الصحابة الشرح والجواب ..
مما عنيت كتب الحديث بذكره.
ولكن إلى أى مدى نثق فى صحة ما نسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من تفسير لبعضهذه المواضع من القرآن الكريم؟ ذلك أمر تكفلت به كتب السنة الموثوق بها، ولست أعنىبذلك كل كتب السنة المتداولة، لأن بعضها روى فى هذا الباب روايات لا يمكن أن تقبلعقلا .. فمثلا:
أخرج الحاكم عن أنس رضى الله عنه أنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنالقنطار فى قوله تعالى:
«وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ» (3) فقال: القنطار ألف أوقية «بينما روى الإماماحمد
__________
(1) فجر للمرحوم أحمد أمين ص 281.
(2) المصدر السابق عن كتاب الموافقات للشاطبى.
(3) من قوله تعالى «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِوَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» الآية14 سورة آل عمران.

فى مسنده وابنماجة عن أبى هريرة رضى الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القنطار اثناعشر ألف أوقية»
ولو اعتبرنا ما فى الروايتين صحيحا، لكانت النتيجة أن الرسول قال مرة:
القنطار ألف أوقية، ومرة اثنا عشر ألف أوقية، والزمن واحد أو متقارب جدا، لا يحتملتغيير وزن القنطار، فلا يعقل أن يصدر عن الرسول مثل هذا التناقض الواضح، ومع ذلكفهما روايتان، رواهما الحاكم، والإمام أحمد ..
فلو قبلنا مثل هذه الروايات معصوبى الأعين، مغلقى العقول باعتبار أنها وردت فى بعضكتب السنة لأسأنا إساءة واضحة إلى رسول الله.
ولذلك فإن مما نحمد الله عليه أن نجد من المفسرين مثل الحافظ ابن كثير وتفسيرهلهذه الآية يقف وقفة متأنية ناقدة ويقول: «لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلمحديث فى تحديد القنطار وما ورد من ذلك فموقوف على الصحابة».
وليقل لنا الصحابة ما يشاءون حسب علمهم عن أمورهم، فقد تكون صحيحة، وقد تكون غيرصحيحة، ولسنا ملزمين بأن نأخذ ما يروى عنهم كما هو- فكل يؤخذ منه ويردّ عليه، ماعدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا بد إذن من التحوط فى قبول بعض الأحاديثالخاصة بتفسير القرآن، المروية فى بعض كتب الحديث عن الرسول بحيث لا نقبل منها إلاالمقطوع بصحته فى كتب السنة، ذات الدرجة الأولى فى التوثيق، وإذا كان هذا بالنسبةلما يروى عن رسول الله فى تفسير القرآن فإن ما يروى عن الصحابة والتابعين يجب أننقف موقف التحرز والتحوط منه، وما علينا من شىء إذا لم نقبل ما روى عن أحد منهم،وقلنا بغيره.

ابن عباس وما روى عنه
وأذكر هنا على الأخص ما يروى عن عبد الله بن عباس رضى الله عنهما فى باب التفسير،فقد أكثر الرواة الرواية عنه، حتى لا تجد آية فى القرآن غالبا إلا ويذكرون فيهاقولا أو رواية لابن عباس، بل إن هناك تفسيرا خاصا به، منسوبا إليه .. قد يزعمالكثيرون أنه رواه عن رسول الله. وهو مطبوع.
وابن عباس كان فى نحو الثانية عشرة من عمره حين توفى رسول الله صلى الله عليهوسلم، وهو عمر لا يسمح بمثل هذه الاستزادة من الرسول، إلا أنه كان له من الفطنةوالذكاء المبكرين، وطهارة المنبت، ومن دعاء الرسول له «اللهم فقهه فى الدين وعلمهالتأويل» يعنى التفسير لما رآه فيه من فطنة وذكاء مبكرين، كما كان له من الحرصالشديد على تعويض ما فاته مباشرة عن رسول الله بالتلقى عن أصحابه، أينما كانوا،وتفريغ وقته لذلك، وقد توفى فى نحو السبعين من عمره بجانب تبحره فى علوم اللغة،وحفظ أقوال العرب وشعرهم، أقول كان له من ذلك كله، ما جعله يحتل منزلته العلميةمنذ عمره المبكر، ويأخذ- لذلك- من اجلال الصحابة وفى مقدمتهم الخلفاء الراشدون- مالم يقاربه فيه أمثاله وقرناؤه .. حتى رويت روايات كثيرة فى فضله العلمى، وتبحره فىعلوم الدين واللغة، ولكنا مع اعتقادنا بمكانة ابن عباس العلمية، نكاد نشك، أو نشكفعلا كما شك الأقدمون فى الكثير مما روى عنه فى التفسير، حتى يقول الإمام الشافعىرضى الله عنه: «لم يثبت عن ابن عباس فى التفسير إلا شبيه بمائة حديث (1)» ونعتقدأن الكثير مما نسب لابن عباس من روايات قد أضيف إليه فى زمن الدولة العباسية،المنسوبة إليه وإلى أبيه العباس، ويرضيهم ويسرهم كل من يتقدم بزيادة علم وفخر لابنعباس
__________
(1) الإتقان ج 2.

تقربا وتزلفا.والساعون لذلك كثيرون، ومن هذا وذاك تكونت الهالة الكبرى حول اسمه.
وهناك أمر آخر نعتقد أنه كان من أسباب الزيادات على ابن عباس.
فابن عباس مشهور بالعلم وله نسبه ومكانته والوضاعون لم يتورعوا عن الوضع على رسولالله ليؤيدوا وجهة نظرهم، برغم إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم للكذابين الذينينسبون إليه ما لم يقله: (من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) ..
أقول إذا كان هناك من تجرأ ونسب إلى الرسول ما لم يقله، برغم هذا الإنذار، فإنالأمر يكون سهلا فى ذلك بالنسبة للوضع على ابن عباس، ونسبة كلام اليه لم يقله ..وهى- أعنى النسبة لابن عباس- تكسب الكلام على أية حال قوة لا يكتسبها من مجرد نسبةالكلام أو الرأى لقائله.
ومن هذا وذاك كثرت نسبة الروايات لابن عباس حتى وجدنا العلماء الناقدين يقفون أمامهذه الكثرة ويزنونها بالموازين التى وزنوا بها أحاديث الرسول أعنى من وجهة الرجالالذين رووا كلامه، ومبلغهم من الثقة، فيزيفون الكثير، ويضعفون الكثير، ويخرجون لنابالطريقة أو ببعض الطرق التى يمكن أن نثق بها على تفاوت فى هذه الثقة.
ولا شك أن اهتمام الناقدين من العلماء بنقد الرجال الذين يروون عن ابن عباس هودليل على اهتمامهم، أو إن شئت فقل اهتمام جمهرة طلاب العلم والعلماء، بما يروىعنه، واحتجاجهم به، فكان لا بدّ من غربلته، حتى يتبين الصحيح السليم من غيره.
ولعل مظهر هذا الاهتمام يبدو لنا واضحا جليا فى كتب التفسير .. فإننا لا نكاد نجدآية إلا وقد روى المفسرون فى معناها رأيا لابن عباس، وقد يذكرون له رأيين متعارضينفى الآية، مما يقطع بعدم صحة الروايتين أو إحداهما على الأقل، ومع ذلك تروىالروايتان!! كما رووا عنه فى اسم الشجرة التى أكل منها آدم فى تفسير الطبرى ..

[ابن عباس والاسرائيليات]
ولقد أخذ على ابن عباس أو على ما روى عنه، كثير من الروايات الغريبة، التى تدل علىأن مصدرها ليس هو القرآن، ولا الحديث، ولكن من الكتب والمعلومات الإسرائيلية، ممايقطع- إن صحت نسبة هذه الروايات إليه- بأنه كان يستفيد ممن أسلم من أهل الكتاب مثلعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار فى موضوعات من القرآن لا تتعلق بعقيدة أو تكليف منالتكاليف، فإن هذين لا يصح أن يلجأ فيهما إلى غير ما ورد فى القرآن، ولا يعقل أن ابنعباس كان يروى عنهم فى هذا، لكنه كان يروى- فيما يقول الرواة عنه- فيما يشبع فضولالناس فى القصص التى جاءت فى القرآن الكريم، مما طواه وسكت عنه، وكان مسلمو أهلالكتاب يتحدثون بما يشبع هذا الفضول، الذى لا نزال نرى كثيرا من المسلمين يتعلقونبه حتى الآن- وإلا فمن أين جاء لابن عباس أو لغيره، كعلى رضى الله عنهم، بمثل هذهالتفصيلات؟ ..
وقد قلت من قبل: إن صحت هذه الروايات .. لأنى أشك فى أن رجلا كابن عباس أو على رضىالله عنهما يسلم عقله ودينه لأمثال هؤلاء ويأخذ عنهم.
وأمامهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلّهم إلى الطريقة التى يجب أن تتبعفى مثل هذه الحالة: إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم. ومعلوم أن هذافى غير ما ورد فيه نص من القرآن، وما هو من أصول وتعاليم الإسلام .. فإنه لو وافقكلامهم ما عندنا صدقناهم. وإن خالفه كذبناهم، فالحديث إذن فيما سكت القرآن عنبيانه فى القصص مثلا. فلا يعقل إذن أن يأخذ ابن عباس عن الإسرائيليين مثلا: لونكلب أهل الكهف، ولا نوع خشب سفينة نوح، وأمثال هذا مما لم يتعرض له القرآن، لعدمالحاجة إليه، ولاكتمال العبرة فى القصة بدونه، ولنهى الرسول عن تصديقهم أو تكذيبهمفيه، لأن نقله عنهم وتعليمه للناس معناه تصديقهم فيه والاقتناع به.

[يعيب على الأخذ عنهم]
وإذا أضفنا الى هذا ما رواه الإمام البخارى عن ابن عباس أنه وقف يخطب الناس، وقدهاله اتجاههم لأهل الكتاب، ليشبعوا فضولهم العلمى بسؤالهم عن

أشياء لميذكرها القرآن فقال لهم: يا معشر المسلمين: تسألون أهل الكتاب، وكتابكم الذى أنزلعلى نبيه صلى الله عليه وسلم أحدث الاخبار بالله، تقرءونه لم يشب؟ وقد حدثكم اللهأن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله، وغيروا بأيديهم الكتاب فقالوا: (هذا مِنْ عِنْدِاللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا) أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عنمساءلتهم. ولا والله ما رأينا رجلا منهم قط يسألكم عن الذى أنزل عليكم. أى ليأخذهعنكم، ومفهوم أنهم لم يكونوا يسألونهم عن الصلاة أو تحريم الخمر أو كيفية الحجمثلا، بل كانوا يسألونهم عن أشياء فى القصص وأمثالها، مما سكت القرآن عنه لعدم الحاجةفى العبرة إليه. جريا وراء الفضول العلمى، وغريزة حب الاستطلاع.
فلا يعقل إذن أمام هذا الحديث الصحيح أن ينهى ابن عباس المسلمين عن الأخذ من أهلالكتاب، وتصديق ما فى كتبهم بهذه الصورة، ثم يسأل هو أهل الكتاب عن أشياء يرجعونفى الإجابة عنها إلى كتبهم ومعلوماتهم، التى عرفوها من هذه الكتب، بل وخيالاتهم.
ولا يغير من الموضوع شيئا أن الذين كان يسألهم ابن عباس قد أسلموا، إن قلنا إنهكان ينهى المسلمين عن الأخذ من أهل الكتاب الذين لم يسلموا، لأن المصدر فىالحالتين واحد وهو كتبهم .. ولا يعقل أن ينهاهم عن شىء وهو يفعله. اللهم إلا إذاكانت ثقته الكاملة فيهم جعلته يستبعد أن يخبروه بشيء غير واثقين به.
وإزاء هذا لا نملك إلا أن نهوى على رأس كل الروايات التى ذكرت فى التفسير إلى ابنعباس فى هذه الناحية فنطيح بها، ونبرئ ابن عباس من مسئوليتها، ونتحمل وزر بقائهافى كتب التفسير المتداولة حتى الآن، تحشو أذهان المتعلمين والقراء بمعلومات واهية،لا سند لها، وتخرج لنا جيلا مخرفا من طلاب العلم، فإن العملة الزائفة تطرد العملةالصحيحة من السوق وتقضى عليها كما يقال.
ولا بد لنا مع ذلك من وقفة قصيرة مع صرخة ابن عباس هذه فى المسلمين، ينهاهم عن مساءلةأهل الكتاب والتعلم عليهم بهذه الشدة.

فابن عباس لايقف هذا الموقف، أو يحمل هذه الحملة، إلا لأنه رأى أن إقبال المسلمين على التعلممن أهل الكتاب، والتأثر بهم، قد أصبح ظاهرة تنذر بالخطر .. وهى ظاهرة تشبه الظاهرةالتى تقلق الكثيرين منا الآن، والتى تتمثل فى الإقبال على كل ما يرد لنا من الغربمن أفكار وأنظمة، والإعجاب بها، مع عدم الالتفات الواجب إلى كتابنا وعلمناوأفكارنا .. وذلك يشبه التهيؤ النفسى لفقد الثقة بالنفس فى أمر مهم يتصل بصميمكيان المسلمين، وكتابهم .. ألا ترى لقول ابن عباس لهم: (ولا والله ما رأينا رجلامنهم قط يسألكم عن الذى أنزل عليكم) فلم إذن تعتمدون على علمهم وتثقون بكلامهم؟.
فلم يحمل ابن عباس على هذا الهجوم- إذن- إلا الخطر الذى أحسه من الاندلاق علىمعلومات أهل الكتاب فى أمور لا تلزم المسلمين. ولا ينقص من شأنهم عدم العلم بها،بل ربما شوّشت عليهم ونخرت عقولهم.
فهل يعقل مع هذه الصرخة والشدة أن ينقل ابن عباس عن أهل الكتاب ويصدقهم؟!!
ومع ذلك فان هذه الظاهرة تبين لنا إلى أى حد اختلطت معلومات المسلمين- فى القصصوأمثالها- بمعلومات أهل الكتاب، مما يدعونا إلى الشك فى كل رواية فى هذا الموضوع،حتى ولو رويت عن رجل ثقة لا نشك فى عدالته.، إذ من الذى أنبأه وخبره؟ ومن أيناستقى العلم الذى يقوله؟ ..
وكثير من المزيفين زيفوا على العدول روايات، ونسبوها إليهم .. وإننا لا نستطيعالقول بأن الناس- كل الناس- قد امتنعوا عن مساءلة أهل الكتاب، أو أن هذه الظاهرةالتى أقلقت ابن عباس قد اختفت، وقضى عليها فى كل مجتمعات العالم الإسلامى حينذاك،بمجرد أن ابن عباس أو غيره ممن يكون قد هالته هذه الظاهرة قد نبه وقرع الأجراس.

حديث آخر

وهناك حديث لا بد من إيراده هنا، فإنى أعرف أن كثيرا من القراء المتخصصينسيذكرونه، وهم يقرءون هذا الإنكار على من يأخذ من أهل الكتاب فى تفسير القرآن، أوربما ذكروه فيما كتبوا.

هذا الحديثفيما رواه البخارى عن عبد الله بن عمر هو: «بلغوا عنى ولو آية، وحدثوا عن بنىإسرائيل ولا حرج. ومن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) (1) فبعض المشتغلينبالتفسير من العلماء يرون أن هذا يفيد إباحة النقل، والتحدث عن أهل الكتاب فيمايروونه وينقلونه من كتبهم!!
ولا بد لنا حينئذ من وضع الحديث الأول هنا بجانب هذا الحديث- وكلاهما رواه البخارى(2) - يقول عليه الصلاة والسلام «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقُولُواآمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَوَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ .. » الآية (3).
فأصبح أمامنا حديثان: الأول .. يدعونا إلى ألّا نصدق أهل الكتاب، ولا نكذبهم فيمايروونه من كتبهم، ومعنى هذا أننا لا ننقل عنهم، لأن النقل يؤدى إلى ترويج كلامهم،وحمل الناس على تصديقه، لا سيما إذا كان الناقل موثوقا به عند الناس .. والنتيجةأننا لا يصح أن نحدث عن بنى اسرائيل. والثانى يقول: (بلغوا عنى ولو آية وحدثوا عنبنى إسرائيل ولا حرج) ويأتى هذا الأمر بعد الأمر بالتبليغ عن الرسول ولو آية ..كأنهما بميزان واحد أو متقاربان على الأقل فى إفادة العلم وفى ضرورة الثقة!!
والحديثان فى ظاهرهما لا يمكن أن يصدرا عن الرسول .. فلا بد اذن من شىء خفى يحتاجإلى التأويل فى معنى الحديثين حتى يلتقيا ..
وقد سبق أن بينا معنى حديث (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم) وقلنا إن مجالتحقيق هذا الحديث وتنفيذ ما جاء فيه، هو ما لم يرد فيه نص من القرآن أو السنة ..مثل ما سكت عنه القرآن من تفاصيل القصص .. فلا يصح أن ننقلها عنهم، ونحكى للناسلون كلب أهل الكهف، ونوع خشب سفينة نوح الخ ..
__________
(1) ج 6 من فتح البارى فى شرح البخارى- كتاب الأنبياء- باب ما ذكر عن بنى اسرائل.
(2) فى فتح البارى ص 120 ج 8.
(3) 136 - من سورة البقرة.

فأين مجالالحديث الآخر: (حدثوا عن أهل الكتاب ولا حرج)؟ إن كان الأخذ عنهم فيما جاء بهالقرآن أو تحدث به الرسول فلا مانع ولا حرج. لأنه يكون مؤيدا لهما، وإن كانا فىغير حاجة لتأييد، لكنه استئناس على كل حال تقرّ به العيون .. إلا أنه ليس موضوعكلامنا.
إن كلامنا فيما سكت القرآن عن بيانه كما سبق، فجاء أهل الكتاب فبينوه، فقالوا لنامثلا: لون الكلب أبيض أو أسود أو الخشب كان من الزان أو الساج مثلا؛ فهل الحديثالذى يقول «حدثوا عن أهل الكتاب ولا حرج» يبيح لنا أن نمشى وراء أهل الكتاب، عندما نفسر القرآن، ونقول ما قالوه، فى هذا وذاك- ولو أنه لا يقدم ولا يؤخر لكنه ينسبالى تفسير القرآن، ويتناقله العلماء كأنه شىء ثابت. وهو لا أصل له يعتد به؟
هل الحديث يبيح لنا أن نحكى عنهم أن الموت يأتى فى صورة كبش، والحياة فى صورة فرس،كما نسب إلى ابن عباس فى بعض كتب التفسير؟!
هل الحديث يبيح لنا أن نفسر القرآن بما يحكونه- عن كتبهم- من أحوالهم وأعاجيبهم،ويكون معنى ذلك تصديقهم دون سند عندنا نستند إليه إلا كلامهم؟ ..
أعتقد .. لا. ولا .. لأن الرسول قال فى هذا: (لا تصدقوهم ولا تكذبوهم) ولكن يمكنأن تسمعوا، ولا تعلقوا، وكونوا على حذر. لا تصدقوهم، لأن تصديقهم خطر، ولاتكذبوهم، لأن ذلك ربما يؤدى إلى شقاق وخلاف، أنتم فى غنى عنه. وربما كان صحيحافتكونون قد أنكرتم الصحيح وأنتم لا تعلمون وهذه هى منتهى العدالة فى العلم وفىالدين ومنتهى الحياد.
ولا يبقى عندنا- لقبول الحديثين- إلا أن نقول: معناه حدثوا عنهم فيما يتفق حديثهمفيه مع ما تعرفونه من كتابكم وسنة نبيكم. وهذا أقصى ما يمكن أن نهضمه حتى لا نردالحديث.

وحينئذ لايمكن الاستدلال بهذا الحديث على إباحة أخذ معلومات عن الإسرائيليين، لتفسير أوتوضيح ما سكت القرآن عن بيانه

[احتلال اسرائيلى]

لقد احتل الإسرائيليون فى وقت مبكر أدمغة كثير من المفسرين، وأفسدوا علينا صفاءالقرآن، وصفاء الأفكار، وشغلوا علماءنا بأقاويلهم وأضاعوا عليهم وعلينا أوقاتنا،وكانوا هم السبب فى كثير من الخرافات التى تحتل أدمغة المسلمين فى كل مكان وزمان.
إنه احتلال سطا على الفكر الإسلامى أيام ازدهاره، ودام قرونا، وسيدوم، إن لمنتدارك الأمر وننقى كتبنا ونخلصها من هذا الاحتلال .. وما أخطره من احتلال .. وماأشد فتكه بالعقول!! ولعل مجمع البحوث يكمل ما بدأه فى هذه الناحية ..
ترانى قد وقفت كثيرا مع ابن عباس. ولا بأس فى ذلك .. بل الأمر معه قد يستحق وقفةأطول، وتشريحا أكثر فى كتاب ضخم ودراسة أعمق، لأنه عند كل المفسرين العمود الفقرىفى التفسير، حتى الذين عرف عنهم أو عن كتبهم (التفسير بالرأى لا بالمأثور) تجدهميعنون بذكر بعض الروايات فى تفسير الآية، وفى مقدمتها ما يروى عن ابن عباس، لماذكرنا من الهالة العلمية التى أحيط بها.
فهو حبر هذه الأمة وترجمان القرآن، دعا له الرسول: فقال «اللهم فقهه فى الدينوعلمه التأويل» فلماذا لا نأخذ عنه؟
وليس لنا من قصد فى ذلك .. إلا أن يتحرر القارئ من بريق الرواية عن ابن عباس، وألايحشو بها فكره. قبل أن ينظر إليها نظرة الناقد البصير .. فإن ابن عباس مظلوم فىالكثير مما أسند إليه ..

[ليس تفسيره]
حتى تفسيره الذى عرف باسمه والمسمى (تنوير المقياس من تفسير ابن عباس) المطبوعالمتداول والذى عنى بجمعه العلامة مجد الدين الفيروزآبادي

صاحب القاموسالمحيط .. هذا التفسير ضعيف الصلة بابن عباس إن لم نقل إنه مما نسب إليه زورا ..
يقول المرحوم الشيخ محمد على النجار فى مقدمته لكتاب البصائر (1) للفيروزآبادي وهويتحدث عن مؤلفاته وآثاره: «ومن هذا أنه جمع ما يروى فى التفسير عن ابن عباس،واعتمد على رواية محمد بن مروان عن الكلبى عن أبى صالح عن ابن عباس. ويقول السيوطىفى الاتقان (2) فى النوع الثمانين الذى عقده لطبقات المفسرين: إن أوهى الطرق عنابن عباس طريق الكلبى عن أبى صالح عنه. فإن انضم إلى ذلك رواية محمد بن مروانالسدى الصغير فهى سلسلة الكذب»
ومع أن هذه هى حقيقة كتاب التفسير المنسوب لابن عباس، فإن جمهرة العلماءوالمتعلمين لا يعرفون هذا ويأخذون كل رأى فيه على أنه لابن عباس!!
أرأيت إلى هذه المظاهرة الكبيرة التى أقامها المفسرون والرواة لابن عباس وما نسبإليه، والتى اندس فيها كثير من ذوى الأغراض المشبوهة، ودسّوا عليه نسب كثير منالكتب والروايات؟
ومع أنه من المعروف عند رجال الجرح والتعديل- أو بلفظ آخر عند نقاد الرواة- أن طرقالرواية عن ابن عباس كثيرة، وأنهم لم يعتمدوا إلا القليل منها، وزيفوا الكثير. فإنبعض المفسرين لم يتحر الدقة فى الرواية عن الموثوق بهم، وترك من عداهم، بل روى عنهؤلاء وهؤلاء دون أى تعليق، ثم جاءت طبقة أخرى من المفسرين أغفلوا أسماء الرواة ..وأوردوا ما رووه من أقوال منسوبة إلى ابن عباس وكأنها قضية مسلمة. وقرأ القراءذلك، دون أن يخالطهم شك فى نزاهة المفسر، وفى صحة هذه الأقوال التى أوردها،فقبلوها، وتحدثوا بها، واعتمدوا عليها فى تفسيرهم. فدخل من هذه الناحية علىالتفسير وعلى العقول خلط كثير.
__________
(1) حققه المرحوم الشيخ محمد على النجار وصدر عن المجلس الأعلى للشئون الإسلاميةبالقاهرة سنة 1964 م، ص (10) من مقدمة الجزء الأول.
(2) (189) من الجزء الثانى طبعة حجازى بالقاهرة.

أذكر هنا علىسبيل المثال ما جاء فى بعض كتب التفسير معزوا إلى ابن عباس عند قوله تعالى:(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) من سورة تبارك، فتقول: «واعلم أنه اختلففى الموت والحياة» ولا أدرى فيم الاختلاف، ولكن انتظر وأقرأ التفاصيل «فحكى عن ابنعباس والكلبى ومقاتل (هكذا بالجملة): أن الموت والحياة جسمان. فالموت فى هيئة كبشأملح، لا يمر بشيء ولا يجد ريحه إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس أنثى بلقاء،وهى التى كان جبريل عليه السلام والأنبياء عليهم السلام يركبونها!! خطوتها مدالبصر!! فوق الحمار ودون البغل!! لا تمر بشيء ولا يجد ريحها إلا حيى!! ولا تطأ علىشىء إلا حيى!! وهى التى أخذ السامرى من أثرها ترابا فألقاه على العجل فحيى الخ ..
فهل يعقل أن تقبل عقلية نيرة كعقلية ابن عباس مثل هذا الكلام. ثم من الذى رواه عنابن عباس؟ لقد ذكر بجانبه الكلبى ومقاتل. والكلبى هذا قال عنه النقاد أنه منالوضاعين الكذابين، ولا يوثق بروايته .. ومع ذلك كله ..
نجد هذا فى بعض كتب التفسير (1) التى يتناولها المبتدءون وغيرهم، وتغذى عقولهمبهذه الروايات، التى تفوق كل خيال، والتى ينفر منها كل ذى عقل يحترم نفسه. فهل كانالعالم العلامة العارف بالله الشيخ أحمد الصاوى. الذى نقل هذا الكلام لا يعرف قيمةالرواية عن الكلبى؟
لكنه روى .. والسلام ..
وأمثال هذا كثير لا يحصى، ويكاد يغطى معظم تفسير الآيات الكريمة، ولا سيما عند ماتتعرض الآيات لقصة من القصص أو لأمر من الأمور الغيبية.
ابن عباس .. مظلوم، فكم اعتدى باسمه على تفسير القرآن وعلى العقول!!
حتى فى الأشياء التى لا يتصور عليها خلاف يعنى بعض المفسرين بذكر خلاف على ماهيةالموت والحياة ويجر المظلوم ابن عباس جرا إلى معركة الخلاف، وينسب إليه هذاالكلام!!
__________
(1) وجدت هذا فى حاشية الصاوى على تفسير الجلالين. ولا بد أنه مذكور فى غيره لأنالصاوى ينقل عن غيره غالبا .. أو دائما ..

ابن عباس ..كان عملاقا فى علمه المصفى .. فاستغل اسمه وسمعته العلمية كل من أراد ترويج بضاعتهالإسرائيلية الزائفة .. تماما كما يستغل بعض المزورين الاستغلاليين الآن أسماءالشركات الموثوق بها فى ترويج بضاعتهم التافهة الهزيلة.
وعفوا إذا وقفنا مع ابن عباس رضى الله عنهما، هذه الوقفة فهو وما روى عنه يستحقهابل وأكثر منها .. محاولة منا لوضع الأمور فى نصابها ..
ولننتقل إلى الموقف العام للصحابة من التفسير ..

الصحابةوفهمهم للقرآن اعتبارات لا بدّ من مراعاتها ..
ونعود للكلام عن الصحابة رضوان الله عليهم ومدى فهمهم للقرآن وتفسيرهم له بشيءأكثر من التفصيل ..
فحين نقول إن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يفهمون القرآن، قد ينطبع فىأذهان الكثيرين أنهم كانوا يفهمونه على النحو التفصيلى الذى نراه الآن فى كتبالتفسير، بحيث لم تكن هناك كلمة أو عبارة غامضة عليهم، لا سيما وهم عرب فصحاءوالرسول صلى الله عليه وسلم معهم، يعلمهم ويرشدهم، ويستطيعون سؤاله عن كل شىء يدقفهمه عليهم ...
فهل كان الأمر كذلك؟.
وإذا شئنا أن نضع هذا السؤال فى صيغة أخرى، فإنه يمكن أن نقول: إلى أى حد كانالصحابة يفهمون القرآن ويفسرونه؟
وللإجابة عن هذا السؤال لا بد أن نضع أمام اعتبارنا الأمور الآتية:
1 - أن القرآن عربى والصحابة عرب فصحاء.
2 - أنهم لم يكونوا سواء فى الفهم أو الذكاء، كما لم يكونوا سواء فى قربهم منالرسول وبعدهم عنه.
3 - أن الوقت كان وقت دعوة وبناء للعقيدة ودفاع عنها بالحجة أو السيف.
4 - أن الصحابة كان همهم الأول الإيمان مع التطبيق والسلوك.
5 - أن آيات نزلت وأحاديث صدرت من الرسول تحد من تتبع المتشابهات ومن كثرة السؤال...
6 - أن البيئة العربية فى ذلك الوقت لم تكن بيئة علمية بالمعنى المعروف ..
هذه الاعتبارات يجب أن نضعها أمامنا، ونحن نتحدث عن فهم الصحابة للقرآن أو تفسيرهمله.

ويمكن أننتناول كل اعتبار من هذه الاعتبارات بشيء من البسط والتوضيح.
نزل القرآن باللغة العربية فى عهد ازدهرت فيه هذه اللغة، فلم يكن قد داخل الألسنةشىء مما داخلها بعد ذلك حين اختلط العرب بغيرهم، من أبناء البلاد التى اعتنقتالإسلام، ولقد امتن الله سبحانه على العرب بنزول القرآن بلغتهم، وفى متناول فهمهم
إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (1)
إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ (3)
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ 193 عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ194 بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ 195 (4)
كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
ومؤدى هذا كله أن القرآن نزل بلغة العرب واضحا وبينا، لكى يعقلوه ويتدبروه، ويصلواعن هذا الطريق إلى الإيمان به، وبالذى أنزله، ومن أنزل عليه .. وقد جعل الله معجزةرسوله فى هذا القرآن، وتحدى العرب أن يأتوا بسورة من مثله فى بلاغته وبيانه ..وهذا يقتضى بالطبع أن يكونوا مدركين له، وللمعانى التى احتوت عليها الآيات وعبرتعنها الكلمات .. إذ بغير إدراك المعانى لا يمكن تذوق البلاغة، ولا الإحساس بالعجزعن مجاراة القرآن فى التعبير عنها بمثل هذا الأسلوب.
__________
(1) أول سورة يوسف.
(2) سورة الزخرف.
(3) سورة فصلت.
(4) الشعراء/ 195.
(5) فصلت/ 3.

وهذا الذى كان.. فقد اتخذ الرسول من بلاغة القرآن أقوى سلاح لدعوته ..
فكان يحرص فى مجالات الدعوة للإيمان على أن يقرأ على المشركين العرب آيات منه، وهومدرك تماما أنهم يتفاعلون مع تعبيراته، ويحسون ما فيها من روعة تفوق كل روعةيحسونها من كلام الخطباء وشعر الشعراء .. حتى كانوا يضطرون وهم فى ذروة معارضته،والحملة عليه إلى اعتراف بعضهم لبعض سرا، بأن هذا ليس من كلام
البشر، ولكنهم اتهموه أمام العامة بأنه سحر مبين، وأصدر زعماؤهم تحذيرا عاما منالاستماع إليه خوفا من تأثيره عليهم وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوالِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ 26 (1)
وقد وجدنا فى قصة إسلام عمر أن استماعه لآيات من سورة (طه) أطفأت ما فى نفسه منحمية جاهلية، وقلبته من رجل يتوعد الرسول، ويستعد لقتله، إلى رجل هادئ، وادع،يستسلم للرسول، ويؤمن به، ويعز الله الإسلام بجرأته.
هذا- وأمثاله كثير- يدلنا بلا شك على أن القرآن كان مفهوما للعرب بمجرد أن يسمعوه،إذ لو لم يفهموه لما تأثروا به، ولما سحرهم بقوة بيانه وبلاغته ..

ولكن أى فهم كان؟

لقد نزل القرآن يتحدث عن العقائد، كما يتحدث عن التشريع، وعن قصص السابقين، وعنخلق الكون، وبعض مظاهره وذلك بأسلوب جديد عليهم فى قوته وبيانه، مستعملا الحقيقةوالمجاز والكناية، وكثير من الموضوعات التى تحدث عنها جديدة عليهم، فإلى أى مدىكان فهمهم للآيات التى تتحدث عن هذا كله؟
هل كان فهمهم مستوعبا لكل آية، وكل كلمة وعبارة، وفى أى موضوع من الموضوعات التىتحدث عنها القرآن؟
__________
(1) فصلت/ 26.

أو أنهم معتأثرهم العام ببلاغة القرآن لا يلزم أن يكونوا ملمين بمعانى القرآن كله وكلماته،بل كانت تفوتهم معانى بعض الكلمات أو العبارات، والغرض المراد منها؟ تبعا لاختلافمستوياتهم فى الفهم والذكاء، أو لقربهم من الرسول- مصدر الإشعاع- وبعدهم عنه، أولظروف أخرى غير ذلك؟
إن الإجابة عن هذا تحتاج إلى أن نعرف الجوانب التى كانت تستحوذ على الرسول وصحابتهفى بناء حياتهم الجديدة، لأن هذه الجوانب هى التى يمكن أن تبين لنا ما إذا كانعندهم وقت فراغ يتيح لهم التوسع والاستيعاب، وتبين لنا المنهج الذى كان يتناسب معهذه الحياة الجديدة، أو يفرض نفسه فرضا عليها.
كما أن الإجابة تحتاج إلى معرفة المحصول العلمى، الذى كان لدى الصحابة قبلإسلامهم، واستقبلوا به القرآن وما جاء به من معارف وعلوم، لأن الرجل المحدودالمعرفة، قد يكفيه من الفهم السطحى العابر، أو الإجمالى العام ما لا يكفى الرجلالواسع المعرفة والثقافة. فكلاهما له نظرته الخاصة فيما يقرؤه أو يسمعه، ولهتساؤلاته ومناقشاته، وموضوعاته، التى يمكنه أن يخوض فيها، ويسأل عنها، كما هومشاهد محسوس الآن من الفرق بين الجو العلمى للوسط المثقف، وبين الجو العلمى للوسطالذى لم ينل حظا من الثقافة، من حيث الفهم والدقة فيه، ومن حيث نوع الأسئلة التىتطرح للإجابة عنها ..
وعلى أساس تحديد الجوانب المهمة فى الحياة الجديدة، والوقوف على ما كان لدىالصحابة من محصول علمى سابق، يمكن تحديد الاتجاه الذى اتجهوا إليه فى فهمهم للقرآنوتفسيره، لأن الطابع العام للحياة فى أى عصر من العصور، له تأثيره القوى علىالاتجاه العام للناس، فى فهم القرآن. فطابع الحياة فى عهود الاختلاف ونشوء الفرقمثلا .. أضفى على تفسير القرآن اتجاها يتناسب معه، كما نلمس ذلك فى بعض التفاسير،وفى توجيه المفسر للآية، وفهمه لها على حسب اتجاهه السياسى أو المذهبى، والطابعالعلمى الذى يمتاز به عصرنا دفع كثيرا من الناس إلى إضفاء الثوب العلمى على كثيرجدا من آيات القرآن وفسروها تفسيرا علميا، حتى خرجوا أحيانا عن الحد المناسب ..وهكذا ...

بناء العقيدة أولا:
لقد كان أهم شىء فى الحياة الجديدة هو- أولا- بناء العقيدة السليمة- عقيدةالتوحيد، والقضاء على كل المظاهر التى تتنافى معها، ولم يكن ذلك بالأمر السهل فىبيئة مردت على الشرك، وعبادة الأصنام، والتعلق بالخرافات، والاستهانة بالعقول، إلىحد أنها كانت تحكّم الطيور والأحجار فيما تقدم عليه من أفعال،. وكانت تعد الخروجعلى شىء من ذلك، خروجا على مقدسات الآباء الموروثة وتقاليدهم، وثورة على ما تواضععليه المجتمع، تجب المبادرة بقمعها والقضاء عليها.
ومن هنا كانت العناية المركزة فى القرآن الكريم، وفى دعوة الرسول، على عقيدةالتوحيد والبعث.
كان الإشراك قد تحصن فى عقول العرب، حتى أصبحوا يعدّون ما عداه أمرا غريبا يلفتالنظر، ويدعو إلى العجب، والدعوة إلى التوحيد مؤامرة تستدعى الحذر
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ 5 وَانْطَلَقَالْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌيُرادُ 6 (1)
فهذا الحصن هو الذى يقف أمام دعوة الإسلام. ولا يمكن أن يلجأ الداعون للتوحيد إلىالتسلسل من ورائه وتركه .. لا بد من مجابهته، وهدمه حجرا حجرا، بل لا بدّ من إزالةأنقاضه، وترابه وغباره، وكل أثر من آثاره.
... وهذا كله ليس بالأمر السهل فإن هدم الحصون الحجرية- أو الخرسانية بلغة العصر-قد يكون أسهل كثيرا من التغلب على الحصون العقلية والتقليدية.
ومن هنا يمكن أن نتصور أى شىء كان يشغل الرسول ومن آمن معه، ويأخذ منهم كل أوقاتهموجهودهم.
__________
(1) أوائل سورة «ص».

والقارئ يعلمبلا شك تلك الظروف التى عاش فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون القليلونمعه فى مكة مدة ثلاث عشرة سنة .. كما يعلم الظروف التى عاش
فيها الرسول مع صحابته بعد ذلك فى المدينة.
وكلها ظروف تحتم توجيه أكبر قسط من الجهد والعناية للأمور الأكثر أهمية بالنسبةللدين الجديد: من الدعوة إليه والتمسك بمبادئه وتشريعاته من ناحية، والدفاعالمستميت عنه ضد أعدائه من ناحية أخرى، أو بلغة العصر الحديث:
إقامة بناء جديد قوى للدعوة فى الداخل، ودفاع وحماية لها من أعدائها فى الخارج.
وهذا هو الذى كان، فلقد انصرف الرسول وصحابته بكل ما يسعهم من جهد وطاقة، إلىتدعيم العقيدة فى النفوس، والعناية بالتطبيق لكل ما جاء به الدين من تشريعات،والاستعداد التام لمجابهة كل عدو والوقوف أمامه. [وهذا يعنى أن الناحية العلميةكانت هى الجانب الأهم فى حياة الرسول والمؤمنين، وكان المسلمون ينصرفون إليها بكلجهودهم ووقتهم، بعد أن يعلمهم الرسول القائد، ما عليهم من واجبات ..
ثم لا ننسى أنه كان عليهم واجبات معيشية أخرى غير واجبات دينهم ..
[ولا ننسى أيضا أنهم مع حرصهم الشديد على التجاوب التام مع دينهم، وعلى حفظالقرآن، لم يستطع أكثرهم متابعة ما ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآنبالحفظ والاستظهار .. ولم يكن هناك أمر فى القرآن، ولا فى كلام الرسول، يوجب عليهماستظهاره كله .. لأن ذلك شىء قد يشق عليهم، ولا يستطيعون احتماله، والله لا يكلفنفسا إلا وسعها .. وليس المهم الحفظ والاستظهار، وإنما المهم فى الدرجة الأولى:التنفيذ والعمل .. وهو ما حرصوا عليه، وقاموا به.
صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحرص على أن يحفظوا، وكانوا هم الآخرينيتسابقون إلى الحفظ، ويعتبرونه مفخرة، لكن ذلك كله لم يصل إلى حد أن كل واحد منهمقد وجد الفرص الكافية لحفظ القرآن كله ... وإن كان كل واحد لم يفته أن يحفظ شيئامن القرآن قليلا أو كثيرا ..

وكانوايتفاوتون فى هذا الحفظ ويتفاضلون به، فحفظ كل منهم قدر ما يستطيع، على حسب مايتيسر له، وإن كان هناك من الصحابة جمّ غفير عرف عنهم أنهم حفظوا القرآن كله فىعهد رسول الله.
ولا شك فى أن الواحد منهم إنما كان يعنى بتفسير ما يحفظ وفهمه، على قدر استطاعته،أو بالاستعانة بالرسول، أو بغيره من الصحابة، ممن يتوسم فيهم المعرفة. أما ما لايحفظه فإننا لا نستطيع القول بأنه عنى بفهمه أو بتفهمه، اللهم إلا إذا سمع أحدايقرؤه.
ومؤدى هذا كله أن الصحابة رضوان الله عليهم مع عنايتهم الشديدة بالقرآن، لم يتيسرلجمهرتهم حفظه كله، كما لم يتوفر لهم بالتالى تفسيره وفهمه تفصيلا، وإن كان هناكمن خواصهم من تيسر لهم حفظه، وتوفر على فهمه قدر استطاعته.
وفى ذلك نروى ما قاله مسروق ((جالست أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام فوجدتهمكالإخاذ- يعنى الغدير- فالإخاذ يروى الرجل، والإخاذ يروى الرجلين، والإخاذ يروىالعشرة، والإخاذ يروى المائة، والإخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم)) يعنى يرويهم.يعبر بذلك عن اختلاف مستوياتهم العلمية، ومحصولهم من فهم القرآن، كما تختلف الآبارفى كمية مياهها ..
ويقول ابن قتيبة: إن العرب لا تستوى فى المعرفة بجميع ما فى القرآن من الغريبوالمتشابه، بل أن بعضها يفضل بعضا فى ذلك ..
وهذا أمر طبيعى كما سبق أن قررناه .. وقلنا إنه يرجع إلى استعداداتهم الفطرية، كمايرجع إلى قربهم من الرسول .. - مصدر الإشعاع- وبعدهم عنه .. وإن كان من الممكن أننقول: أنه كان هناك قدر مشترك بينهم فى فهمهم العام لما يقرءون، أو يسمعون منالقرآن، باعتبار أنهم عرب .. كما قررنا من قبل ..
وإذا كانت الدعوة الجديدة قد أخذت من الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه،جهدا ووقتا فى دعوة الناس إليها، وفى الدفاع عنها بالحجة أو

بالسيف، مماأضفى على حياتهم الطالع العملى الجاد، فلقد كان من مستلزمات ذلك أن لا تكون هناكعناية إلا بما يمس هذه الناحية العملية .. وأن يحد من الاسترسال وراء شهوة الكلاموالجدل، وإثارة الإشكالات والشبه، فإن ظروف المسلمين فيما بينهم لا تسمح بذلك، كماأن ظروفهم أمام أعدائهم المحيطين بهم من كل جانب لا تستسيغه، والبناء الجديد يقتضىاحتياطا وعناية لا بد منهما.
ومن هنا تحدد المنهج الذى يجب أن يسير عليه الصحابة فى حياتهم العلمية، وكان لذلكأثره فى فهمهم للقرآن وتفسيرهم له.

المنهج الفكرى فى الحياة الجديدة وصلته بفهم القرآن
هذا المنهج الفكرى كان من الضرورى أن يكون ملائما ومتناسقا مع الحياة الجديدةوضروراتها وفى إطارها، وإذا أمكن أن نستعمل مصطلحات العصر الحديث، قلنا: إنه كانمن الضرورى أن يكون فى خدمة الحياة الجديدة ومتطلباتها، كما يقال الآن: يجب أنيكون العلم فى خدمة الإنتاج مثلا، وأن يغذى الإنتاج الفكرى الأهداف العامة للدولة،وذلك من أجل تماسك البناء، وهو لا يزال جديدا، وعدم إصابته بهزات عكسية، تترك عليهآثارها من التخلخل والتشقق ..
فكل ما يتصل بالعقيدة وتمتين بنائها مقبول بل مطلوب. أما أن تثار حولها شبهاتومجادلات نظرية تشتت العقول، تدخلنا فى التيه، فذلك أمر غير مقبول .. وذلك مثلالكلام فى القضاء والقدر الذى لم ولن ينتهى إلى نتيجة حاسمة ولذلك نهوا عنه ..
وكل ما يتصل بتصحيح العمل- عبادة كان أم معاملة- فالكلام والسؤال والجواب فيهمقبول. بل مطلوب كذلك، ولكن بقدر ما يصحح العمل، دون الاسترسال وراء شهوة الكلاموالجدل والافتراضات.
ولقد كان القرآن ينزل فى شأن هذا وذاك، والرسول يتابعه بالبيان القولى أو التطبيقىبحيث لا يترك شيئا يحتاج إلى بيان إلا وضحه .. ومع ذلك فمن الجائز أن يبقى هناكشىء غامض لدى بعض الناس. وهذا يحمد منهم أن يستوضحوا أمره .. ومن الجائز أن تنزلآية، ويفهم منها الصحابة شيئا من التكليف الغير المستطاع أو شيئا يخالف ما فهموهمن قبل فيلجئوا إلى الرسول ويسألوه، فيوضح لهم الأمر، مسرورا بإقبالهم على فهمدينهم ..

فمثلا .. حيننزل قوله تعالى من سورة الأنعام وهى مكية الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُواإِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ 82 (1) شق ذلكعلى أصحاب رسول الله وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:ليس بالذى تعنون. ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح:
إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ 13 (2) يعنى لقمان كما جاء فى سورته.
فهذا الذى فهموه أولا من الآية السابقة أزعجهم، لأنه يتصل بحياتهم فى الآخرة، وهميحرصون على أن تكون حياة طيبة، فسألوا رسول الله، فبين لهم أن معنى الظلم فى الآيةهو الإشراك، وأحالهم على آية أخرى حكت عن لقمان قوله لابنه: (يا بُنَيَّ لاتُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) وبهذا انتهى الإشكال.
والسيدة عائشة رضى الله عنها لما سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:
«من حوسب عذب»، رأت أن هذا القول فى ظاهره، يخالف قوله تعالى:
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ 7 فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً8 وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً 9 (3)
فهناك إذن من يحاسب، ثم يلقى أهله مسرورا فى الآخرة، ولا يلحقه عذاب. والحديث يقولبصيغة التعميم (من حوسب عذب) فتلجأ إلى الرسول، وتحتج بالآية، وكأنها تعارضه.فتقول له: «أو ليس يقول الله عز وجل فسوف يحاسب حسابا يسيرا، فقال لها الرسول صلىالله عليه وسلم (إنما ذلك العرض) وفى رواية ليس ذاك بالحساب ولكن ذلك العرض، أىعرض
__________
(1) سورة الأنعام الآية 82.
(2) انظر تفسير ابن كثير ج 2 سورة الأنعام. تفسير الآية المتقدمة .. وآية لقمان13.
(3) سورة الانشقاق 7 - 9.

الأعمال على اللهتعالى وتجاوزه عن السيئات منها ثم قال الرسول: (ولكن من نوقش الحساب يهلك، أو مننوقش الحساب يوم القيامة عذب) روايات مختلفة والمعنى واحد.
وسؤال عائشة رضى الله عنها كان فى أمر مهم، يتصل بمصير الناس فى الآخرة، وما فهمتهعنه من الآية الكريمة .. ورواية أخرى عن عائشة أيضا فى هذا تقول: (سمعت رسول اللهيقول فى بعض صلاته (اللهم حاسبنى حسابا يسيرا) فلما انصرف، قلت يا رسول الله: ماالحساب اليسير؟ فقال: (أن ينظر فى كتابه، فيتجاوز له عنه. إنه من نوقش الحساب ياعائشة يومئذ هلك) (1) وهو سؤال لتوضيح معنى يتصل بالآية السابقة.
ويروى البخارى فى صحيحه- فى باب الصوم- عن عدى بن حاتم رضى الله عنه قال: لما نزلت(حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِمِنَ الْفَجْرِ) (2) عمدت إلى عقال أسود، وعقال أبيض، فجعلتهما تحت وسادتى، فجعلتأنظر إلى الليل، فلا يستبين لى، فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت لهذلك، فقال: «إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار».
وفى رواية أخرى عن عدى أيضا بلفظ آخر «لما نزلت: وكلوا واشربوا ..
الآية» عمدت إلى عقالين: أحدهما أسود، والآخر أبيض، فجعلتهما تحت وسادتى. قال:فجعلت أنظر إليهما، فلما تبين لى الأبيض من الأسود أمسكت.
أى امتنعت عن الطعام وبدأت الصيام. فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليهوسلم فأخبرته بالذى صنعت فقال: (إن وسادك- إذن- لعريض. إنما ذلك بياض النهار منسواد الليل).
وتعليق الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن وسادك لعريض) مبنى على أنه وضع تحتهالخيطين اللذين جعلهما الله كناية عن بياض النهار وظلمة الليل فاتخذ
__________
(1) انظر صحيح البخارى فى باب العلم وابن كثير فى تفسير الآية من سورة الانشقاق ج4 ص 48 طبعة الحلبى.
(2) سورة البقرة 187.

وسادته كأنهاأفق يضم هذين الخيطين. وفى رواية أخرى أنه قال له أيضا (إنك لعريض القفا) وبعضالناس يفهم من هذا أنه يرميه بالبلادة فى فهم المراد من الآية .. ولكنه منمستلزمات (إن وسادك لعريض) فما دام الوساد عريضا إلى هذا الحد فلا بد أن القفاالذى يستلقى عليه عريض كذلك بما يتناسب معه. وربما يكون ذلك إشارة إلى أنه كانمستريحا فى نومه على وسادة مريحة فتكاسل عن القيام وأجرى تجربته وهو نائم.
وهى كلها تعليقات طريفة على هذا الفهم البدائى، الذى أخذ ما فى الآية على حقيقته،ولم يفطن إلى أن ذلك كناية عن خيط النور الذى يشق سواد الليل مؤذنا بطلوع الفجر ..
والشاهد فى هذه الرواية هو أن الرجل فهم فهما فى القرآن، ثم لم يطمئن إليه بعدالتجربة التى أجراها، فذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يعرض عليه هذا الفهم،ويستوضحه الحقيقة فيه، فبين له الرسول حقيقة المراد فى الآية ..
وأمثال هذه الاستفسارات لا بدّ أنها كانت كثيرة، وقد روى البخارى ما صح منها فىصحيحه وكانت أمرا لا بدّ منه فى فهم الصحابة للآيات التى تشرع لهم فى أمر عباداتهمأو معاملاتهم .. ومن الطبيعى أن الرسول كان يتقبل هذه- الاستسفسارات بصدر رحب،ويجيب عنها بما يوضح لهم الفهم الصحيح.
لأنها كانت تدخل فى صميم الحياة العملية لهم .. ويتوقف عليها تسديد الخطى فى هذهالحياة ...
لكن العقل البشرى له جولاته فى نطاق الحياة العملية، وله تساؤلاته فيما يغيب عنه،وكثيرا ما يدفعه الفضول أو الرغبة فى الاطلاع على المجهول إلى أسئلة يرجو الإجابةعنها.
وقد نزل القرآن موجزا مجملا وحمال أوجه، وفيه متسع لمن يريد السير وراء الأسئلةالتى من هذا النوع .. حيث ركز على موضع العبرة عنها، تاركا فيها بعض الجوانب التىيلح العقل فى معرفتها عادة ..
كما أن فى القرآن بعض الآيات التى تبدو فى ظاهرها متناقضة .. فالله «ليس كمثلهشىء» كما تقرر آية، ثم تأتى آيات أخرى، فتتحدث عن أن الله

يدا (بَلْيَداهُ مَبْسُوطَتانِ) ووجها (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِوَالْإِكْرامِ) وعينا (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي)، وسمعا وبصرا (إِنَّ اللَّهَكانَ سَمِيعاً بَصِيراً). إلى غير ذلك من الآيات التى تبدو على غير اتفاق مع قولهتعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) مما أطلق عليه أنه من المتشابهات فى القرآن ..بمعنى عدم جلاء معناه عند قراءته أو سماعه، كما يفهم سريعا من قوله تعالى مثلا:(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) ..(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).
وهناك ألفاظ فى القرآن جاءت على غير ما اعتاد العرب فى كلامهم ((الم.
ألر. المص. طسم. حم. ص. ق. ن). مما بدأ الله به بعض سور القرآن ..
وهناك آيات فى القرآن الكريم تنص على أن الله «يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْيَشاءُ و (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَلَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً).
(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) وآيات أخرى صريحة فى مجازاة الإنسانعلى ضلاله وعلى عمله، وينتج عن هذه وتلك .. هذا الإشكال المزمن: هل العبد مسير أومخير؟ وكيف يحاسب الله العبد على شىء، نفذت به مشيئة الله وليس فيه حينئذ خيار؟
آيات كثيرة فيها هذا وذاك وذلك .. ومرت القرون عليها، والناس مختلفون متجادلون فىفهم المراد منها .. وستمر قرون كذلك، دون أن يصل فيها العقل إلى رأى قاطع حاسم،فماذا كان موقف صحابة رسول الله منها؟.
هل فهموها ووصلوا فيها إلى حل مريح، أو سألوا الرسول عنها فبينها لهم؟
لو أنهم فهموها أو بينها لهم الرسول، لروى لنا هذا الفهم، وهذا الحل، واسترحنا، إذليس من المعقول أن يندرس مثل هذا البيان عن هذه الآيات المشكلة، فلا يرث علمهم أحدممن أخذ عنهم، ولا نتوارثه، مع أن الروايات، نقلت لنا الكثير من أقوال الرسولوأقوالهم، مما هو أقل شأنا من موضوع فهم هذه الآيات، ومع أن عهد التابعين قد كثرتفيه الأسئلة عن غوامض القرآن.
ولكن هل تمر عليهم دون أن يفهموها، ودون أن يسألوا عنها؟ ..

أظن ذلك هوالأقرب إلى العقل .. إذ لو سألوا وأجابهم عنها لوصل إلينا ذلك فيما وصل.
وما دمنا لم نعثر على حديث صحيح عن الرسول، أو على رأى للصحابة موثوق بنسبتهإليهم، فالأقرب للعقول أنهم لم يفهموها تفصيلا ولم يسألوا عنها.
ولكن كيف مرت دون أن يفهموها، ودون أن يسألوا عنها، وهى التى تشغلنا الآن كما أنهاشغلت من كان قبلنا، وستشغل من هو بعدنا، ويكثر فى فهمها الاختلاف كما كثر من قبلدون الوصول إلى رأى قاطع ..
ما المراد بقوله تعالى فى أوائل السور: الم. المص. الر. حم .. الخ؟
ما المراد بيد الله وسمعه وبصره وعينه؟
ألم يفسرها الرسول تفسير قاطعا؟ ألم يتطلع الصحابة لمعرفتها فيتركوا لنا فيهاتفسيرا مقنعا؟
تروى بعض كتب التفسير عن أبى بكر وعمر أنهما مما استأثر الله بعلمه ..
ولو صحت هذه الرواية لكان معنى ذلك أنهم يعلمون ذلك من الرسول ..
ولقطعت هذه الرواية حبل الاجتهاد على كل متحدث يريد شرحها وفهمها ..
ولكن حبل الحديث والتفسير والاجتهاد فى فهمها لم ينقطع، حتى بلغت الأقوال مثلا فىمعنى الحروف المقطعة .. عشرات. ومغزى هذا أن هذه الرواية عن أبى بكر وعمر لم تصح،ولم تعتمد لدى المفسرين جميعا. فبقى باب الفهم والاجتهاد فيه مفتوحا.
فرأينا فريقا من المفسرين يقف عن تفسيرها ويقول (الله أعلم بمراده) وآخرين منهميفسرونها بما يمكنك الاطلاع عليه فى كتب التفسير .. وكلها تفسيرات اجتهادية ترجعإلى عقل المفسر وترجيحه ..
والسبب فى ذلك كله أننا لم نرث عن الصحابة رواية صحيحة معتمدة، تقطع الطريق على أىقول آخر.
فكيف تترك هذه الأمور غامضة دون توضيح؟ .. وهل يعقل أن تكون

معانيها غامضةعليهم، ثم سكتوا فلم يسألوا الرسول، وهو المرجع الأعلى فى تفسير القرآن وفهمه؟ ..
أسئلة أجدها كلها نابتة من جونا العلمى والفكرى الذى نعيش فيه، والذى دأب الناسفيه على أن يسألوا عن كل شىء، حتى ما لا يحتمل السؤال .. وفى هذه الأسئلة التىنتساءلها شىء .. من الاستغراب، عن موقف الصحابة وإحجامهم عن السؤال .. وشىء منالأمانى الغالية أن لو كان الصحابة سألوا عنها الرسول فبينها وأراحنا ..
فهل يلام الصحابة لعدم سؤالهم أو بيانهم؟.
إنه لا بد لنا لكى نفهم موقفهم ونقدره .. نحاول بتفكيرنا العيش معهم فى الجو الذىكانوا يعيشون فيه، ونقدر مع ذلك البساطة العربية التى كانت تنفر من التعقيد، والتىكانت طابعهم العام، ونعرف فى الوقت نفسه أن وقتهم كان وقت تعبئة عامة وتركيز حولالمسائل المهمة، التى تأخذ من حياتهم الاهتمام الأول، وهى العقيدة وبناؤها،والأحكام والالتزام بها، والأعداء الكثيرون المحيطون بهم وضرورة مجابهتهم .. وأولاوأخيرا أمة جديدة فى كل شىء، تزرع وسط حقول ألغام، ولا بد لها من الحذر والحيطةالتامة فى سيرها ..
فهل يحتمل هذا الجو- مع ما نعلمه من البساطة العربية- أن ينصرف الصحابة- والحالةحالة طوارئ- إلى مناقشات حول موضوعات لا تدخل فى صميم عقيدتهم، أو عباداتهمومعاملاتهم. وهى موضوعات أثيرت فيما بعد، بدافع من الأمن والفراغ، واتساع الحركةالذهنية والعلمية، وكثرة الداخلين فى الإسلام من غير العرب ..
لقد عاش الرسول صلى الله عليه وسلم بعد بعثته نحو عشرين سنة كانت هى مدة الدعوةإلى الدين الجديد بعد فتور الوحى، ومنذ أمره بإنذار عشيرته الأقربين، وأمره بتبليغالدعوة جهرا إلى الناس أجمعين. وقد قضى من هذه المدة نحو نصفها فى مكة فى حالة ضغطمستمر عليه وعلى أصحابه، واضطهاد عنيف تحملوه صابرين .. ومطاردة ومصادرة لهم فىأفكارهم وتحركاتهم ..

بل وحياتهم.فلم يكن من المعقول فى هذا الظرف أن تثور مناقشات نظرية حول هذه المتشابهات التىنزل أكثرها بمكة ..
وقضى رسول الله فى المدينة نحو عشر سنوات كذلك، قضاها كلها فى دفاع وحروب مستمرةفرضها عليه أعداؤه .. فكانت كلها سنوات طوارئ بلغتنا الحديثة .. وفى حالات الطوارئلا يقبل فيها من الكلام والمناقشات ما يقبل عادة فى حالات الأمن والرخاء .. بلتفرض التعبئة العامة جوها على الحياة وعلى الأفكار ..
هل يكون من المقبول والمستساغ لدينا- إذا كنا فى حالة حرب أو طوارئ وتعبئة- أننثير فى الصحف بحوثا ومجالات نظرية تشغل الأفكار وتمزقها، ولو حول بعض المسائلالدينية البعيدة عن جونا الذى نعيش فيه؟
هل يستساغ أن نثير فى مثل هذه الحالة بحثا حول جواز ترجمة القرآن مثلا، أو عدمجوازها؟ أو حول من كان أحق بالخلافة. أبو بكر أم على؟. أو حول المراد من الحروفالمقطعة التى بدئت بها بعض السور؟ أو حول القضاء والقدر؟
وهل الإنسان مسير أو مخير؟ - أو حول القرآن، وهل هو مخلوق، أو غير مخلوق؟. أو نثيربحثا حول الشعر القديم والشعر الحديث؟. أو نعيد سيرة البيزنطيين فنتناقش: أيهماالأصل: البيضة أم الدجاجة؟!!
وإذا كنا لا نستسيغ ذلك حاليا مع شهوتنا الملحة دائما فى الكلام والجدل، فكيف يمكنأن نطلب من الرسول .. وصحابته وقد كانوا فى حالة طوارئ مستمرة، وحالة حرب، وخطرالحرب، أن يسألوا ويبحثوا فى أشياء نظرية، وبعضها قد يثير الاضطراب الفكرى، ويبعثرالجهود، ويشتت الأفكار، ويؤدى إلى الدخول فى التيه؟ ..
ولكن أليس فى فهم معنى يد الله وسمعه وبصره اتصال بالعقيدة؟
نعم .. كان له اتصال .. ولكنهم فهموه فهما إجماليا وتركوه، واكتفوا بهذا ولمينساقوا الى ما وراءه مما أثير بعد ذلك .. اكتفوا واكتفى منهم الرسول بأنهم مؤمنونبالله وبصفاته كما جاء فى كتابه، وليس لهم أن يشغلوا أنفسهم وأفكارهم بالبحث

عن: كيف،ولماذا؟ بدليل أننا لو آمنا الآن بصفات الله كما وردت فى القرآن، وفوضنا معناهاإلى الله، ما كان فى ذلك بأس، بل إن بعضنا يقول: هذا هو المطلوب منا. وهكذا سارالمسلمون بعد الرسول. وتحرجوا عن السؤال فى هذه المتشابهات وقال الإمام مالك: إنالسؤال عنها بدعة.
ومع أن طابع الحياة العملية وظروفها التى عاشوا فيها قد أملى عليهم هذا الاتجاه،كان هناك بجوار هذا أو قبل هذا توجيهات من القرآن الكريم، ومن رسول الله صلى اللهعليه وسلم تحبذ مثل هذا أو تدعو إليه، وترسم منهجا لتفكيرهم وأسلوب فهمهم للقرآن،والدين الجديد الذى اعتنقوه ..

لا تسألوا عن أشياء ...
إن المعروف فى تاريخ الأديان والمذاهب حتى الوضعية منها أن الدور الأول فيها يكونالجهد فيه منصرفا الى القواعد العامة، والى إشعال الروح، والى التطبيق العملى
لتعاليمها .. أما التفريعات والتعليلات، أو التماس فلسفة لهذه القواعد وهذهالتعاليم، فذلك يكون بعد إرساء القواعد، وتكميل البناء، وغالبا ما يصاحب ذلك شىءمن خمود الروح ولو نسيبا عما كانت عليه فى الدور الأول .. دور الحماس وفورانالعاطفة ..
لقد وجدنا القرآن الكريم يتعرض لأناس يكثرون من سؤال الرسول ووجدوها فرصة يشبعونفيها نهمهم فى الأسئلة عما فى نفوسهم حتى أدى شغفهم بكثرة الأسئلة إلى أن يسألواحد منهم رسول الله: اين أبى؟ فيضطر الرسول إلى أن يخبره أنه فى النار، وكان قدمات على الكفر .. ويسأل آخر: من أبى؟ وآخر أين ناقتى؟ وآخر يسأله عن الحج أواجبمرة فى العمر أم فى كل سنة .. إلى غير ذلك، فأنزل الله آية تحسم هذه الحالة، وتحدمنها، لأنها لا جدوى منها ولا تتناسب مع الرسول ووقته ومهمته، ولا مع الصحابة وماينبغى أن ينصرفوا إليه فى حياتهم، فقال
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْتَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْعَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ 101 قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْقَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ 102 (1)
وفى ألفاظ الآيتين وترتيبها المنطقى من قوة الردع والزجر ما تنخلع منها القلوبوتخرس الألسنة «إن تبد لكم تسؤكم. وإن تسألوا عنها حين ينزل
__________
(1) المائدة/ 101، 102.

القرآن تبدلكم. ثم «قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين».
ردع قوى عن الاسترسال فى توجيه أسئلة للرسول لا داعى لها فوق أنها تشغله، وما كانهذا الردع القوى إلا لأن «الناس» كانوا كما جاء فى حديث أنس رضى الله عنه «سألوانبى الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أضنوه بالمسألة. وفى حديث آخر يوضح المعنى«فلما أكثروا عليه المسألة غضب». وكان من أثر غضبه عليه الصلاة والسلام أن قاللهم: ذرونى ما تركتكم.
وأجدنى فى حاجة لأن أقف قليلا لأوضح: لم غضب الرسول؟ حتى لا أترك فى ذهن القارئعلامة استفهام كبيرة لا جواب عنها ..
سبب الغضب يمكن أن يبينه هذا الحديث «خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال- إنالله قد فرض عليكم الحج. فقال رجل- أفى كل عام؟ فسكت عنه. حتى أعاده ثلاثا. فقال:لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت، ما قمتم بها أو لما استطعتم .. ذرونى ما تركتكم،فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيءفخذوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه.» (1)
فمثل هذا السؤال من الرجل «أفى كل عام؟» لا محل له .. إذ لو كان فى كل عام لبينهالرسول دون حاجة إلى سؤال أحد. ثم كان على الرجل أن يكون فطنا حين لم يرد عليهالرسول، فيسكت هو الآخر، ولا يتمادى فى السؤال، كأنه هو الحريص وحده على البيان ..ومثل هذا الموقف كثيرا ما يدخل صاحبه فى باب التنطع الذى قال عنه الرسول «هلكالمتنطعون»، والاسلام ذوق، وجمال، وإحساس، وجو، لا بد أن يشيع فيه هذا كله.
والذين ما رسوا مهنة الدعوة أو التدريس، هم أكثر الناس إدراكا وفهما لمثل هذاالموقف، فكثيرا ما يجابه المدرس بأسئلة، تنطلق من بعض الطلاب
__________
(1) سنن النسائي ورواه مسلم وغيره بألفاظ مختلفة راجع تفسير الآية فى ابن كثير وفىالمنار وغيرهما، وكيف كان غضب الرسول من كثرة الأسئلة فى موضوعات متعددة لا أهميةلها أو تؤدى للتشديد عليهم.

كالرشاش فى(الفاضى والمليان) وقبل الشرح أحيانا، وخارج موضوع المدرس أحيانا، ولو استرسلالمدرس مع السائل لتشتت الموضوع، وضاع الوقت، وتبرم الباقون، ولو سكت الطالب(المتسائل) لجاءه الشرح الذى ينبغى له أن يفهمه، ولا يزيد عليه، وخرج هو وزملاؤهبالفائدة المرجوة ..
ثم ماذا ربح السائل: أين أبى؟ «حين قال له: فى النار .. ومعروف أن الذين ماتوا علىالكفر مآلهم النار كما قال عمر ملطفا حدة الموقف، ثم هذا الذى سأل: من أبى؟ أكانيضمن- كما قالت له أمه توبخه- أن أمه علقت فيه من غير أبيه فكان يفضحها أمامالجميع ويفضح نفسه؟ جو اندفع إليه الصحابة، ولم يكن لائقا أبدا بهم ولا بالرسولومهماته ..
فكان لا بد للرسول أن يغضب من هذه الحالة التى تضيع الوقت وتبعد المسلمين عنالطابع الجدى الوقور، الذى يجب أن يكون طابع مجالس الرسول، ومجالس العلم بعامة،وطابع الجد الذى يعيشون فيه،
ومن هذا يتضح جليا سبب الغضب، ويبعد عن الأذهان ما قد يناوشها- من أن الرسول لميكن يجب أن يسأل عن بيان أمر شرعى، يتصل بتصحيح عقيدة المؤمن وعمله، لأن ذلكيتنافى مع طبيعة الرسالة ومهمة الرسول ..
ولعل الأمر يزداد وضوحا إذا ذكرت هنا آية أخرى فى هذا المقام- ولو أن الاستطرادسيطول- لكن هذه النقطة لا بدّ أن أوضحها تماما .. ولا أترك لها مخلفات فى الأذهان.. هذه الآية من سورة المجادلة تقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذاناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَخَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ12 (1)
كيف هذا؟
هل مناجاة الرسول ومحادثته تقتضى أن يتصدق المتحدث قبل أن يقدم على مناجاته؟
__________
(1) سورة المجادلة الآية 12.

أليس الرسولمبينا، ومن مهمته أن يتحدث للناس ويستمع إليهم؟
بلى. من مهمته ذلك. ولكن حسن خلقه وسيره على طبيعته السهلة أطمع كل من حوله فى أنيتحدث معه، ويناجيه، وقد ينفرد به، وقد يشغله، وقد يقتحم عليه أوقات راحته، وقديتحدث معه فى توافه الأمور، فكان تواضعه وحسن خلقه سببا فى إيجاد شىء من عدم الدقةفى فهم مقام الرسول، وما ينبغى أن يكون عليه الحديث معه .. ولما يجب من توفير وقتهللمهم من الأمور، أو كما نقول سببا فى «رفع الكلفة» فى الحديث معه، فكان لا بد منوقفة، أو من هزة تنبه الجميع إلى ما يجب أن يكون عليه الحديث مع الرسول، فليس هومثلهم. إنه رسول .. وإذا كان قد رباه ربه على التواضع، فليس معنى ذلك أن تزيلوا كلحجاب، أو ترفعوا الكلفة بينكم وبينه وتشغلوا كل وقته بأسئلتكم ومحادثاتكم.
إن مقامه عظيم، ومقام المحادثة معه عظيم، يقتضى أن يقدم من يريد الحديث معه صدقة.نعم. لا حجاب، ولا حراس، ولا استئذان ولكن صدقة من مال، أفهمتم مقام الرسول؟أفهمتم خطورة التحدث معه؟ لا بد أن تتأدبوا. لا بد أن تحتاطوا.
وعرفوا قدر المحادثة مع الرسول ومناجاته وقيمة وقته، وأحجموا .. حتى أقرب الناسإليه وهو على رضى الله عنه، لما أراد أن يحدثه، قدم صدقة قبل أن يتحدث معه، ثمتحدث .. وكان المهم أن يعوا هذا الدرس، ويعلموا أنهم يتحدثون مع رسول الله، ولا بدأن يكون الحديث جديا مناسبا لمقامه.
وقد فهموا هذا ووعوه، ثم أدركتهم رحمة الله سريعا وأعفتهم من هذه الصدقة، لكن بعدأن فهموا وتعلموا، فقال الله لهم أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْنَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْفَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُوَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ 13 (1)
ومنه حفظكم لمقام الرسالة والرسول وتأدبكم فى الحديث معه.
__________
(1) المجادلة/ 13.

وفى معنى هذاأيضا يقول الله «لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا «من أواخر سورةالنور، وقوله فى أوائل سورة الحجرات «يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوتالنبى ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون، إنالذين يغضّون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرةوأجر عظيم، إن الذين ينادونك من وراء الحجرات (كما ينادون أمثالهم) أكثرهم لايعقلون، ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم».
أدب مع النبوة يجب أن تتأدبوا به. فلما غفلوا عنه غضب الرسول وغضب الله له. حتى لايكون هؤلاء (المتنطعون) سببا فى الإثقال على غيرهم .. كما قال الله «إِنْ تُبْدَلَكُمْ تَسُؤْكُمْ، وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَلَكُمْ». وكما قال الرسول:- «لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم».
ولقد كان هذا الدرس نافعا ومفيدا، بل ذهب إلى نفوس الصحابة إلى أكثر من مداه ..وهذا هو شاهدنا وموضع هدفنا من الآية وأثرها ..
فلقد تخوف الصحابة من السؤال، أى سؤال، وتحرجوا منه، مما يمكن أن نعده رد فعل لماكانوا عليه أولا، قبل أن يغضب الرسول وتنزل الآية .. فقد أداهم الخوف والخشية إلىأن يحجموا عن الأسئلة، خوفا من أن يبدو منهم ما قد يكون محل مؤاخذة فآثروا العافية.. والرواية الآتية تبين لنا إلى حد آثروا العافية وتخوفوا الأسئلة ..
روى مسلم فى صحيحه عن أنس رضى الله عنه قال «كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى اللهعليه وسلم عن شىء، وكان يعجبنا أن يجئ الرجل الغافل من أهل البادية (أى الذى لميبلغه أمر النهى كما بلغنا) فيسأله ونحن نسمع (1)، وأخرج الإمام أحمد فى مسنده عنأبى أمامة قال:- «لما نزلت، يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء» الآية، كنا قداتقينا أن نسأله صلى الله عليه وسلم فأتينا أعرابيا،
__________
(1) عن تفسير المنار ح 7 ص 148 نقلا عن فتح البارى.

فرشوناه برداءوقلنا سل النبى صلى الله عليه وسلم والأعرابى ليس بملتزم بما يلتزمه المقيمون معالرسول .. والرشوة هنا ليست هى الرشوة المحرّمة طبعا، بل هى تحريض على خير يريدونهولا يستطيعونه.
وروى مسلم أيضا عن النواسى بن سمعان قال: «أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلمسنة بالمدينة ما يمنعنى من الهجرة إلا المسألة، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل النبىصلى الله عليه وسلم».
فلم يتخذ النواسى صفة المقيم بالمدينة حتى لا ينطبق عليه ما ينطبق على المقيمين معالرسول من تحشم واحتياط فى الأسئلة، وظل سنة ضيفا، دون أن يأخذ حكم الإقامة،
لتكون له الحرية فى سؤال الرسول عما يريد. لأن الحرج كان خاصا بالمقيمين لابالوافدين؟؟؟ .. لأنهم يتزودون بالعلم ويرحلون، وتسامح معهم أكثر مما يتسامح معالمقيمين.
وروى أبو يعلى عن البراء «إن كان ليأتى على السنة، أريد أن أسأل رسول الله صلىالله عليه وسلم عن الشيء فأتهيب، وإن كنا لنتمنى الأعراب، أى قدومهم، ليسألوافيسمعوا هم الأجوبة عن أسئلة الأعراب فيستفيدوا منها ..
إلى هذا الحد بلغ رد فعل هذا الدرس الذى فهموه من الآية: إحجام عن السؤال معرغبتهم الشديدة فيه، حتى يحرضوا الأعرابى، ليسأل بدلهم، ويغروه بشيء فى مقابلالسؤال، واستماعهم معه للجواب .. مبالغة فى الأدب، مع حرص شديد على الاستفادة ..
ومع أن الآية- كما يفهم من مدلولها- لم تنههم عن السؤال أيا كان موضوعه، بل نهتهمعن أسئلة من نوع خاص، بينته لهم «إن تبد لكم تسؤكم» كما أن الحالة التى نزلت الآيةتعالجها كانت مفهومة عندهم، أقول ومع ذلك أحدثت الآية فى نفوسهم رد فعل زائد عنالحد المطلوب فيها.
ولو أنهم- مع هذا المعروف عنهم- لم يغفلوا أول الأمر عما كان يجب عليهم من مراعاةمقام الرسول، والحفاظ على وقته الثمين، الذى يجب صرفه كله للأمور المهمة، لما حصلهذا كله .. ولكنه درس لهم، ولكل من أتى أو يأتى من بعدهم، حتى لا تشغلهم التوافهعن العظائم، ولا يتشددوا فيشدد الله

عليهم، وحتىيوفروا للعلماء ولمن يدبرون لهم الأمور أوقاتهم، وينزلوا الناس منازلهم.
ونعود بعد هذا لنتساءل- هل معنى هذا أنه لم يعد بعد نزول الآية استفسار من الصحابةللرسول عن أمور تهمهم فى دينهم؟
. لا .. إذ لا يمكن أن تزول ظاهرة السؤال والجواب .. ما دام الرسول حيا .. ينزلعليه الوحى بتشريعات جديدة، تحتاج أحيانا- ولدى بعض الناس على الأقل- إلى استفساروتوضيح ..
فما معنى تهيب هؤلاء، حتى كانوا يستعينون بالوافدين عليهم، أو ينتظرون قدومهم،ليسمعوا أسئلتهم وجواب الرسول عنها؟
الذى أفهمه من جملة النصوص ومن طبيعة الرسالة معا أنه حدث تهيب عام من الأسئلة بعدنزول الآية، لم يمتد إلى الضرورى مما تمس الحاجة إلى السؤال عنه .. ولكنه وضع حداللسؤال فيما لا تمس الحاجة إليه، ولا تتوقف صحة العقيدة والعمل عليه .. بالإضافةإلى أن بعض الناس رأى من باب الأحوط أن يأخذ نفسه بعدم السؤال عن شىء، خوفا منالوقوع فى الحرج، مكتفيا بما يسمعه من سؤال الوافدين على الرسول، وإجابته لهم، أوببيان صحابى له، يكون أكثر إدراكا وفهما منه ..
ومما لا شك فيه أن هذا الجو الذى أحدثه نزول هذه الآية كان له تأثيره فيما يتصلالاستفسار عن بعض ما فى القرآن من ألفاظ وموضوعات ذكرنا شيئا منها وتساءلنا- كيفتمر فى عهد الرسول، دون أن يسأل أحد من الصحابة عنها ودون أن يصلنا شىء موثوق بهعن معناها وتفسيرها، وكان من الممكن- لو وجد- أن يقطع كل خلاف بين العلماء حولتفسيرها ..

فى قلوبهم مرض
ومع ذلك لم تكن هذه الآية هى كل ما فى الموضوع، بل كان هناك غيرها، يشاركها فىتأثيرها.
وأعنى بها قوله تعالى
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّالْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌفَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِوَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّاأُولُوا الْأَلْبابِ 7 (1)
وقد كان سبب نزول الآية نقاشا دار بين النبى عليه الصلاة والسلام، وبين وقد نصارىنجران، فى شأن عيسى عليه السلام، كانت نتيجته إفحامهم، فلجئوا إلى الجدال والمراءفقالوا: ألست تقول إنه من روح الله وكلمته؟ قال:
بلى، قالوا: هذا حسبنا .. فنزلت الآية تندد بهم لوقوفهم- خدمة لهواهم- عند ما وردفى القرآن من أنه روح الله وكلمته، غير ناظرين إلى الآيات الأخرى المحكمة التىتبين حقيقة عيسى عليه السلام، مثل قوله: «إن هو إلا عبد أنعمنا عليه» فى سورةالزخرف المكية، وغير ذلك من الآيات التى تبين حقيقة ولادته وبشريته مثل «إِنِّيعَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ .. » (2).
ونلاحظ أن الآية توجه حملتها على الذين يعمدون إلى الألفاظ المتشابهة ..
مثل هؤلاء .. فيؤولونها حسب هواهم، بقصد إثارة الفتنة .. وابعاد الناس
__________
(1) أوائل سورة عمران.
(2) سورة مريم الآية 30.

عن الحق ..«فأما الذين فى قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله»على حسب هواهم، مع أن هناك آيات أخرى تحول بينهم وبين اتباع الهوى ..
ولكنهم يتعامون عنها، ويهملونها، انتصارا لرأيهم، وتلبيسا على العوام، وجذبا لهم...
وفى مقابل ذم هؤلاء الذين يتعامون عن الحقائق، ويثيرون الفتن، ذكر الله طائفة أخرىلا تذهب مذهب الأولين فى إثارة الفتن بالمتشابه بل تؤمن به إيمانها بالمحكم،باعتبار أنهما صادران عن الله سبحانه، وسماهم الراسخين فى العلم، أى الراسخين فىعلمهم بالله جل جلاله، وبالتالى فى إيمانهم به. فقال تعقيبا على الأولين وبيانالموقف الآخرين (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِيالْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُإِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ). ربنا (أى يدعو الراسخون المؤمنون ربهم قائلين) لاتزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، لفرط إيمانهمواعتصامهم بربهم.
وبذلك وضح موقف فريقين من الناس: فريق يعمد للمتشابه ليؤوله تأويلات فاسدة يقصدمنها إثارة الفتن، وفريق يؤمن به كما يؤمن بالمحكم من الآيات.، والفريق الأولمذموم.، والفريق الثانى ممدوح.
ويؤكد هذا حديث روته السيدة عائشة رضى الله عنها تقول فيه: (تلا رسول الله صلىالله عليه وسلم هذه الآية وقال: (فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئكالذين سمى الله فاحذرهم.
ومع أن الآية والحديث- كما رأيت- يذمان الذين يتبعون المتشابه، ويؤولونه تأويلايثير الشبه والفتن، ولا يتناولان الذين يسألون عن المتشابه سؤالا بريئا بقصدالفهم، أو الذين يذكرونه، ويردونه إلى المحكم، ويفهمونه على ضوئه، أقول مع هذاأصبح السؤال عن المتشابه أو الحديث عنه مثيرا لعلامة استفهام حول صاحبه، أو واضعاله موضع الريبة فى إيمانه، حتى تتبين حقيقته ...
ولذا كان من الطبيعى أن يتحاشى المخلصون الصادقون هذه الريبة، ويبتعدوا ما أمكن عنالكلام حول المتشابه ويكتفوا بالفهم الإجمالى، رادين كل

ما يسمعونه أويقرءونه منه، إلى إيمانهم العميق بالله جل جلاله. وتسليمهم المطلق بكل ما ورد فىالقرآن، ولو لم يفهموا حقيقة المراد منه، حتى يكونوا ممن مدحهم الله.
فمثلا الآيات التى تتحدث عن مشيئة الله ومشيئة العباد. وعن قضاء الله وأفعالالعباد. فيها آيات ترد كل شىء إلى الله «وما تشاءون إلا أن يشاء الله» ..
وآيات تضيف العمل إلى الإنسان «كل امرئ بما كسب رهين» فكيف نوفق بين مشيئة الله،وقضائه وقدره بالنسبة لعباده، وبين محاسبة العبد على ما يفعل؟
هذه القضية التى شغلت الناس قبل الإسلام وبعده، وإلى الآن، وإلى ما شاء الله منأزمان وأجيال ..
وفى غمرة الاختلاف حول هذه القضية نتمنى- حسب تفكيرنا- أن لو أثار الصحابة هذهالقضية ليجدوا لهم ولنا حلها من الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولكنا لم نرث هذا البيان، ولو كان .. لورثناه ..
وبالإضافة إلى هذا نجد توجيها من الرسول فى هذا: «إذا ذكر القدر أو القضاءفأمسكوا» (1) أى ولا تخوضوا فى البحث عنه .. ولذلك كان الخلفاء بعد الرسول يطاردونكل من يثير كلاما حول القدر، بعد اتساع رقعة الإسلام.
وعن صفات الله، وما ورد عنها فى القرآن من الوجه، واليد والعين والسمع والبصر ..الخ- مما يدل على المشابهة، ويفيد فى ظاهره التجسيم، وهو محال، بنص الآية الأخرى«ليس كمثله شىء» فماذا تفيد- إذن- وما المراد بها؟.
كان الكلام فى هذه الناحية والاسترسال فيه مما حظره الرسول، فوق أنه يثير شبها حولصاحبه .. ولذا لم نجد من يسأل عن حقيقة الوجه واليد .. الخ ..
بل آمنوا بها كما وردت مع إيمانهم بأنه ليس كمثله شىء ...
يقول العالم المحقق شاه ولى الله الدهلوى فى كتابه (حجة الله البالغة) ص 134 ج 1بعد أن تكلم عن هذه الصفات: (والحق فى هذا المقام أن النبى صلى
__________
(1) رواه الطبرانى من حديث ابن مسعود بإسناد حسن.

الله عليهوسلم لم يتكلم فيه بشيء، بل حجر (أى منع) أمته عن التكلم فيه، والبحث عنه، فليسلأحد أن يقدم على ما حجره).
وقد روى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه ضرب رجلا يقال له (صبيغ)، لأنه كان يسأل عنمتشابه القرآن، وما زال به حتى تاب ..
يقول الإمام الشاطبى فى كتابه (الموافقات) الجزء الثانى ص 87 فى فصل عقده لبيان أنالاعتناء بالمعانى المبثوثة فى الخطاب هو المقصود الأعظم:
(ومن المشهور تأديبه لصبيغ حين كان يكثر السؤال عن (المرسلات) و (العاصفات)ونحوهما).
وجاء فى مسند الدارمى ما يوضح ذلك حيث قال: «أخبرنا عبد الله بن صالح حدثنى الليثأخبرنى ابن عجلان عن نافع مولى عبد الله، أن صبيغا (بالصاد المهملة) العراقى، جعليسأل عن أشياء فى القرآن، فى أجناد المسلمين، حتى قدم مصر، فبعث به عمرو بن العاصإلى عمر بن الخطاب، فلما أتاه الرسول بالكتاب فقرأه فقال: أين الرجل؟ فقال: فىالرحل: فقال عمر: أبصر أن يكون ذهب، فتصيبك منى به العقوبة الموجعة. فأتاه، فقالعمر: تسأل محدثة؟ فأرسل إلى رطائب من جريد (أى لإحضارها)، فضربه بها، حتى ترك ظهرهدبرة (1). ثم تركه حتى برأ، ثم عاد إليه، ثم تركه، حتى برأ، فدعا به ليعود إليه،قال: فقال صبيغ: إن كنت تريد قتلى فاقتلنى قتلا جميلا، وإن كنت تريد أن تداوينىفقد- والله- برأت. فأذن له إلى أرضه، وكتب إلى أبى موسى الأشعرى أن لا يجالسه أحدمن المسلمين، فاشتد ذلك على الرجل. فكتب أبو موسى الأشعرى إلى عمر أنه قد حسنتتوبته.
فكتب عمر أن يأذن للناس بمجالسته. وهذا كله لأنه أثار فى الناس أسئلة لم يعهدوها،وليس من المناسب إثارتها ..
وفى رواية: فأتى بعراجين النخل فقال من أنت؟ قال عبد الله صبيغ، فأخذ عمر عرجونامن تلك العراجين فضربه وقال: أنا عبد الله عمر .. فجعل
__________
(1) بها قروح كما يفعل رحل الدابة بها من القروح.

له ضربا حتىدمى رأسه. فقال: يا أمير المؤمنين حسبك. قد ذهب الذى أجد فى رأسى ...
وهذه الرواية وتلك لهما دلالتهما فى موضوعنا .. ولا سيما فى قول عمر للرجل يؤنبه:تسأل محدثة؟ أى أتثير بين الناس أمرا جديدا لم يتعودوه قبل ذلك؟ وهو السؤال عنمعنى قوله تعالى «وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً» .. ونحوهما.
مما يدل على أن مثل هذه الأسئلة لم يكن من المعتاد أن يسألها الصحابة فى زمنالرسول، وحتى عهد عمر .. بل كانوا يعتبرونها تكلفا يثير الشبهة ... وفى الاهتمامبإرسال الرجل من مصر الى المدينة، وضرب عمر له، ثم فى أمره لأبى موسى بعزله عنالمسلمين، ما يعطينا دلالة قوية على سوء النظرة فى ذلك الوقت، إلى كل من يثير مثلهذه الأسئلة .. ودلالة على مقدار حرص عمر وولاته، على تجنيب المسلمين الاشتغالبمعانى المرسلات والعاصفات ونحوهما، مما يعدونه متشابها، محافظة على النهج الذىكان فى عهد الرسول وخليفته أبى بكر، ولذلك أنكر عليه مسلكه وقال له: أتسأل محدثة؟لأنه يحدث فى الوسط الإسلامى ما لم يتعوده .. ولهذا أيضا نجد الإمام مالك يقول فىالرد على من يسأله عن معنى (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)، الاستواء معلوم،والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة.
وحينئذ لا بد أن يرد على ذهن القارئ سؤال: كيف إذن كانوا يفهمون مثل هذا؟
وجواب هذا .. أنهم كانوا يكتفون بالمعنى الإجمالى، وما يفيده السياق فى مثل هذهالأمور وغيرها، مما لا يتعلق بها حكم تكليفى محدد. فمثلا .. القسم بالمرسلات ومابعدها من العاصفات والناشرات والفارقات .. يفهمون أنها أشياء عظيمة، يقسم الله بهاعلى أمر مهم، وهو: البعث .. لا يهمهم المراد بالعاصفات. كما عنى بها من بعدهموقالوا: الرياح، أو الملائكة، ولم يتفقوا على رأى، لأنهم يجتهدون فى بيان المراد،ولكل اجتهاده. فكان الصحابة لا يخوضون فى بيان المراد تحديدا، بل يرون أن ذلك تكلفلا يصح الاشتغال به، ما دام المعنى الكلى مفهوما، وليس هناك ما يوجب فهم المرادبالمفردات ..

[مثل آخر]
ومثل آخر يوضح هذا ويؤكده، وهو لا يتعلق بالمتشابه، بل يتعلق بكلمة عادية، ولهذادلالته فى موضوعنا، روى أن عمر رضى الله عنه قرأ (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) من سورة(عبس) فقال وما الأب؟ ثم قال: ما كلفنا هذا، مع أن الأب ليس من المتشابه، ولكن عمررأى السؤال تكلفا منهيا عنه، إذ لا بد أن الأب نبات خلقه الله، وهذا يكفى. والشاهدأن عمر كان من حفاظ القرآن .. وقرأ هذه الآية مرات .. حتى سأل نفسه أخيرا هذاالسؤال، ثم استدرك وأعلن أن البحث عن مثل هذا تكلف لا داعى له، بل نهوا عنه ...
وعمر بلا شك كان يدرك المعنى الإجمالى. وهو العبرة المستمدة من خلق الله هذهالأشياء: «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَصَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا وَعِنَباًوَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا. وَحَدائِقَ غُلْباً وَفاكِهَةً وَأَبًّامَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ» (1) فالأب لا يخرج عن كونه نباتا جعله الله معما ذكره من أنواع ما تنبته الأرض «متاعا لكم ولأنعامكم» أما ما هو بالذات .. فلميكن يعرفه عمر كما روى، والاشتغال بمعرفته تكلف كما قال .... والمعنى العام لايتوقف على معرفته ..
وقد رويت حادثة السؤال عن (الأب) بتشديد الباء، بروايات مختلفة فى بعضها زيادات عنالبعض الآخر وكلها توضح المعنى الذى نريده .. ففي رواية أن عمر رضى الله عنه سألنفسه عن الأب. ثم قال: ما كلفنا هذا، كما سبق، ورواية تقول: أن رجلا سأل عمر، فقالله عمر: نهينا عن التكلف والتعمق .. وفى رواية أن عمر قرأ (وَفاكِهَةً وَأَبًّا)فقال هذه الفاكهة عرفناها، فما الأب؟ .. ثم استدرك وقال: هو التكلف. فما عليك ألاتدريه ..
وقد أورد الإمام الشاطبى روايتين من هذه الروايات، وضم إليهما رواية تأديب عمرلصبيغ، لسؤاله عن المرسلات الخ .. ثم قال: (وظاهر من هذا كله أنه إنما نهى عنه لأنالمعنى التركيبى معلوم على الجملة، ولا ينبنى على فهم هذه الأشياء حكم تكليفى فرأىالاشتغال به عن غيره مما هو أهم منه تكلف).
__________
(1) سورة عبس 24 وما بعدها.

ثم قال «فلوكان فهم اللفظ الافرادى يتوقف عليه فهم التركيبى لم يكن تكلفا (أى لم يكن السؤالتكلفا) بل هو مضطر إليه، كما روى عن عمر نفسه فى قوله تعالى «أَوْ يَأْخُذَهُمْعَلى تَخَوُّفٍ» فإنه سأل عنه على المنبر، فقال له رجل من هذيل: التخوف عندنا هوالتنقص. ثم أنشد:
تخوف الرحل منها تامكا قردا ... كما تخوف عود النبعة السفن (1)
(أى أن رحل الناقة أخذ من سنامها المتلبد- تنقص منه- كما يأخذ المبرد وينقص منالعود، بمعنى أزال بعضه فقال عمر: أيها الناس تمسكوا بديوان شعركم فى الجاهلية فإنفيه تفسير كتابكم .. )
ومع الدلالة التى أوردنا هذه الرواية لها .. نأخذ دلالة أخرى تؤكد ما سبق أنأوردناه .. وهو أن بعض الألفاظ من غير المتشابه ظلت غير مفهومة لحفاظ القرآن حتىتوفى الرسول لعدم ورودها فى لهجتهم دون أن يسألوه عنها مع ملازمتهم له أو قربهم منهعليه الصلاة والسلام خوفا من رميهم بالتكلف، والاشتباه فى إيمانهم، مكتفين بفهمالمعنى العام التركيبى.
وهذا بالتالى يدلنا على أنه ليس بلازم للصحابى- وإن كان فى المقدمة- أن يحيط علمابكل المعانى الدقيقة لألفاظ القرآن .. كما نظن نحن الآن .. وليس هذا ماسا بهم،لأنهم كانت لهم شواغلهم وأعمالهم، وكانوا يفهمون منه ما يتصل بالعقائد من الألفاظالظاهرة المحكمة، وما يتصل بالتكاليف. فهذا أمر ضرورى .. ويفهمون مما عدا ذلككثيرا أو قليلا، كل على قدر استعداده .. ووقته فهما إجماليا. علما بأن القرآن عربىوهم عرب، وأقدر الناس على فهمه .. لكن هذا لم يمنع أن تكون هناك ألفاظ لها معانخفيت على بعضهم، أو لها مراد لم تصل إليه عقولهم لأنها تتحدث عن أمور لم يألفوها،ولم يسألوا عنها، تحاشيا من الوقوع فى التكلف الذى نهوا عنه، أو من الاشتباه فيهم...
__________
(1) التامك: المرتفع من السنام. القرد: المتلبد. النبعة: شجر. والسفن: المبردونحوه.

فى حدود ثقافة الصحابة فهموا القرآن
«نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب» (حديث)

المستوى الثقافى
ومن الضرورى أيضا أن نلاحظ المستوى الثقافى الذى كان عليه الصحابة وتلقوا بهالقرآن الكريم أو فهموه على ضوئه.
وهو عامل مهم .. لأنه على قدر وعى الانسان وثقافته، يكون فهمه لما يقرأ، أو يسمع،أو يكون حسن استقباله له،. ووضوحه عنده، كأجهزة الاستقبال. فعلى قدر سلامتهاوقوّتها، يكون وضوح ما تتلقاه، أو تستقبله ..
ونحن ندرك من واقعنا أن الخطبة تلقى على المستمعين، فيأخذ كل منها على قدر ثقافتهووعيه، وأن الكتاب يقرأ، فلا يكون الجميع متساوين فى فهمه واستيعابه. بل على قدرثقافة السامع أو القارئ يكون الفهم، ويكون الاستيعاب.
هذه حقيقة أولى لا جدال فيها ..
الحقيقة الثانية: أن القرآن عربى وفى أعلى درجات البلاغة. وهو بلغة القوم الذين نزلفيهم أولا .. وخاطبهم وتحداهم .. فمن الطبيعى أن يفهموه (وَما أَرْسَلْنا مِنْرَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) (1)
ولقد فهموه، وأدركوا بلاغته، وعرفوا منها مصدره (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِوَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ)، آمن به من استجاب لفطرته، وصد عنه من قامت الحوائلعنده دون الاستجابة لهذه الفطرة، ولكنه كان فهما قائما على ما أتقنوه من فنونالمعرفة وكان أولها وأهمها: الناحية البلاغية اللفظية.
__________
(1) سورة إبراهيم/ 4.

الحقيقةالثالثة: أن أهم ما جاء القرآن من أجله هو العقائد والأحكام، وما يتصل بها منمكارم الأخلاق، ومن أجل توضيح العقائد وتدعيمها، والتدليل عليها، وتثبيت الداعينإليها، جاءت الآيات التى تتحدث عن دلائل قدرة الله فى خلقه، والآيات التى تسرد قصصالسابقين ...
أما الآيات التى تتحدث عن العقائد، كالإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليومالآخر فهى آيات واضحة، يفهم مضمونها كل عربى، دون كبير عناء وبمجرد أن يسمعها أويقرأها، حتى بعد أن ضعفت السليقة العربية فيهم، وذلك فى حدود قدرته وتصوره، وأماآيات الأحكام والأخلاق، فهى فى جملتها كذلك واضحة محددة، وتكفل الرسول أيضا بزيادةبيانها وتوضيحها قولا وعملا ...
ومثل ذلك فى العقائد:
(إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ)(وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) (إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّشَيْءٍ قَدِيرٌ) (اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (آمِنُوابِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) .. (وَالَّذِينَيُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِهُمْ يُوقِنُونَ) (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِوَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لانُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) .. إلى غير ذلك من الآيات التى يدرك العقلما ترمى إليه.
ومثل ذلك فى الأحكام:
«وأحل الله البيع وحرم الربا» و «إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه»، «يوصيكمالله فى أولادكم للذكر مثل حظ الانثيين. إلى آخر الآيتين .. إلى غير ذلك من الآيات..
ومثل ذلك فى الأخلاق:
«وبالوالدين احسانا وبذى القربى واليتامى والمساكين والجار ذى القربى» الآية.«ادفع التى هى أحسن».
فكانت هذه الآيات على قدر من الوضوح يكفى لالزام المخاطبين بمضمونها،

وبما دعت إليهمن عقائد وأحكام، فإن كانت فى حاجة إلى زيادة تفاصيل تكفّل الرسول صلى الله عليهوسلم بها ..
وبقى بعد ذلك الآيات التى تتحدث عن المظاهر الكونية، والآيات التى تتحدث عن قصصالسابقين ..
وينضم إليها كذلك الآيات التى تتحدث عن بعض صفات الله تفصيلا، كالاستواء والوجهواليدين، والمشيئة والارادة .. الخ .. ويلحق بها الآيات التى جاءت غير واضحة وغيرمحددة .. مثل روح الله وكلمته. ومثل الم ...
والر .. الخ
هذا النوع من الآيات هو فى الحقيقة موضوع الحديث الذى عنينا بتوضيحه فى هذه البحوث...
وهو الذى تساءلنا عن مدى فهم الصحابة له، أو استيعابهم فهمه، وتحدثنا عن عواملأثرت فى فهم الصحابة له وبقى آخر هذه العوامل .. وهو القدر الثقافى الذى استقبلواهذه الآيات به ..

بعثت إلى أمّة أمّيّة:
وهذا يستدعى منا أن نعرف ما كان عليه العرب من ثقافة علمية وتاريخية، استقبلوا بهاالآيات الكونية والقصصية وبعض الآيات الأخرى المتشابهة ..
لقد جاء القرآن الكريم يصف العرب بأنهم أميون، ووصف الرسول بأنه أمى.
فيقول الله تعالى فى أول سورة الجمعة (1)
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْآياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوامِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ 2
__________
(1) سورة الجمعة الآية الثانية.

ويقول فى سورةالأعراف
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُبِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ (1)
ويقول تعالى فى سورة العنكبوت: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍوَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ 48 (2)
ويقول عليه الصلاة والسلام: (نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب. الشهر هكذا وهكذا)(3) وأشار بأصابعه، يعنى مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين.
ويقول عليه الصلاة والسلام مخاطبا جبريل: (إنى بعثت إلى أمة أميين) (4) أو (إنىبعث إلى أمة أمية)
ولعل أصح تفسير لمعنى كلمة أمية وأميين هو ما فسرها به الرسول صلى الله عليه وسلموعناها حين قال لا نحسب ولا نكتب .. وهو ما وضحه الإمام الشاطى (5) حين قال:والأمى منسوب إلى الأم، وهو الباقى على أصل ولادة الأم لم يتعلم كتابا ولا غيره،فهو على أصل خلقته التى ولد عليها.
وليس معنى هذا جهلهم التام بأمور الحياة، وبما يكتسب منها بالتجارب والعقل، بلمعناه أنه لم يتعلم بطريق الكتابة والقراءة شيئا، وهو الذى فسرته الآية الأخرى عنوصف الرسول بالأمى «وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتابالمبطلون» ومن أجل هذا جاء وصف الرسول فى القرآن من حاله، ودفعا لأى شك فى صحةرسالته ونزول القرآن من ربه.
__________
(1) سورة الأعراف آية 158.
(2) سورة سورة العنكبوت آية 48.
(3) كما جاء فى صحيح البخارى فى كتاب الصوم عن ابن عمر رضى الله عنه.
(4) كما جاء فى الترمذى فى أنزل القرآن على سبعة أحرف.
(5) ص 69 ج من الموافقات.

فالعرب الذيننزل عليهم لم تكن الكتابة والقراءة منتشرة عندهم انتشارها عند الأمم المتحضرة حولهم،وبالتالى لم يتمكنوا من دراسة العلوم التى كانت معروفة عند غيرهم من الفرس أوالروم فى ذلك الوقت، فكان كل ما يتناقلونه بينهم من الطب والفلك وغيرهما، لا يمكنتسميته علوما إلا تجاوزا، لأنه كان مكتسبا عن طريق تجاربهم وملاحظاتهم الخاصة.المنبعثة من البيئة وحاجاتها وظروفها. مما يعينهم على حياتهم البدوية، منالاستدلال بالنجوم على معرفة الجهات، وعلى تعيين الوقت، كما قال الله «وعلاماتوبالنجم هم يهتدون» وما كانوا يداوون به مرضاهم بطريق التجربة، والتناقل فيمابينهم، مما يمكن أن تجد له شبيها الآن فى البيئات البعيدة، المنعزلة عن المدينة،المحرومة مما وصل إليه العلم من تقدم ..
على أن هذه المعرفة المحدودة لم تكن عامة شائعة لدى العرب جميعا، بل كانت قاصرةعلى بعضهم أو خاصتهم، ممن كانت الحاجة تدعوهم إلى معرفتها، ولعل هذا الوصف(الأمية) قد غلب على العرب، حتى لم ير الرسول بدا من الاحتجاج به عند ربه، وهويخاطب جبريل كما فى الحديث السابق، كما صرح به أيضا، وهو بصدد معرفة أيام الشهر ..ولهذا جرى على لسان اليهود حين قالوا: (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَسَبِيلٌ) يقصدون فى كلامهم هذا .. العرب، وإن كان هذا مبدأ عاما عندهم فى معاملةغير اليهود، لا يرون بأسا فى نهب أموالهم .. لكن الآية تحكى حال اليهود الذينيعاملون العرب، ويطلقون عليهم هذا الوصف (الأميين) ..
وكذلك كان لهم بالنسبة لتاريخ الأمم قبلهم مما قصه القرآن، فلم يكن لهم به معرفةسابقة، وذلك هو ما تخبر به هذه الآية الكريمة بعد أن سبقها ذكر قصة نوح (تِلْكَمِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلاقَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (1)، وفىقصة مريم وزكريا: (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ
__________
(1) آية 49 من سورة هود.

الْغَيْبِنُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ، أَيُّهُمْيَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (1).
حتى ليمكننا أن نقول إنه لما كان عدم معرفة الرسول بالكتابة والقراءة ارتكازا لحجةمن حجج رسالته، ونزول القرآن عليه من عند الله، كان عدم معرفة قومه بالعلوموبالتاريخ ارتكازا آخر لحجة من حجج رسالته، وكون القرآن منزلا عليه من الله، إذ لميكن من قومه من يعرف ذلك حتى يقال إنه تعلمه منهم.
فحين أراد أعداؤه المشركون الطعن فيه، وفى صحة نزول القرآن عليه، قالوا: إن مايقصّه من أخبار الماضين إنما هو من تعليم هذا الرومى المثقف المهاجر إلى مكة،المقيم فيها، فنزل القرآن يرد عليهم: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَإِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ،وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (2).
ولو كان لدى العرب عامة علم بهذه الوقائع، أو لو كان لدى خاصتهم علم بها، لمالجأوا إلى اتهام الرسول بالتعلم من هذا الرومى، أو لكروا بعد رد الله عليهم هذاالرد، بأنه يتعلم من فلان العربى صاحب اللسان العربى. ولكنهم لم يجدوا عربيا عالماأمامهم بهذه القصص، حتى يسندوا إليه تهمة تعلم الرسول منه ...
وهكذا كانت أمية الرسول وأمية قومه وعدم المامهم بالعلوم من ممهدات الرسالة، أو منركائز صدقها، ودلائل صحتها ..
ولعل فى هذا الكفاية فى الدلالة على خلو البيئة العربية التى نزل فيها القرآن، منالعلم بتاريخ الأمم والرسل السابقين، وكانت أرقى بيئة عربية فى الجزيرة فى ذلكالوقت.
فكل ما ساقه الله سبحانه- اذن- من قصص الأمم السابقة، عن رسلها والصالحين منعباده، إنما كانت قصصا بكرا لم يعرفها العرب من قبل. بل استمدوا معرفتها من القرآنوحده ..
__________
(1) آية 44 من سورة آل عمران.
(2) آية 103 من سورة النحل.

هذه نتيجة أحبأن يتذكرها القارئ لأن لها أهميتها عند ما يقرأ ما جاء فى تفسير قصص القرآن، منأخبار زائدة من منطوق القرآن .. من أين جاءت وعمن رويت، لأنهم ما داموا قد علمواهذه القصص من القرآن. وفى ثناياها أخبار طويت، لعدم الحاجة إليها فى ابراز العبرةمن القصة، فمن أين جاء العلم بها؟ هل سأل الصحابة عنها رسول الله وأجابهم؟ أوسكتوا، واكتفوا، بالعبرة الظاهرة من القصة، دون أن يتابعوا تفاصيلها الخفية التىتركها القرآن؟ تلك التفاصيل التى رأيناها تثار فيما بعد، ويسأل عنها، لأن النفسالبشرية فيها غريزة حب الاستطلاع، وهى تجرى وراء هذه الغريزة، متى كان الجو صالحاومساعدا. كما رأينا ذلك بعد عصر الفتوح والاتجاه إلى الاستقرار والبحث، ولا سيمابعد دخول غير العرب فى الاسلام وخاصة من اليهود والنصارى.
لم نجد الصحابة يتابعون هذه الأخبار التى طويت، أو هذه الفجوات التى تركت فى القصةبسؤال الرسول عنها، ولم نجد فيما روى صحيحا عن الرسول، ما يشبع حب الاستطلاعالطبيعى لدى النفوس ...

فراغ سدوه بالاسرائيليات:

ومن هنا وجد الفراغ الذى حاول المسلمون سده، بعد زمن الرسول، عن طريق علماء اليهودوالنصارى، أو عمن ظنوهم علماء بالتوراة، وربما لم يكونوا من العلماء، بل من النقلةالمحرفين، الذين يحرفون ويزيدون، أو من عوامهم الذين يسمعون وينقلون، ويستمع منهمالمسلمون، حتى لتجد كتب التفسير محشوة بتفاصيل لهذه القصص، لم يذكرها القرآنولكنها مأخوذة عن هؤلاء مما اشتهرت تسميته: بالاسرائيليات. وبعض هذه الاسرائيلياتتجدها معزوة إلى ابن عباس وغيره من الصحابة والتابعين- كما قلنا من قبل- مما يوهمروايتها عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وما هى كذلك .. وإنما هذا هو مصدرها الذىأتت منه: أولا: اليهود الذين أسلموا ونصبوا من أنفسهم أو نصب منهم المسلمونمعلمين، مخبرين بما لم يذكره القرآن من تفاصيل القصص، وثانيا: الذين لم يسلمواواطمأن المسلمون إلى أقوالهم ..

الآيات الكونية:
بقى معنا الآيات التى تتحدث عن مظاهر قدرة الله فى خلقه: فى الإنسان، وفى السماءوالأرض، وتلفت النظر إلى التدبر فيها حتى يصل العقل من خلال ذلك إلى الإيمان بقدرةالله الواحد. هذه الآيات تتحدث عن سنن الله فى كونه: وعن بعض الظواهر التى يراهاالانسان، ويستطيع العربى العادى، أن يأخذ منها عبرة عامة. وهذا كاف فى الهدايةوالاتعاظ، ولكنها تحوى اشارات إلى حقائق علمية، تظهر لدارس القرآن، كلما تقدمالعلم، وكشف شيئا من أسرار هذا الكون ...
ومما لا شك فيه أن العرب حين نزول القرآن لم تكن عندهم قدرة لتفسير هذه الآيات علىالأساس العلمى الذى أمكن أو يمكن أن نفسر به بعضها الآن إذ لم يكن عندهم معلوماتعلمية يستقبلون بها هذه الآية كما يستقبلها اليوم بعض علماء الطب والفلك والزراعةوالجيولوجيا .. أو كما استقبلها بعض المسلمين العالمين بهذه العلوم فى العصرالعباسى وما بعده
لم تكن عندهم طاقة لفهم الدقائق التى يفهمها هؤلاء العلماء اليوم، ولذلك لميفهموها إلا فهما إجماليا أو لم يتناولوها بالشرح إلا على قدر جهدهم.
وكذلك علماء التفسير الذين فسروا القرآن حتى الآن تقريبا. إلا قليلا جدا.
اكتفوا بالتفسير اللفظى البلاغى النحوى، مع النظرة العامة للمظاهر التى تتحدث عنهاالآية، ويفهمها المفسر ويبرز العبرة منها .. وربما أضافوا للتفسير شيئا مما سمعوهمن الاسرائيليات التى لبست عليهم، كما فسروا مظاهر الرعد والبرق وغير ذلك مما نراهوننكره فى كتب التفسير التى بين أيدينا ..
ومن المعروف أنه على قدر تفتح الذهن، وعلى قدر المحصول العلمى للانسان، يكوناتجاهه فى المعرفة والسؤال عما يتطلع إلى معرفته ..
فالريفى الجاهل فى القرية الذى لم يقرأ ولم يكتب لا يستطيع وهو يسمع الإذاعةويشاهد التليفزيون أن يتجه ذهنه إلى السؤال عن دقائق صنع المذياع والتلفاز، كماكان يؤثر المرحوم الدكتور أحمد زكى أن يسميه، أو المرناء كما كان

يسميه المرحومالأستاذ محمود تيمور. ولكنه ينظر نظرة هامة فى الجهازين وهما يؤديان عملهما.ويستدل من ذلك على قدرة العقل البشرى الذى صنعهما. وحتى لو ظهر منه سؤال- فلتة أواعتباطا-: كيف يتم نقل الصوت والصورة؟ فإن من غير المناسب أن يجلس العالم بذلك،فيشرح له دقائق هذه العملية، لأن عقله لا يستوعبها، وليس لديه أساس علمى يمكن أنيقوم عليه هذا الشرح ..
. فالاشتغال بذلك- اذن- مضيع للوقت، ومجاف للحكمة. ولذلك يكون من الحكمة توجيهالجواب وجهة يحتملها عقله، وهذا هو ما سلكه القرآن الكريم.

سؤال عن الأهلة:

فقد روت لنا كتب التفسير فى أسباب نزول قوله تعالى: (يَسْئَلُونَكَ عَنِالْأَهِلَّةِ) ما يشبه هذا. قال معاذ بن جبل رضى الله عنه لرسول الله صلى اللهعليه وسلم: (ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ ويستوى، ثم لايزال ينقص، حتى يعود كما بدا، لا يكون على حالة واحدة كالشمس) وجواب هذا السؤالعرفناه ونحن صغار ندرس حركة القمر الشهرية، وموقعه بالنسبة للشمس والأرض، ورسمناله الخريطة التى توضح أشكال القمر مع إظهار الجزء المنير منه، المواجه للشمس منناحية، وما يظهر لنا نحن سكان الأرض من هذا الجزء المنير الذى يؤدى إلى أشكالالقمر التى يراها الناس جميعا، أعنى أن الجواب أصبح فى متناول الطلاب الصغار الآن...
ولكنه وقت نزول القرآن، لم يكن من المناسب توضيحه للعرب، وليست عندهم أوليات علميةعن الشمس والأرض والقمر من هذه الناحية .. ولم يكن لدى الرسول صلى الله عليه وسلمكذلك علم بأسباب هذا التغير، لأن علمه ليس من مهمته. وكان من الممكن أن ينزلالقرآن به، كما نزل بكثير من الأجوبة، التى كان لا يعرفها الرسول، ولكنا نرىالقرآن حين ينزل بالرد عليهم، يتجه وجهة أخرى، غير ما سأل عنها معاذ، وهى بيانفوائد حركة القمر لنا .. (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ)؛ لأن هذا هوالذى كان يمكنهم فى ذلك الوقت فهمه ..

ولهذا قالعلماء البلاغة فى هذا الجواب إنه من الأسلوب الحكيم .. أى الجواب بغير ما سأل عنهالسائل، لصرفه عن موضع سؤاله، ايحاء له بأن كلا من سؤاله والجواب الحقيقى عنه غيرمناسب، بل المناسب أن يسأل عما كان الجواب فعلا عنه .. وهو فائدة تغير القمر بهذهالأشكال التى نراها .. حتى قال بعض المفسرين فهما لقوله تعالى عقب ذلك مباشرة
وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّمَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها (1) قالوا: إن ذلك يشبه أن يكونتقريعا لاتجاههم إلى ذلك السؤال، الذى لا يحتملون الاجابة الحقيقة عنه، وكانالأولى أن يقتصدوا فى الأسئلة، ولا يتعرضوا لما هو فوق طاقتهم العلمية .. فمثل هذاالسؤال كمن أتى البيوت من ظهورها وقفز من نوافذها وسار إلى الشيء من غير طريقهالمناسب له. وليس هذا برا، ولكن البر أو الصواب هو اتقاء مثل هذه الأساليب، فىالأسئلة لعدم مناسبتها لكم ..
هكذا علل بعض المفسرين سر اتصال أجزاء الآية بعضها ببعض، وهو فهم فى الآية على كلحال، يقوم على حالة واقعة، هى عدم معرفتهم بمسائل العلم التى تؤهلهم لادراك الجوابالحقيقى على سؤالهم ..
وهذا مثال من القرآن نفسه يوضح لنا ما نقول عن واقع الصحابة العلمى حين نزولالقرآن ..

والنتيجة:

والذى نريد أن نصل إليه من هذا كله:
أن الصحابة لم يكونوا مؤهلين بمعرفة عن تاريخ الرسل وأممهم فوق ما جاء فى القرآن.فكل زيادة فى هذه الناحية، إن ثبت ورودها عن الرسول قبلناها، وإلا أبعدناها
عن تفسير القرآن، اللهم إلا إذا وجدنا حفريات ونقوشا تضيف لنا جديدا عمن تحدث عنهمالقرآن ..
كما أن الصحابة لم يكونوا مؤهلين بمعرفة علمية عميقة أو شبه عميقة عن
__________
(1) البقرة/ 189.

الإنسان،ومظاهر الكون أمامهم، ولهذا لم يخوضوا فيها بتفصيل، ولم يتحدثوا عنها، وإنما كانوايكتفون بالعبرة، يأخذونها من منطوق الآية ومن النظرة البسيطة إلى المظاهر الكونيةأمامهم دون تعمق، فإذا جاء عنهم شىء فى ذلك فقد نقلوه من خارج البيئة الاسلامية،اسرائيلية أو غيرها ..
وقد جاء القرآن الكريم يخاطب العرب فى حالتهم تلك، بالأسلوب المناسب لهذه الحالة،فيأخذون منه قدرا يحرك فى نفوسهم الاتعاظ بما يحدثهم عنه، ويخاطب من هم أعلى منهمعلما، وأدق نظرا، على درجاتهم المتفاوتة فى العلم ودقة النظر، فيكتسبون العبرةالظاهرة التى استفادها العرب الأميون، ولكنهم يزيدون عليها تأملات جديدة فى الآية علىضوء ما وصلوا إليه من علوم يقينية يجدون فى الآية إشارة لها وتحتملها ألفاظها ..
ومن هنا أرى أن أولى الناس بتفسير الآيات الكونية إنما هم أهل العلم فى الطبوالفلك والجيولوجيا وما يشبه ذلك من علوم، على ألا يتحدثوا عن آية إلا باليقينياتمن العلم، لا بالفروض والنظريات. أما أرباب النحو والبلاغة فقد فسروها كما تدلعليه ألفاظها مع ما عندهم من علم عن الكون، استفادوه بالنظرة السطحية التى تشبهنظرة الصحابة، مع تفتح جاءهم على مرور الزمن حسب الجو العلمى الذى كانوا يعيشونفيه ..
وأعتقد أننا بهذا الذى أوردناه قد ألقينا ضوءا كاشفا عن حالة تفسير القرآن الكريمفى عصر الرسول، وعن المحصول الذى يمكن أن نخرج به من هذا، وعن العوامل المتعددة،التى جعلته محصولا يسيرا.
ومن يدرى .. لعل فى ذلك جوانب من الخير كثيرة، أهمها: ترك الباب مفتوحا للعقولوعلى مر الزمن لتجتهد فى فهم القرآن على ضوء خبرتها وعلمها، وتبرز لنا من أسرارالكون المكتشفة حديثا، ما أشارت الآيات إليه، ولم يدركه السابقون .. وهو خير يزيدالمؤمنين إيمانا ويقينا ..
ومن أراد أن يرجع إلى ما تركه الرسول صلى الله عليه من تفسير قليل.
فليرجع إلى أمهات كتب الحديث. باب التفسير ليقف على هذه الحصيلة القليلة، بجانب ماغصت به كتب التفسير بأجزائها ومجلداتها.

التفسير بعد عصر الرسولعصر الصحابة
وإذا كنا قد عرفنا هذا كله، فإن سؤالا يطرح نفسه علينا وهو: كيف كان الموقف بعدوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم من تفسير القرآن؟
ونستطيع أن نقول اجابة عن هذا السؤال: إن موقف الصحابة من فهم القرآن أيام الرسولكما عرفناه، وقد استمر بقوة الدفع بعد وفاته زمنا توفرت الظروف فيه للاستمرار.وأقول توفرت الظروف فيه للاستمرار لأن الظروف التى كانت فى أيام الرسول لم تستمركثيرا بعد وفاته، كما سنتحدث عن ذلك فيما بعد.
لقد كانت خلافة أبى بكر رضى الله عنه بعد الرسول من أكبر العوامل وأقواها للمحافظةعلى استمرار الوضع الذى كان أيام الرسول .. لأنه كان رضى الله عنه أكثر الصحابةشدة فى التزام الوضع السابق: فقال يجابه مانعى الزكاة «لو منعونى عقال بعير كانوايؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه» ثم رفض بكل شدة أن يغير قيادة «أسامة بن زيد»للجيش الذى كان قد جهزه الرسول، وولى اسامة القيادة قبيل وفاته ..
ومن هذا المنطلق نستطيع أن نقول: إن أبا بكر رضى الله عنه حافظ بشدة على الوضعالذى كان أيام الرسول بالنظر إلى الموقف من تفسير القرآن .. ولا سيما فيما يتصلبالمتشابه، وما طوى من أحداث القصص التى ذكرها القرآن.
وهما أهم ما شغل العقول بالكلام والسؤال، لأن مجال القول فيهما كان متسعا .. وذلكبخلاف ما يتصل بالعقائد المبدئية أو الكلية والأحكام، فقد كانت الآيات فيهماواضحة، وكانت السنة النبوية العملية والقولية توضح المراد منه، فوق أن عملهم فىأيام الرسول جعل المراد من الآيات فى هذا المجال، غير بعيد عن أفهامهم فكانوايجيبون عن الاسئلة المتصلة بهذا الجانب، وهم متأكدون من صحة ما يقولون، معتقدين أنهذا جزء من تبليغ الدين ..

وذلك بخلاف ماعداه مما لم يرد فيه بيان نبوى، ولا تدعو الحاجة للخوض فيه فإنهم تورعوا عن الكلامفيه محافظة على النهج الذى ساروا عليه أيام الرسول .. وقد روى أن أبا بكر سئل عنمعنى آية من القرآن فقال: أى سماء تظلنى وأرض تقلنى، إذا قلت فى القرآن برأيى، أوبما لا أعلم. وقد سبق أن ذكرنا أن عمر رضى الله عنه ضرب واحدا من المسلمين ضرباموجعا حتى كاد يؤدي بحياته وهو عبد الله بن صبيغ- لأنه كان يكثر من السؤال عنمعنى- المرسلات والعاصفات والصافات، ولم يتركه حتى تاب ورجع عن هذا المسلك.
ومع هذا روى أن أبا بكر أجاب لما سئل عن معنى (الكلالة) الواردة فى موضعين من سورةالنساء، وأن عمر أيضا سأل عن معانى بعض الكلمات التى كانت خافية عليه كما سبق مثل(تخوف) فى قوله تعالى: «أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ» فى سورة النحل.
وهذا يدلنا على أن الكلام السابق لأبى بكر (أى سماء تظلنى) الخ .. كان خاصا بناحيةفى القرآن، وهى التى تتصل بالمتشابه أو بالمطوى من حوادث القصص، لأنه تحرج-
جريا على النهج الرسولى- من الكلام فى هذه الناحية.
ولم يتحرج من تفسير معنى الكلالة الواردة فى آيتين من آيات المواريث، لأن ذلك يتصلببيان ألفاظ أحكام عرفوها، ولا بد لهم أن يبينوها .. أما تحرجه فيما تحرج عنالكلام فيه، فلأنه يحتاج إلى نقل صحيح، ولم يكن هذا النقل متوفرا لديه، فعدّالكلام فيه حينئذ من أبواب الكلام بالرأى .. وهو لا يريد أن بخوض هذا المجال،تورعا منه، وتشبثا بالمنقول.
وكان سلوك أبى بكر هو السمت الغالب على الصحابة فى عهده وعهد عمر تقريبا .. وامتدبعدهما ولكن عند الورعين الذين ألزموا أنفسهم حسن الاتباع

ثم بدأت الظروف تتغير:

فلو كان الاسلام ظل قاصرا على البيئة التى تركه الرسول فيها، لكان من الممكن أنيظل النهج الرسولى سائدا مسيطرا على الناس مدة طويلة
ولكن ذلك لم يكن، فقد اتسعت رقعة الاسلام، ودخله أناس يحملون

ثقافاتوأفكارا، ونفسيات مختلفة، واختلطوا بالصحابة فى المدينة، أو ذهب الصحابة إلىبلادهم، ولم يكونوا جميعا عربا، يفهمون العربية والقرآن بسليقتهم كالعرب، فاحتاجواإلى بيان معنى ما يسمعون أو يقرءون، ولم يكونوا ملتزمين بالنهج الذى سار عليه الصحابةمع رسول الله ازاء القرآن وكان من الضرورى الاجابة عما يسألون أو يثيرون من شبهات،أو يطلبون من بيانات ..
وكان من هؤلاء الداخلين فى الاسلام جماعة لا زال ماضيهم يشدهم إليه، فلم يكونوامخلصين للدين الجديد، فأخذوا يثيرون الشكوك، ويزرعون الألغام فى طريق المسلمينالمخلصين، حول القرآن والتعاليم الاسلامية بعامة ..
وكان بجوار هؤلاء نبت جديد فى البلاد العربية، أو بتعبير العصر، جيل جديد، لا شكأنهم كانوا أكثر تطلعا من الجيل السابق عليهم، وأكثر جرأة وتطلبا لفهم ما يغلقعليهم فهمه من القرآن الكريم.
كما أن الأحداث العنيفة التى أثارها النزاع حول الحكم فى وقت مبكر بعد وفاةالرسول، قد شغلت المسلمين بها، وأضعفت فيهم المثالية التى كانت سائدة من قبل،وأوجدت عند كل فريق رغبة فى التماس الحجة له من القرآن
وكان الموقف يقتضى الاقتصار على فهم الآيات بمقتضى أسلوبها العربى المفهوم لدىالصحابة أو تابعيهم من العرب، مع الاستعانة فى بعض الأحيان بما يكون قد روى عنالرسول .. ثم التوقف عن الخوض فيما لا يمكن الخوض فيه .. كآية متشابهة. أو حادثةمطوية فى قصة. أو ظاهرة كونية. كالرعد والبرق مثلا ..
وهذا بالفعل ما تمسك به الورعون من الصحابة وتابعيهم الذين التزموا النهج الأول.فكانوا يقلون من تفسير القرآن، ويتحرجون من الجرأة على الكلام فيه كأبى بكر،ويفوضون ما لم يعلموا رواية فيه عن الرسول، أو لم يكن ظاهرا واضحا عندهم، إلى علمالله .. معتبرين السؤال عنه بدعة، يجب على الانسان المؤمن البعد عنها. وهذا مايبدو واضحا مما نعرفه من قول الامام مالك رضى الله عنه، لمن سأله عن معنىالاستواء، فى قوله: «الرحمن على العرش استوى» فقال الاستواء معلوم، والكيف مجهول،والسؤال عنه بدعة.

كان هذاالجواب يمثل مسلك المتحفظين الذين يتهيبون ابداء رأيهم الخاص فى تفسير القرآن، ولاسيما الأمور المشتبهة فيه .. ولكن لم يكن من الممكن فرض هذا المسلك على المجتمعالاسلامى كله، مع الظروف التى طرأت عليه، وسبق أن أشرنا إليها، والتى ولدت تياراجديدا فى هذا المجتمع، يفرض على العلماء فيه، أن يتحدثوا عما يثار من أسئلة، وعماتتطلع إليه النفوس من توضيح ما يشكل فهمه عليهم من القرآن، والرد على بعض الشبهالتى يثيرها المسلمون وغيرهم ممن اختلطوا بهم. حتى لا تظل هذه الشبه وهذهالتساؤلات قائمة، تفعل فعل عوامل التعرية فى النفوس.
وهنا نجد الكثيرين ينشطون لسد هذه الثغرات، وازالة هذه الشبهات، وارضاء هذه التطلعاتولكنهم يسلكون الطريق الذى يكون أكثر تأثيرا على المجتمع أو الجمهور فيه، وهو طريقالرواية .. عن الرسول أو عن الصحابة ..
فإذا لم يجدوا .. نسبوا إلى الرسول أو الصحابة أقوالا .. وجد أن أكثرها غير صحيحالنسبة بعد غربلته.
وكثيرا ما كانت هذه الأقوال مستمدة من الإسرائيليين الذين أسلموا، ولجأ إليهم بعضالصحابة أو التابعين ولا سيما فى قصص الأنبياء والأمم السابقة- باعتبار هؤلاءالإسرائيليين أصحاب ثقافة قديمة، وعندهم كتب تحدثت عن هؤلاء الأنبياء .. ويمكنهمايضاح بعض ما طواه القرآن من أحداث السابقين.
وكان بعض هؤلاء الإسرائيليين المسلمين يتمتعون بثقة الصحابة والتابعين دينيا كماذكرنا. وكانوا حين يسألون لا يمسكون عن الإجابة، بل يتحدثون بما يعرفون من قبل عنهذه القصص .. والسائلون يأخذون منهم الجواب ويتحدثون عن قصص القرآن .. والآخرونينقلون عنهم، وهكذا حتى يصبح كلام هؤلاء الإسرائيليين رواية رواها فلان عن فلان ..وتلتصق بتفسير القرآن، وتصبح جزءا مهما من هذا التفسير ..
وهكذا .. أصبح من المتيسر لدى المتحدثين فى تفسير القرآن أن يجدوا لدى كل آيةروايات تفسرها .. مع أن الرسول لم يترك إلا القليل جدا من تفسير القرآن ..

وكان المتبعفى ذلك الوقت الحرص على الرواية، وذكر الأشخاص الذين اضطلعوا بها، تحرجا منالتفسير بالرأى الذى لم يكن ينظر إليه نظرة سليمة فى ذلك الوقت، مما اتاح فيما بعدللنقاد البصيرين بالرجال أن يتتبعوا الرواة وينقدوهم، ويرفضوا ما يجدون فيه سبباللرفض ..
كما نجد فى تفسير الطبرى وأمثاله من سرد الروايات ولكن لم يكر عليها بالنقد، فتركالقراء فى دوامة، ولا سيما من لم تكن عندهم خبرة بالرجال الذين رووا هذه الروايات،وهم الكثرة الغالبة جدا من القراء .. وهذه التفسيرات- فى رأيى- هى التى وضعت حجرالأساس فى نشر الروايات الإسرائيلية والمدسوسة الموضوعة وترويجها فى الأجيالالمتعاقبة .. ولا يشفع لهم أنهم ذكروا سند الروايات. فليس كل قارئ لها عليمابأحوال رواتها .. أو غيورا على القرآن والاسلام، يحرص على تنقيتها من الدخيل فيها.. وقد فتح هؤلاء بابا واسعا لمن أتى بعدهم فى الاعتماد على ما تقول هذه الروايات،دون ذكر السند وكأنه قضية مسلمة ولا سيما فى التفاسير الصغيرة، فرأينا الكثيرينممن اشتغلوا بالتفسير يتوسعون فى سرد هذه الأقوال الإسرائيلية منها وغيرالإسرائيلية. وزاد الطين بلّة أن الأحاديث الموضوعة راجت وكثرت، حتى كادت تطغى علىالأصيلة، «فالعملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق» وشارك بعض المسلمينالمخلصين مشاركة فعالة فى هذا الوضع- وبحسن النية مع الأسف- ليشدوا الناس إلىالقرآن، كالأحاديث التى تذكر مع كل سورة لبيان فضلها وثواب قارئها، ترغيبا فىقراءة القرآن لأن الناس فى ذلك الوقت كانوا قد عنوا بالجدل والعلوم الأخرى- كمايقول وضاعو هذه الروايات- وانصرفوا عن العناية بالقرآن.
ولست أريد أن أشغل القارئ هنا بنقل النصوص الدالة على ذلك كله من الكتب التى عنيتبهذه المسائل لأن هذه القضايا أصبحت معروفة مسلما بها لدى المشتغلين بالتفسير (1)
__________
(1) وأهم الكتب الحديثة التى تناولت هذا الموضوع- فى رأيى- هو كتاب التفسيروالمفسرون للشيخ المرحوم الدكتور محمد حسين الذهبى والبحث الذى قدمه لمجمع البحوثعن الإسرائيليات فى-

قاعدة تحتاج إلى مناقشة:
ومع أن المشتغلين بالتفسير الذين عنوا بتنقية الروايات، وبيان الصحيح منها وغيرالصحيح، قد أبلوا فى ذلك بلاء حسنا .. وقدموا لنا ذخيرة يمكن الاعتماد عليها. فإنهناك قاعدة من القواعد التى أقروها بصدد هذه الروايات، أعتقد أنه دخل منها الكثيرمن غير الصحيح، على الروايات المفسّرة للقرآن، وهى لهذا تحتاج إلى مناقشة ..
هذه القاعدة المعروفة المسلّم بها لدى النقاد جميعا هى المتصلة بالرواية الموقوفةعلى الصحابى التى لم يسندها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قالوا: إذا كانتهذه الرواية أعنى موضوعها من الأمور الغيبية، وتكلم بها الصحابى، فمعنى ذلك أنهسمعها من الرسول .. ولو لم يصرح بذلك، لأنه لا مجال للرأى والعقل فيها .. فهى فىحكم المرفوع للرسول ..
وهذا الكلام الذى قالوه يمكن أن يصدق، ولكن إلى حد ما، لأنى أعتقد أننا لو أخذناهقضية مسلمة وعلى اطلاقها، فإنه من الممكن حينئذ أن يدخل منها المدسوس على رسولالله. ولا سيما فيما يتصل بالتفسير ..
ذلك أن بعض الصحابة كانوا يطمئنون- ولو أحيانا لنكون أكثر دقة واحتياطا- إلى بعضالمسلمين من أهل الكتاب، وإخبارهم ببعض الأمور من تفصيلات القصص وغيرها، فينقلونذلك عنهم. ويروى تلامذتهم، أعنى التابعين عنهم .. وتصبح الرواية بذلك موقوفة علىالصحابى .. فإذا أخذنا القاعدة السابقة قضية مسلمة فى مثل هذه الروايات نسبنا الىالرسول بذلك ما لم يقله، أو يكون هذا احتمالا على الأقل ..
ومن الواجب أن نحتاط الاحتياط الشديد فى نسبة كلام الى الرسول عن مثل
__________
القرآن. وإن كنت لا أتفق معه فى تحفظه فى بعض نواح من بحثه .. ثم بحث قدمه الدكتورالشيخ محمد أبو شهبه لم يستوعب أيضا الاسرائيليات فى القرآن. وإن كنت لا أتفق معهفى تحفظه فى بعض نواح من بحثه. ومجمع البحوث والدراسات العليا بكلية أصول الدينمعنيان بإتمام بحث الاسرائيليات فى التفاسير وهناك رسائل تعد فى هذا الموضوع لشهادتىالماجستير والدكتوراة فى الكلية وهو اتجاه طيب.

هذا الطريق،لا سيما ونحن نعرف أن الصحابى كان يحرص الحرص كله، على أن يسند الرواية إلىالرسول، إذا كان حقا قد سمعها منه، ليزداد شرفا بالرواية عن رسوله من جهة، وليكسبكلامه مهابة وتوكيدا من جهة أخرى، ولا سيما فى مثل هذه الأمور الغيبية التى تحتاجلتدعيم وتقوية.
فامتناعه أو عدم تصريحه حينئذ، بروايته عن الرسول، مع الحالة التى كانت قائمةبالأخذ عن بعض مسلمى أهل الكتاب فى مثل هذه الأمور، يوجب علينا أن نحتاط، فلا نقبلرواية بهذا الشكل، أعنى الرواية عند الصحابى التى لم ينسبها صراحة إلى الرسول ..
وهذا- فى رأيى- يختلف عن قول الصحابى أو عمله فى حكم من الأحكام، لأنهم لم يكونوايسمحون لأنفسهم بمعرفة شىء من ذلك، أو من العقائد، عن مسلمى أهل الكتاب .. والرسولصلى الله عليه وسلم وضح كل ما يتصل بذلك قولا وعملا.، فإذا عمل أو تكلم الصحابة أوتابعوهم ممن كانوا فى المدينة أو خرجوا منها وكانوا على حال يوثق فيها بهموبعلمهم، فإن من الجائز حينئذ أن نفهم أن قولهم فى الحكم أو عملهم، معتمد على عملأو قول منسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن لم يصرحوا بنسبته إلى الرسول.. وهذا ما كان يأخذ به الامام مالك رضى الله عنه فى مذهبه، مما سمى بقاعدة عملأهل المدينة .. وإن نازعه فى ذلك بعض الفقهاء، ممن لم يسلموا للامام مالك بحجة عملأهل المدينة .. والاستناد إليه فى تقرير حكم من الأحكام ..
وقد يقول بعض الناس: وما الضرر فى أخذ مثل هذه الروايات، أعنى الموقوفة علىالصحابى فى أمور لا مجال للعقل فيها، ما دامت لا تتصل بتقرير عقيدة أو حكم شرعى،ولكنها زيادة تفاصيل لما ذكر مجملا من القصص أو الكون مثلا؟ ...
وأقول لهم: إن الضرر من هذا يرجع إلى تقييد عقولنا بفهم أو تفصيل خاص باعتبار أنذلك صادر عن الرسول .. وقد تكون تلك الرواية متصلة بأحوال الآخرة فتدخل ضمنا فىتكوين عقيدتنا، أو فى تكميل الصورة عنها.

وقد تكونمتصلة ببعض الظواهر فى الكون، وتأتى التجارب العملية بعد ذلك ببطلانها، فيمتد أثرذلك على رسول الله!! وهذا كثير. ربما يكون هذا تشددا منى فى أمور قبلها السلف أوبعضهم وأقروها .. ولكنى أرى من الأولى لنا الآن بعد أن قاسينا ما قاسينا منالروايات الموضوعة والمدسوسة والإسرائيلية، أن نقابل كل هذا البلاء الذى بلينا بهفى أمر يتصل اتصالا وثيقا بالقرآن، وهو تفسيره وتوضيح معانيه والوقائع التى جاءتفيه. أقول من الأولى لنا أن نقابل كل هذا بشيء من التشدد، حتى نجرّد التفاسير مماعلق بها، وشوّه فهمنا للقرآن، ليبقى القرآن وحده أمام عقولنا مع الأحاديث الصحيحةالمرفوعة للرسول الواردة فى كتب الأحاديث الصحيحة.

يبقى شىء آخر يحتاج لمناقشة

هو أقوال مشاهير المفسرين، مثل على وابن عباس وابن مسعود من الصحابة رضى اللهعنهم، ومثل عطاء ومجاهد ومقاتل وغيرهم من التابعين ممن يستشهد بآرائهم فى التفسير.
هل ما يقوله هؤلاء فى فهم الآية كرأى لهم .. حين يصح النقل عنهم، ونسبة القولإليهم، يجب أن يؤخذ قضية مسلّمة، لا يصح لنا العدول عنها، أو مناقشتها، باعتبار أنهؤلاء أقرب إلى نور النبوة، وأكثر منا فهما للقرآن؟
وأقول مع تقديرى وإجلالى لهم- إن من المجازفة أن نتقيد بفهمهم فى الآية فلا نخرجعنه، وأن لكل من جاء بعدهم إلى ما شاء الله من الأزمان، أن يعملوا عقولهم فى فهمالقرآن، ويستخرجوا من ألفاظه المعانى التى تؤديها، ما داموا أهلا لهذا الفهم، دونتأويل بعيد، أو شطط فى الفهم يصادم نصا، أو قاعدة إسلامية، أو يتنافى مع روحالاسلام العامة ..
والكل يؤخذ منه ويرد عليه ما عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
وأعتقد أن هذا لا يلقى جدلا كثيرا لأن المفسرين الذين جاءوا بعد هؤلاء، لم يتقيدوابآرائهم، وإن كانوا قد عنوا بنقلها فى صدر تفاسيرهم للآية ..

تفرق الصحابة فى البلاد ومدارس التفسير
لقد تفرق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى البلاد. مكة، والعراق، ومصر،والشام وغيرها .. وكان منهم من عرف عنه العلم بتفسير القرآن أو القول فيه .. كابنعباس وابن مسعود وغيرهما .. والمسلمون جميعا مشدودون للقرآن، مهتمون بمعرفتهوتفسيره، كل على قدر تطلعاته. وكان من الضرورى أن يسألوا عما يريدون منه، لاجئينإلى من يرونه ثقة فى ذلك ..
ولا يمكن أن نتصور فى هذا العصر أن أحدا من هؤلاء الموثوق بهم، قد خصص وقتا لتفسيرالقرآن، كما هو الشأن فى أيامنا، ولكن التفسير كان يحدث تبعا لأسئلة تلقى، فكانتفسيرا متناثرا حسب الوقت، والحاجة .. كما لا يمكن أن نتصور أن التفسير فى ذلكالوقت، كان كالتفسير الذى نقرؤه فى كتبه، أو نسمعه من المتخصصين أو شبههم فىأيامنا ..
بل كان تفسيرا فى حدود ما سمع من الرسول، أو قيل إنه سمع منه، مع إضافة شىء إليهمما سمع من أهل الكتاب إن كان المفسر ممن يقبل ذلك، كما كان فى حدود الفهم العربىللألفاظ والتراكيب، وما عرف من سبب نزول الآية.
وكانت تغلب عليه الرواية، ويسير فى حدودها .. ويتناقله الناس شفاها غير مكتوب ..
«واشتهر من الصحابة عدد قليل فى تفسير القرآن، وأكثر من روى عنه على ابن أبى طالب،وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وأبى بن كعب.
. وأقل من هؤلاء: زيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعرى، وعبد الله بن الزبير» (1).
وكان أبعد هؤلاء وأكثرهم أثرا فى التفسير: ابن عباس ومدرسته فى مكة، وابن مسعودومدرسته وتلاميذه فى الكوفة، وأبى بن كعب الذى آثر المكث فى المدينة
__________
(1) فجر الإسلام ص 249 الطبعة الثالثة للمرحوم أحمد أمين.

وكون فيهامدرسته التفسيرية .. وكان لكل من هؤلاء الصحابة تلامذة، أخذوا عنهم أقوالهم فىالتفسير .. ولهؤلاء التلاميذ، تلامذة نقلوا عنهم .. وكل ذلك كان فى الصدور، لم يعنأحد منهم إلا قليلا بتدوين ما تلقاه فى كتاب، إذ كانت كتبهم هى صدورهم .. يحدثونالناس بما سمعوه من أساتذتهم من تفسير لآيات القرآن .. وبما يضيفونه إلى ذلك، منرواية سمعوها من غيرهم بطبيعة الأمر ..
وكانت الأقوال فى تفسير الآيات كالهواء فى تنقلاتها بين الناس، ليس هناك ضبط لها،ولا بيان لصحيحها من غيره .. فاختلط فيها الصحيح القليل عن الرسول، بما وضع علىلسانه، بما نقل عن معلومات أهل الكتاب .. مع تفسير للألفاظ وبيان لمعانيها حسبالمفهوم العربى لها .. ولم يكن ذلك كله بشكل منتظم مرتب، ولكن على حسب الظروفوسؤال السائلين، أو رغبة الاستاذ لبيان آية من الآيات يقتضيها الحال ..
وقد كان الأمر كذلك بالنسبة لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ كان التفسيرجزءا منها غير منفصل .. وظل الأمر كذلك حتى نهض فى أواخر القرن الهجرى منالمسلمين، رجال هالهم هذا الخلط الكثير فى الأقوال والروايات، واتجهوا إلىغربلتها، وتمييز الصحيح من غير الصحيح، بتتبع حال الرواة الذين رووها، والوقوف علىمدى الثقة فيهم .. وكان ذلك منهم حرصا على تنقية ما نسب إلى الرسول صلى الله عليهوسلم من أقوال غير صحيحة الانتساب، باعتبار أن الأحاديث الصحيحة هى المرجع الأول والأخير،سواء فى بيان معانى القرآن، أو فى بيان الأحكام، فوصلوا فى هذا المضمار إلى ماأرادوا، مما تميزت به صفحة الإسلام عن غيره من الأديان.

عصر التدوين
وقد ظل التفسير كغيره من العلوم. شائعا فى الهواء، متنقلا بين الصدور حتى اتجهتالأذهان إلى تدوين هذه العلوم فى كتب، ومنها التفسير، وذلك فى مستهل القرن الثانىالهجرى، فانفصل التفسير عن الحديث بعلم خاص، وإن ظل علماء الحديث يذكرون ما روىفيه من أحاديث الرسول:
ويذكر المرحوم الاستاذ محمد الفاضل بن عاشور مفتى تونس السابق ومن كبار علمائها(1) «أن أول من ألف فى التفسير هو عبد الملك بن جريج المتوفى 149 هـ»
كما يذكر ذلك المرحوم الأستاذ أحمد أمين (2) وإن كان لم يقل إنه أول من ألف، ويقولعن تفسيره وعنه «كان شأنه شأن المحدثين الأولين يجمعون ما وصل إليه من صحيح وغيرصحيح، وقد ذكروا «أن ابن (3) جريج لم يقصد الصحة، وإنما روى ما ذكر فى كل آية منالصحيح والسقيم» ولم يكن ابن جريج هو الذى ابتكر هذه المحاولة بل سبقه وزامله واتىبعده آخرون على نفس الخطة مثل تفسير السدى، ومقاتل، وغيرهم ممن تحدث عنهم السيوطىفى كتابه «الإتقان» الباب الثمانون- طبقات المفسرين. ولم تصل لنا هذه التفاسير فى كتب،وإن كانت آراء مؤلفيها قد نقلها غيرهم فى الكتب التى وصلتنا، وفى مقدمتها تفسيرابن جرير الطبرى ..
بينما يقول الفاضل بن عاشور: إن هناك تفسيرا مهما وجامعا لم يعرف فى المشرق كماعرف فى المغرب، وإن لم يكثر تداوله، وهو تفسير «يحيى بن سلام»
__________
(1) فى كتابه التفسير ورجالة إصدار مجمع البحوث ص 21.
(2) فى كتابه ضحى الإسلامى ص 142 الطبعة الأولى نقلا عن الإتقان للسيوطى.
(3) اسمه: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج من علماء مكة ومحدثيهم وأول من صنفالكتب بالحجاز أصله روميّ نصرانى ولد سنة 80 هـ وتوفى سنة 150، لم يظفر بإجماعالعلماء على توثيقه فيما يرويه ورماه كثير منهم بالتدليس ورواية الموضوعات ..

الذى كان أولالتفاسير ظهورا فى النصف الثانى من القرن الثانى الهجرى، والذى سار فيه أيضا علىطريقة جمع الروايات المتداولة فى تفسير الآية، مما اقتضى جمع روايات متخالفة فىتفسير الآية الواحدة غير أنه كان يتعقبها بالنقد والاختيار .. فبعد أن يوردالأخبار المروية، مفتتحا إسنادها بقوله «حدثنا» يأتى بحكمه أو برأيه مفتتحا بقوله«قال يحيى» إلخ ..
وهذه هى الطريقة التى سار عليها الطبرى فى تفسيره .. وهى طريقة التفسير الأثرىالنظرى، وفيها شىء من التجديد والترقى عما سبقها، حيث يعتبر إيراد رأى المفسر،اختيارا لرأى أو رواية من الروايات، ورفضا لما عداها، أو نهجا فى التفسير يرتضيه.. ويحيى بن سلام ألف تفسيره وروى عنه بالقيروان من بلاد المغرب، وتوفى سنة 200هـ، والطبرى ولد سنة 224 هـ فى المشرق فى طبرستان، ولكنه رحل إلى مصر، والشام،والعراق، التى توفى بها سنة 310 هـ، فهل يمكن القول بأنه اطّلع على تفسير يحيى بنسلام واستفاد منه؟.
ويقول الفاضل بن عاشور إنه «توجد نسخة من تفسير ابن سلام عظيمة القدر نسخت منذ ألفعام، موزعة الأجزاء بين المكتبة العبدلية بجامع الزيتونة، وبين مكتبة جامعالقيروان، ومن مجموعها يتكون نحو الثلثين منها، ويوجد جزء آخر منها عند بعضالعلماء لعله يتممها»
فهذا التفسير- إذن- لم يطبع حتى الآن، ولا عجب فى ذلك على أمة هذه حالها منميراثها .. فقد ظل تفسير الطبرى بعد رواجه فى أوائل ظهوره وترجمته للفارسية-مخطوطا مهملا، وإلى عهد قريب لم يكن متداولا، حتى عثر على نسخة كاملة منه فى حيازة«أمير حائل» «حمود بن الأمير عبد الرشيد» من أمراء نجد، من نحو سبعين سنة فطبععليها الكتاب (1) وصار متداولا معروفا لدى الخاصة والعامة، وأيضا من أهم المراجعفى التفسير .. جمع إلى الرواية النقد والاختيار للرأى الذى يراه. وكان يخطئالمفسرين الذى يعتمدون على مجرد الرأى واللغة .. ويعتبر تفسيره موسوعة ضمت إلىالروايات المتعددة، الثمينة
__________
(1) التفسير والمفسرون للمرحوم الدكتور الذهبى ص 208 نقلا عن كتاب المذاهب الإسلاميةفى التفسير ص 86.

والغثة،دراسات فى اللغة، ونقد للروايات أحيانا، وأقوال السابقين واختيار الرأى الذى يراهأخيرا ..
وقد جاء هذا التفسير الزاخر الضخم الموسوعة شبيها بنهر كبير، ضم مع الماء العذبكثيرا من القش والنفايات، وعلى القارئ وهو يسبح فى خضم هذا النهر أن يختار طريقه.. أو إذا أراد أن يشرب منه أن يعنى بتصفية الماء الذى يشربه.
. ولا شك أن هذا الكتاب وهو مخطوط قد عرف فى زمنه، وبعد زمنه، واطلع عليه طلابالعلم والعلماء، وأخذوا عنه، كما كتب الكثيرون من كبارهم يشيدون به بما لم يظفر بهكتاب آخر، وكانت هذه الإشادة به من علماء المشرق والمغرب، وفى عصور متتالية، دليلاعلى تداوله.
وقد حذا كثير من العلماء منهج الطبرى فى التفسير، وإن زاد بعضهم عليه نقداللروايات التى يذكرها حسبما عرف فى علم الجرح والتعديل لرواة الأحاديث، كابن كثيروعمدتهم جميعا الاعتماد على الرواية المأثورة فى تفسيرهم، ولا يمكن لنا تتبع ماكتب فى هذه الناحية بالحصر، وإن أمكن ذكر بعض التفاسير المشهورة، وإن تفاوتتشهرتها مثل: «بحر العلوم للسمرقندى، والكشف والبيان للثعلبى، ومعالم التنزيلللبغوى، والمحرر الوجيز لابن عطية، وتفسير ابن كثير، والجواهر للثعالبى، والدرالمنثور للسيوطى» (1)
وتفسير ابن كثير تفسير متداول بيننا، حائز للقبول، ويمتاز فى اعتماده على الروايةبنقدها، وبيان قيمتها من الصحة أو الضعف، أو الغرابة أو الوضع ..
وقد قام بعض الفضلاء بتجريده واختصاره ..
وكان بجوار هذه التفاسير التى عرفت بأنها كتب التفاسير بالمأثور. كتب أخرى لم ينحأصحابها منحى الطبرى وإخوانه بل سلكوا طريقا آخر- وكانوا ممن يميلون للاعتماد علىالعقل والرأى- وعرفت هذه الكتب باسم «التفاسير بالرأى»، وهذا يعنى عندهم عدمالاعتماد الكلى أو غالبا على الروايات وسردها، بل الاعتماد على التصرف العقلىواللغوى والبلاغى والعلمى فى
__________
(1) المرجع السابق ص 204.

استخراج معانىالآيات .. مع ما صح عند المفسر واختاره من روايات للاستشهاد بها، وكان من هؤلاءالذين نحوا هذا المنحى المعتزلة .. لكنهم تغالوا فى الاعتماد على الرأى، حتىأنزلوا القرآن على مذهبهم الاعتزالى، واشتطوا فى التأويل .. فمنهم من عنى بإعرابالقرآن واستخراج معانيه عن هذا الطريق كالزجاج «القرن الثالث الهجرى» صاحب كتاب«معانى القرآن وإعرابه» (1).
ومنهم من عنى بالوجه البلاغى للقرآن، فبنى تفسيره على هذا الاتجاه مثل «تفسيرالكشاف» لجار الله محمود بن عمر الزمخشرى (467 - 538) ..
منتصرا لمذهبه المعتزلى حين تجىء مناسبة ..
وكان هؤلاء يعيبون على أهل التفسير بالمأثور اعتمادهم على روايات غير صحيحة،وساعدهم على هذا القول ما اعتمده البخارى من أحاديث قليلة فى تفسير القرآن، حيثقال هؤلاء: إن ما عدا هذا مما ذكره المفسرون، واعتدوا به فى التفسير، غير صحيح،وشوشوا عليهم وجرحوهم .. حتى لنجد المعتزلى الكبير إبراهيم النظام يقول:
«لا تستر سلوا إلى كثير من المفسرين، وإن نصبوا أنفسهم للعامة، وأجابوا فى كلمسألة، فإن كثيرا منهم يقول بغير رواية على غير أساس، وكلما كان المفسر أغربعندهم. كان أحب إليهم، وليكن عندكم عكرمة، والكلبى، والسدى، والضحاك، ومقاتل بنسليمان، وأبو بكر الأصم فى سبيل واحدة، فكيف أثق بتفسيرهم، وأسكن إلى صوابهم؟» ولاشك أنه كان لمذهب الاعتزال أثر فى هذه النظرة .. ومن هنا انصرف المعتزلة إلى كتابةتفسير لا يعتمد على هذه الروايات، وإن شايعهم فى ذلك العقلانيون من غير المعتزلةدون طعن على السابقين، فوجدنا كتبا فى التفسير لا تعتمد على الرواية اعتمادها علىالعلوم العقلية كالنحو والبلاغة والعلوم التى اكتسبها المسلمون من آثار ترجمةالكتب اليونانية الفلسفية وغيرها ..
__________
(1) شرح وحققه الدكتور عبد الجليل شلبى، وطبع تحت إشراف الأزهر .. على نفقة الشيخخليفة بن زائد ولى عهد الإمارات.

فما دام منهجالاعتماد على الروايات قد جرحه المعتزلة هذا التجريح، وأصبحت الثقة به ضعيفة،فليعتمد هؤلاء على منهج جديد، يلبى حاجة العقول فى عصرهم ولا يعتمد على الرواية،بل يعتمد على اللغة العربية والمعانى المستخرجة من حقيقتها ومجازها، بالاضافة إلىما استفادوه من علم المنطق وغيره ..
وأقبلوا على القرآن يفسرونه بهذا المنهج، وينصرون مذهبهم الاعتزالى بتأويل القرآنوإنزاله عليه كلما جاءت مناسبة تمس مذهب السنة، أو الاعتزال، واستعملوا مهارتهمالكلامية فى ذلك، حتى أو غلوا فى التعسف فى تأويل بعض الآيات وفى الوقت الذى سادفيه مذهب الاعتزال، وسانده الحلفاء العباسيون، كان هؤلاء يعتقدون أنهم فرسانالحلبة فى تفسير القرآن، وعلم الكلام.
بينما أهل السنة ممن يؤثرون التفسير بالماثور وقفوا منهم موقف المعارض الذى يعتقدأن المعتزلة بمنهجهم هذا يعتدون على كلام الله، وبعدت بينهم الشقة من هذه الناحيةأيضا ..
ولكن بدأ جو المعتزلة فى الانكماش بعد تخلى الخلفاء عنهم، وبعد ظهور أبى موسىالأشعرى الذى وقف بعلم وعناد ضد مذهبهم.
وبدأ أهل السنة فى العمل فى مجال التفسير وغيره بقوة، فكان من ذلك مؤلفات فىالتفسير وغيره لعلماء فى المغرب والمشرق .. لا سيما بعد أن أقبلوا على بضاعةالمعتزلة من علم المنطق والفلسفة وغيرهما، ليتخذوا منها أسلحة لبيان معانى القرآن،ولتأييد آرائهم .. وللرد على مخالفيهم.
وفى هذا الجو ظهر الامام فخر الدين محمد بن عمر بن الخطيب الرازى الشافعى. وقدمفيما قدم من مؤلفات تفسيره الذى سماه «مفاتيح الغيب» فكان أساسا وعمدة لأهلالتفسير بالرأى من غير المعتزلة، كما كان الطبرى أساسا وعمدة لأهل التفسيربالمأثور.
ويصبح من حقهما وحق القراء علىّ أن أذكر نبذة عنهما وعن تفسيرهما فيما بعد ..

[أصل هذا التقسيم]
وأصل هذا التقسيم أو هذا الاصطلاح- الذى يقتضى إلقاء ضوء عليه، أصله قديم منذ عهدالصحابة الذين كانوا يتحرجون أن يتكلموا فى تفسير آية إلا إذا كانوا قد سمعوا عنالرسول شيئا فيها .. حتى لما سئل أبو بكر رضى الله عنه فى معنى آية لم يكن يروىعنها شيئا امتنع وقال عبارته المشهورة «أى أرض تقلنى وأى سماء تظلنى لو قلت فىالقرآن برأيى».
فاتخذ الناس من هذا الكلام دليلا على وجوب الاعتماد على التفسير المأثور، بحيث لايتكلم أحد فى التفسير إلا برواية رويت .. وكان هذا سببا فى بدء حياة التفسير،اعتمادا على الرواية، وجمعوا فيها الغث والثمين. كما عرفنا، وكانت مزرعة، نما فيهاالكثير من الاسرائيليات، والخرافات حول تفسير القرآن، وذلك لأن الأحاديث لم تغطتفسير القرآن، فلجئوا لأقوال الصحابة وغيرهم، ولروايات أخرى يفسرون بها.
بينما نظر آخرون إلى قول أبى بكر، نظرة غير هذه النظرة، وقالوا لا يعنى كلامه هذاأن نهمل عقولنا ومعارفنا فى تفسير الآيات، من حيث اللغة، والمعنى الظاهر السافرونخرج برأى حسب ما تؤديه الكلمات العربية، والأسلوب العربى، والله يقول «إناأنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون» فالموضوعات التى تحتاج إلى رواية، وهى التى لايمكن للعقل أن يحكم فيها .. نرجعها للرواية .. ونقف عندها ..
لكن الآيات السافرة الظاهرة، التى تحكى قصة، أو تقول حكما، أو تحث على نظر فىالكون .. الخ. مما لا يحتاج فهمها إلى رواية؛ نتولى فهمها بعقولنا، ومعارفنا فىاللغة أو الأحكام، أو الكون .. بحيث لا نخرج عن قرآن صريح، أو حديث صحيح، هذا إذالم يدفعنا فضولنا لمعرفة ما تركه القرآن من تفاصيل، بل قال بعضهم: إن النص إذاتعارض مع العقل، أوّلنا النص لما يوافق العقل، والله يقول «أفلا يتدبرون القرآن ..» وتفاسير هؤلاء سموها «التفاسير بالرأى»

ومثل هذا حدثفى الفقه أيضا حيث ظهرت مدرستان فقهيتان: مدرسة الحديث. ومدرسة الرأى، واشتهر عنمالك رضى الله عنه أنه من مؤسسى المدرسة الأولى فى المدينة، وعن أبى حنيفة أنهمؤسس المدرسة الثانية فى العراق.
وحدث أيضا فى علم الكلام حيث انقسم المتكلمون فى علم التوحيد أو فى صفات الله ..إلى سلف: يحجمون عن التأويل فى مثل يد الله، وعينه، ووجهه، واستوائه مما ورد فىالقرآن، ويقولون: له يد .. لا كأيدينا .. ولا نقول أكثر من ذلك، وإلى خلف: رأوا أنمثل هذا الموقف لا يشبع نهم عالم، ولا يردّ شبهة متمرد، فلجئوا إلى التأويل بأناليد معناها القدرة، ليسكتوا هؤلاء المتمردين .. معتمدين على الاستعمالات المجازيةفى كلمة اليد فى الأسلوب العربى ..
ولا نعتقد أن أحدا منهم جاوز الهدف فى أيامه فى خدمة الاسلام، ولكن كان لكل منهمطريقة فى أداء هذه الخدمة حسبما رأى، على أن الذين اتجهوا إلى الاعتماد فى التفسيرعلى الرأى لم يهملوا الأحاديث الصحيحة، بل ذكروها أيضا، وجالوا فى دائرتها، علمابأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفسر القرآن كله، ولم ترو أحاديث صحيحة يمكن بهاتفسيره كله .. فالحاجة تدعونا- إذن- إلى الاعتماد على العقل والرأى فى التفسير.
على أن الذين عابوا التفسير بالرأى لم يعيبوه إلا لبعض سقطات من بعض الذين تركواالحديث، واعتمدوا على عقولهم وعلى وجه من وجوه اللغة، غير ناظرين لما روى من حديثصحيح، ولا إلى الوجه الآخر فى اللغة، ولا إلى جو الآية .. بل نجدهم- أعنى أصحابالتفسير المأثور- أعملوا عقولهم فى التفسير، فإن أبا بكر رضى الله عنه، لم يكنيعنى إلغاء عقله نهائيا أمام القرآن والتوقف النهائى عن فهمه، إذا لم يرد فيهحديث، بل كان وقوفه أمام أمر يحتاج إلى رواية .. بدليل أنه وعمر وابن عباس وباقىالصحابة، كانوا يرجعون فى الفهم إلى لغة العرب واستعمالاتهم، وقد سأل عمر عن معنى«الأب»، وعن معنى «تخوف»، وكان ابن عباس يفسر القرآن بما عرفه من كلام العرب

وشعرهم، وأبوبكر كان متورعا وقافا عند ما يؤثر عن الرسول حتى أنه عارض فى كتابة القرآن أولا،ثم اقتنع بكتابته .. فالخلاف الذى نشأ قديما بين المدرستين، كان خلافا بين زمنين،أو فى الحقيقة- إن شئنا الدقة- لم يكن خلافا جوهريا، بقدر ما هو خلاف شكلى، بدليلأننا يمكننا- بل رأينا مفسرين- أمكنهم الجمع بين الطريقتين أو بين الحسنيين ..وأما الأحاديث التى رويت فى النهى عن التفسير بالرأى فمطعون فيها وإن كان السابقونقد أخذوا بها، لكن الظاهر والمفهوم بداهة، أن المراد بالرأى الوارد ذمه فى الحديثلو اعتمدناه، إنما هو الهوى الذى لا يعتمد على أساس، والذى يخرج القرآن عن معناهالأصيل وعن هدفه .. كما يحصل من تأويلات فاسدة، أو بعيدة كل البعد، يلجأ إليهاأصحاب الهوى لخدمة أغراضهم، أو أغراض الذين يتزلفون إليهم ..
أما القول بالرأى: فى حدود اللغة والقواعد العامة، والنصوص الأخرى، فلا يمكن أنيكون محل تهديد من الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا لو كان محل هذا التهديد منالرسول، لعنى صلى الله عليه وسلم بتفسير كل آية وكل كلمة، حتى لا يترك مجالا لرأىمن الآراء، والرسول لم يؤثر عنه ذلك ..
وكيف وقد أمرنا الله بتدبره فى قوله تعالى «كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌلِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» (1)
وقوله تعالى أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها 24(2)
وقوله إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ 3 (3)
وقوله فى ختام آيات كثيرة تعرض مظاهر خلق الله:
«إن فى ذلك لآيات للمؤمنين، أو لقوم يتفكرون، أو يتذكرون ..
__________
(1) ص/ 29.
(2) محمد/ 24.
(3) الزخرف/ 2.

وهذه كلهاتأمر بالتدبر والفهم لما يعرضه القرآن، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بالبحث العقلى دونانتظار لحديث يروى، وأين هذه الأحاديث؟
إن هذا الاتجاه وهذا التوقف فى تفسير الآية على حديث من الرسول، فى أمور غيرغيبية، لا يمكن أن يكون الباعث عليه إلا مجرد الورع والخوف من الوقوع فى قول خطأ،يتحمل مسئوليته ومسئولية من يقتدى به طول الزمن ..
وإلا فلا يجوز أبدا أن يكون منهجا لفهم القرآن، وإلا كنا قد حسبناه فى قمقم،وحجزنا هديه عن الناس ومنعنا تدبره، ومعرفة ما يشير إليه من أسرار.
. فيها الهدى للناس، ولا يمكن أن نقول فى تفسير كتفسير الإمام الطبرى ورأيه فىالآية، إن الطبرى لم يستعمل رأيه فى فهم الآية ونحمد الله على أن هذا الرأى لميسيطر على علماء المسلمين جميعهم، بل قام أفذاذ العلماء برده والتخلص منه، وأقبلواعلى تفسير القرآن بما منحهم الله من عقل وفهم ورأى، ولم يغفلوا مع ذلك ما ورد منروايات صحيحة، وكانوا حائزين لكل الشروط، أو متسلحين بكل الأسلحة التى يجب أنيتسلح بها كل من يريد التفسير: من علوم اللغة والبلاغة، ومعرفة الناسخ والمنسوخ،وأصول الفقه وما ورد من أحاديث صحيحة، ولا سيما فى آيات الأحكام، وآيات الغيب، ومنأسباب النزول، مع ذوق يعينه على استشفاف المعانى. ومع تجنب شد الآيات وليّها نحورأيه ومذهبه وهواه ..
فترك هؤلاء العلماء لنا كثيرا من التفاسير التى عرضوا فيها آراءهم وفهومهم للقرآن،وما يتصل به من علوم ومعارف، مع اسهاب، أو توسط، أو اختصار، فكان لنا من ذلك كلهذخيرة ضخمة، ووردا يقصده كل طالب علم .. وما يزال القرآن مقصد العقول والهمم،يتناولونه بالتفسير من خلال ما وهبهم الله من فهم له وتدبر لآياته .. ليس هناك مايصد عن هذا المورد العذب، إلا سوء الفهم أو سوء القصد، أو تحميل للألفاظ ما لاتحتمله، وخروج بها عن الظاهر إلى معان باطنية بعيدة، وجعلها رموزا لأشياء يعرفونهاهم .. كما حصل من كثير من الباطنية والمغرقين من الصوفية، وكما

يحصل الآن منبعض الذين تعرضوا للتفسير، وقد كان هذا المورد أو النهر الخضم العظيم، مجالا واسعالكل من أنس القدرة على العوم فيه، بما تيسر له من علم وأدوات، فبعضهم خاضه بماأتقنه من علوم العربية، وبعضهم أضاف إلى ما عرفه من علوم الدين، ما علمه من علومالكون كالرازى، وبعضهم ركز فيه على الجانب الذى يتقنه، فجعله معرضا لعلم الفقهوالأحكام .. وهكذا.
يقول السيوطى (1): «ثم صنف بعد ذلك قوم برعوا فى علوم، فكان كل منهم يقتصر فىتفسيره على الفن الذى يغلب عليه، فالنحوى تراه ليس له هم إلا الإعراب وتكثيرالأوجه المحتملة فيه، ونقل قواعد النحو ومسائله وفروعه وخلافياته كالزجاج والواحدىفى البسيط، وأبى حيان فى البحر والنهر.»
«والأخباري ليس له شغل إلا القصص واستيعابها، والأخبار عمن سلف سواء كانت صحيحة،أم باطلة كالثعلبى»
«والفقيه يكاد يسرد فيه الفقه من باب الطهارة إلى أمهات الأولاد، وربما استطرد إلىإقامة أدلة الفروع الفقهية التى لا تعلق لها بالآية والجواب عن أدلة المخالفينكالقرطبى»
«وصاحب العلوم العقلية كالفخر الرازى قد ملأ تفسيره بأقوال الحكماء والفلاسفةوشبهها. وخرج من شىء إلى شىء، حتى يقضى على الناظر العجب من عدم مطابقة الموردللآية»
«والمستبدع ليس له قصد إلا تحريف الآيات وتسويتها على مذهبه الفاسد»
«والملحد لا تسأل عن كفره وإلحاده فى آيات الله»
ويعتبر هذا ملخصا لنظرة السيوطى إلى التفاسير التى ظهرت واطلع عليها فى أيامه(1849 - 911 هـ)
__________
(1) فى كتاب الاتقان الباب الثمانون ص 190 ج 2 طبعة حجازى.

كتب التفسير
وأرى من المستحسن أن أمر بك سريعا على كتب التفسير التى ألفت حتى عهد السيوطى لمجردالتعريف بها وبمؤلفيها فى سطور .. سواء من ذلك كتب التفاسير بالمأثور أو كتبالتفاسير بالرأى- المعتزلى منها وغير المعتزلى:

[التفسير بالمأثور]
1 - جامع البيان فى تفسير القرآن للطبرى (224 - 310) وهو عمدة التفاسير
2 - بحر العلوم «للسمرقندى المتوفى سنة 373 هـ لا يزال مخطوطا
3 - «الكشف والبيان» للثعلبى أو الثعالبى المتوفى سنة 427 هـ لا يزال مخطوطا
4 - معالم التنزيل: للبغوى المتوفى سنة 516 هـ مطبوع ..
5 - المحرر الوجيز لابن عطية الأندلسى الغرناطى المتوفى سنة 546 وهو ند تفسيرالكشاف. وأكثره قبولا لدى العلماء
6 - تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير البصرى ثم الدمشقى ولد سنة 700 هـ وتوفىسنة 774 وكان محبا لابن تيمية وآرائه
7 - الجواهر الحسان فى تفسير القرآن للثعالبى المغربى المتوفى سنة 876 ودفنبالجزائر ..
8 - الدر المنثور فى التفسير بالمأثور للسيوطى المولود سنة 849 - والمتوفى سنة 911فى منزله بروضة المقياسى وهو مختصر من كتابه «ترجمان القرآن» الذى ذكر فيه أحاديثالتفسير بأسانيدها وفى الدر المنثور حذف الأسانيد، واختصر على المتن ..
وهذه هى الكتب التى اختارها المرحوم الشهيد الدكتور الذهبى فى كتابه (1) عنالتفسير بالمأثور وهى تقريبا عالة على الطبرى ..
__________
(1) التفسير والمفسرون ج 1 ص 204.

[التفسير بالرأى]
وهناك كتب تفسير غير هذه تعتبر من التفسير بالرأى المحمود وهى تفاسير أهل السنةوهى:
1 - مفاتيح الغيب للإمام فخر الدين الرازى (544 - 606 هـ) وسنفرده بحديث خاص ..
2 - البحر المحيط لابن حيان الأندلسى الغرناطى (أثير الدنيا أبو عبد الله محمد بنيوسف) ولد سنة 654 هـ وقد عنى فيه بوجوه الإعراب والقراءات، وينقل عن السابقين مايراه
3 - تفسير البيضاوى (ناصر الدين أبو الخير عبد الله) المتوفى سنة 1685 و 691 هـوهو تقريبا مختصر من تفسيرى الكشاف والرازى ..
4 - تفسير الخازن (علاء الدين أبو الحسن على بن محمد) البغدادى الشافعى، ولد بدمشق678 هـ وتوفى سنة 741 هـ وقد نقله عن البغوى والسابقين وحشاه بالاسرائيلياتوالخرافات والأكاذيب. وكان هذا عيبه مع أنه جيد الرأى والعبارة ..
5 - تفسير النسفى: (أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفى الحنفى توفى سنة701، وقد اختصره من الكشاف تقريبا مهملا كلام الزمخشرى فى الاعتزال .. وهو معروفحتى لطلاب العلم لأنه مقرر عليهم بالأزهر ..
6 - غرائب القرآن: للنيسابورى. (نظام الدين الحسن بن محمد الحسين الخراسانىالنيسابورى) توفى حول سنة 850 هـ وقد اختصره من تفسير الرازى مع الكشاف وغيرهبتصرف ..
7 - تفسير الجلالين: جلال الدين المحلى الشافعى وجلال الدين السيوطى الشافعى أيضابدأه المحلى من أول الكهف إلى سورة الناس وهو مولود بمصر سنة 791 هـ وتوفى 864 هـثم جاء السيوطى المتوفى سنة 911 هـ مفسرا من أول البقرة لآخر الاسراء على منهجالمحلى .. وعليه حاشية الصاوى والجمل ومعروفة لدى طلاب العلم وغيرهم ..

8 - السراجالمنير: للخطيب الشربينى القاهرى الشافعى المتوفى سنة 977 هـ وقد ذكر فيه أنهاقتصر على أرجح الأقوال. مع إعراب، وقراءات وإسرائيليات ..
9 - إرشاد العقل السليم: لأبي السعود التركى. ولد بقرية قريبة من القسطنطينية سنة893 هـ وبرز فى العلم حتى تولى الافتاء ومكث بها نحو 30 سنة ويلقبه المفسرون «بشيخالإسلام» وتوفى بالقسطنطينيه سنة 982 هـ ودفن بجوار قبر أبى أيوب الانصارى المعروفهناك .. وهذا التفسير يمتاز بحسن الصياغة والكشف عن أسرار البلاغة القرآنية،وأسلوبه يحتاج إلى تأن فى فهمه ودقة فى قراءته ..
ولا أظن أن السيوطى قد اطلع على هذا التفسير فقد ألف بعد وفاته وهو بمصر، وأبوالسعود فى تركيا ويعتبر تفسير الرازى غالبا أساسا لهذه الكتب ..
أما تفاسير المعتزلة: ويسميها أهل السنة: بالتفاسير البدعية، نظرا لأن أصحابهاتعسفوا فى تأويل بعض آيات القرآن على مذهبهم تعسفا شائنا غير مقبول فى أحيانكثيرة. بتنزيلهم القرآن على مذهبهم، وقواعده الخمسة.
ومن أشهر كتبهم المتداولة ما ذكرناه من قبل وهو:
1 - معانى القرآن وإعرابه للزجاج
2 - الكشاف لجار الله محمود الزمخشرى ولد فى سنة 467 وتوفى سنة 538 هـ وهو معروفمتداول ..
3 - تنزيه القرآن عن المطاعن للقاضى عبد الجبار (أبو الحسن بن أحمد الهمذانىالأسدآبادى الشافعى شيخ المعتزلة المتوفى 415 هـ .. وهو مطبوع فى مجلد واحد كبير
ولا يرى فى هذا الكتاب من عيب إلا المغالاة فى الانتصار لمذهبه الاعتزالى. وما عداذلك فهو عظيم ..
4 - أمالى الشريف المرتضى أو غرر الفوائد ودرر القلائد: وهو أبو القاسم على ابنالطاهر أبى أحمد الحسين، ينتهى نسبه إلى جعفر الصادق إلى الحسين بن على رضى اللهعنهم .. كان شيخ الشيعة فى العراق ومع ذلك يعتنق مذهب

المعتزلة،والكتاب يضم إملاءات الشريف المرتضى فى ثمانين مجلسا فى التفسير والحديث والأدب،فهو لم يتعهد بتفسير القرآن كله كغيره من المفسرين، بل من خلال نظرته وتفسيره لهذهالآيات التى تعرض لها وهى غالبا آيات فى العقيدة التى ينزلها على مذهبه كان تفسيرهوقد ولد سنة 355 هـ وفى سنة 436 ببغداد.

النظرة إلى تفاسير المعتزلة:

نظرا للخصومة الشديدة التى كانت قائمة بين المعتزلة وأهل السنة، رأينا الأخيرينيطلقون على تفاسير المعتزلة، أنها تفاسير بدعية، وراج هذا الإطلاق برواج مذهب أهلالسنة، وسيطرته على العقول، وتراجع مذهب المعتزلة، وانكماش القائلين به، حتى لميعد لهم كيان خاص بهم. حتى رأينا المرحوم الشهيد الدكتور الذهبى .. يدرج هذهالتفاسير ضمن التفاسير البدعية، تأثرا برأى أهل السنة فيهم ..
والمعتزلة- بالرغم من آرائهم التى ذهبوا إليها وتخالف مذهب أهل السنة- كانوامخلصين فى اتجاههم لهذه الآراء لخدمة الاسلام على الصورة التى رأوها ..
وقد استنفدوا كل وسائلهم للدفاع عن مذهبهم .. وإن كانوا قد استعملوا سلطة الخلافةفى تدعيمه والتنكيل بمخالفيه، كما حصل فى فتنة القول بخلق القرآن، وما جرى فيها منتصرفات شاذة لا يقبلها العقل ولا الدين ..
لكن خصومة أهل السنة لهم كانت شديدة شدة خصومة المعتزلة لهم- وحين مال الميزانلصالح أهل السنة انقضوا على المعتزلة وآرائهم وسفهوهم وسفهوها، ومن ذلك تسميةتفاسيرهم بالبدعية، أما نحن فى أيامنا، فلا يجوز أن نتأثر بهذه الخصومة، بعد أنركدت ريحها، وذهب زمنها، وبالتالى ننأى بجانبنا عن كتب المعتزلة وآرائهم جملة ..بل ننظر إليها من حيث الموضوع غير متأثرين ولا وارثين لخصومة أهل السنة لهم ..
ففي هذه الكتب والتفاسير ما لا يحصى من الفوائد العلمية. وآراؤهم الخاصة تحتنظرنا، يأخذ بها من يأخذ ويتركها من يترك ..
ومن هذه التفاسير، تفسير الكشاف وهو موضع القبول جدا لدى المشتغلين

بالتفسير ..وكذلك غيره .. وإذا كان تفسير الطبرسى الشيعى قد أخذ مكانه لدينا، فلا يليق بناإغفال كتب المعتزلة ..

تفاسير الألف الثانى من الهجرة

هذه التفاسير التى ذكرناها كانت من نتاج العقول فى الألف الأول الهجرى.
. وهو كما ترى حافل بالمؤلفات ومنها التفاسير .. وكان آخرها تفسير أبى السعودالتركى «ارشاد العقل السليم» فقد ألفه صاحبه فى النصف الثانى من القرن العاشر.
فإذا استعرضنا تآليف أو تفاسير الآلف الثانى فإننا سنجد فى مقدمتها:
تفسير روح المعانى: لشهاب الدين محمود الألوسي الحنفى البغدادى. الذى ولد سنة 1217هـ فى بغداد وتوفى سنة 1270 هـ، واستفاد فيه بكل ما سبقه من تفاسير، واختار منهاما أراد، مع عناية بنقل عبارة أبى السعود غالبا معبرا عنه بشيخ الاسلام، كما يعبرعن الرازى بالإمام. وله شخصيته حين يذكر الآراء، ويقارن بينها، ويختار منها، معتفنيده لآراء المعتزلة والشيعة، ومع ذكره لآراء أهل الفلك والفلسفة، وإقرار مايرتضيه، ومع عنايته بالمسائل النحوية والفقهية والكلامية، ونقده الشديد ورفضهللاسرائيليات، والأخبار المكذوبة، فجمع فيه الألوسي ما اعتبره زبدة آراء السابقين.. وإنه لكذلك، فقد وجد مائدة السابقين مبسوطة أمامه، فانتقى منها ما قبلته نفسه،وهضمه عقله، وقدمه بشيء قليل أو كثير من التوسع حسب المقاسات .. لكنه عنى بما لميعن به غيره من التفسير الصوفى والإرشادى الرمزى، بصورة تصوره بأنه من أهل العلمبهذا التفسير والرضا به .. مع أنه تفسير مرفوض من الأغلبية الساحقة من المسلمين.
. وعسير الهضم على عقولهم ..
وكان هذا آخر التفاسير الجامعة المعروفة على النسق القديم، والسائرة على منهجها،الدائرة فى فلكها .. ويعتبر لذلك من أوسع المراجع المهمة فى التفاسير، وأوفرهاقصدا واعتدالا ..

ملاحظة عامة:
والظاهرة العامة فى هذه التفاسير منذ نشأتها .. عنايتها بالإعراب والوجوه البلاغيةوالقراءات والأحكام الفقهية وخلافاتها وأدلتها أحيانا، كما لوحظ عليها ذكرالروايات والاسرائيليات والقصص الخرافية البعيدة عن العقل .. مما يعتبر عيبا كبيرافى هذه التفاسير .. وإن كان قليل جدا من المفسرين من ذكر هذا وعقّب عليه بالنقد ..سواء فى الأحاديث أو غيرها من الروايات التى لا أصل لها إلا الاسرائيليات ..
ولذلك فإننى أرى أن الفكر الاسرائيلى قد غزا الثقافة الاسلامية من منبعها، وشوشعليها وأساء إليها، حتى لنرى الكثير من العقول- حتى عقول العلماء- فيها أثر كبيرلهذا الغزو الغريب الذى كان يجب على مفكرينا وعلمائنا أن يتنبهوا له ويتحاشوه ..ولكن هذا ما كان. وظهر أثره جليا فى عصرنا، عصر العلم والحساسية الدينية، وهجومالكثيرين على الاسلام وكتبه، مما يلقى علينا الآن عبئا كبيرا فى تطهير كتبنا منأثر هذا الغزو الذى بات يشكو منه الكثيرون ويستهجنونه ..

[كتب تفسير للفرق الاسلامية]
وإذا كنا قد عنينا بذكر كتب تفسير لأهل السنة، فليس معنى هذا أنها الوحيدة فىالميدان. فهناك فرق دينية متعددة. الشيعة الامامية، والزيدية، والخوارج ..
وكل هذه الفرق تعتمد على القرآن وتعتز به، وتتخذ منه أساسا لمذهبها، ومن الطبيعىأن ينشط علماء هذه الفرق، ويكتبوا تفسيرا لأتباعهم، لكن كل علماء فرقة، ينتهزونفرصة وجود آية يمكن أن تخدم مذهبهم فيؤولوها لما يريدون، وبعضهم كالشيعة اشتطوا فىتفسير بعض الآيات بما لا يقبله العقل.
. ولكنه بالنسبة للأتباع مقبول، وهم معصوبو العقول. يقبلون كل كلام يذكى فيهم روحالمذهب ولو كان غير معقول ..
ولكن مما لا شك فيه أنهم فيما عدا هذه الآيات يفسرون تفسيرا موضوعيا

كغيرهم منالمفسرين السنيين. وأمامنا تفسير كمجمع البيان للطبرسى الشيعى، نجد فيه مرجعا طيباللبحوث التفسيرية، من حيث الإعراب والقراءات واللغة، والمعنى، يمكن الاعتماد عليهكما يمكن كشف الآراء الشيعية وتجنبها ..
وبجوار هذه توجد تفاسير أخرى، إشارية رمزية صوفية، تناول أصحابها فيه القرآنبالروح الصوفية واعتبروا كلماته الصريحة رموزا وإشارات لأشياء قائمة فى أذهانهم ..واستعملوا عبارات خاصة بهم، ربما تثير الالتباس والشكوك عند غيرهم من غير الصوفية..
ولذلك لا أستحسن للعاديين اقتناء هذه التفاسير، ولا قراءتها، إلا لمن هم فى وجدكوجد الصوفيين الذين ألفوها، ويكونون على دراية برموزها ..
ويكون لديهم القدرة على تمييز الغث من السمين ..
ولا أود أن أثقل عليك هنا بذكر هذه التفسيرات، ومؤلفيها، فهى لا تعنينا كثيرا، ومنأراد أن يستزيد .. فيمكنه أن يراجع كتاب «التفسير والمفسرون» ج 2، 3 للمرحومالشهيد الدكتور الذهبى، فقد ذكر هذه الكتب على صورة مرتبة منسقة تسهل مراجعتها ..جزاه الله خيرا ..
وكنت قد وعدت سابقا بأن أقدم لك دراسة مختصرة عن عمدة التفاسير بالمأثور ومؤلفه«جامع البيان» وهو الامام الطبرى، وها أنا ذا أبر بوعدى وأقدمه لك، على أن أقدم لكبعده عمدة التفاسير بالرأى الإمام فخر الدين الرازى وتفسيره «مفاتيح الغيب» الذىأعتبره أول وأقدم تفسير علمى ..

ابن جرير الطبرى وتفسيره
هو أبو جعفر محمد بن جرير الطبرى الذى ترك لنا تفسيره المسمى ((جامع البيان عنتأويل آى القرآن)) المشهور باسم تفسير الطبرى. بجوار ما تركه من مؤلفات قيمة فىالتاريخ وغيره.
وكانت ولادته سنة 224 هـ فى بلدة آمل عاصمة اقليم طبرستان بإيران وهى كلمة مؤلفةمن مقطعين «طبر» آلة من آلات الحرب التى اشتهرت بصنعها المنطقة و «ستان» معناهاأرض أو منطقة، أو بلاد مثل «كردستان» - افغانستان.
(أى بلاد الكرد وبلاد الأفغان). فنسب إلى المقطع الأول «الطبرى» واشتهر به ..
وقد عاش نحوا من خمس وثمانين سنة حيث توفى سنة 310 هـ فى بغداد ودفن (1) بها ..أعنى أنه عاش فى أزهى عصور الاسلام تقدما وانتاجا على كل المستويات الفكرية. وكانمن الطبيعى لإنسان موهوب من صغره، محب للعلم، متفان فيه، كالطبرى .. أن يجد ضالتهوغذاءه العقلى فى هذا العصر الذى يعيش فيه، لكن ذلك لم يتم له بسهولة .. فالعواصمالفكرية العلمية التى تزخر بالعلماء كانت بعيدة عن موطنه الأصلى، فكان لا بد له منالارتحال إليها بعد أن درس على علماء منطقته، وكان أبوه «جرير» من ورائه يمهد لهالطريق وييسر له السبل، منذ أن لمس فى ابنه الصغير نبوغا غير معهود فسافر إلىبغداد والكوفة، ثم ارتحل إلى مصر والشام، ثم استخفه الحنين إلى رؤية موطنه، فذهبإليه ولم يطل المقام فيه، فرجع إلى بغداد، وعكف على التدريس والتأليف، حتى آخر يوممن أيامه، برغم ضعفه وكبر سنه ..
ولقد كان فى كل بلد يحل فيه، يلتقى بفطاحل علمائه، يأخذ عنهم،
__________
(1) مما يذكره التاريخ أن الحنابلة أو أهل الحديث غضبوا عليه لمخالفته لهم فى رأى،فرموا بيته بالحجارة وحاصروه فلم يستطع الخروج حتى مات، ولم يستطيعوا الخروج بجثتهمن بيته فاضطروا لدفنه فيه!!!

ويعطيهم، ولميكن علم هؤلاء الاكابر قاصرا على فرع دون فرع، بل كانوا كالموسوعة، التى تجد فيهاالوانا شتى من المعارف .... من تفسير وقراءات وحديث، وعلم برجاله، ورواياته، ونحووبلاغة، وفقه، وأدب، وتاريخ.
فأخذ عنهم الطبرى هذه الموسوعة، واستوعب هذه العلوم، وبرع فيها، وإن اختلفت درجةهذه البراعة .. ولم يكن ذلك غريبا على رجل كالطبرى، فقد وهب حياته للعلم، وتخفف منكل اثقال الحياة وتبعاتها، حيث قضى حياته دون زواج. مع استعداد كبير للرضا بالحياةوشظفها، فكان انتاجه متساوقا مع نبوغه وفهمه وتفرغه، فترك كثيرا من المؤلفات التىأوصلها بعضهم الى نحو الثلاثين، واشتهر منها مؤلفان: «تاريخ الأمم والملوك»،«وجامع البيان فى تأويل آى القرآن» الذى يقع فى ثلاثين جزءا وهو الذى يهمنا الحديثعنه الآن.

مقدمات سبقته:

ولكن قبل أن نتحدث عن هذا التفسير، لا بد أن نتحدث حديثا موجزا عما سبقه من مقدماتأدت إليه، فإن مثل هذا التفسير الجامع الكبير، لا يمكن أن ينشأ دفعة واحدة، دونمحاولات ومقدمات، ساعدت على ولادته عملاقا ..
فقد وضع هذا التفسير فى النصف الثانى (1) من القرن الثالث الهجرى تقريبا، ولم يكنمعنى ذلك أن السنين التى زادت على المائتين والخمسين قبله لم يكن فيها تفسير، بلكان فيها تفسير ومفسرون، اشتهروا بقولهم فيه، فى كل عاصمة من عواصم العالمالاسلامى: فى مكة، والمدينة، وبغداد، والكوفة، والبصرة، ودمشق، ومصر.
وغيرها من بلاد الأندلس والشمال الافريقى، وكان الراغبون فى التفسير يرحلون إلىهؤلاء المشهورين ويأخذون عنهم ..
لكن التفسير كان شأنه كشأن كل علم اسلامى فى نشأته، نشأ صغيرا مبعثرا، ثم تجمعوكبر بمرور الزمن، وبذل الجهود.
ونحن نعرف أن عصر التدوين للعلوم الاسلامية بمعناه الواسع، لم يظهر إلا فى أيامالدولة العباسية، وكانت هناك تدوينات سبقت هذا العصر، فى عهد
__________
(1) ذكر الدكتور أحمد الحوفى عنه: أنه ألفه قبل كتابه فى التاريخ وأنه قرأه علىتلاميذه سنة 282 هـ وأملاه عليهم من سنة 283 هـ إلى سنة 290 هـ كتاب الطبرى ص 108أعلام الاسلام.

الأمويين وماقبله، لكنها لم تأخذ المظهر القوى، الذى أخذته فى عهد العباسيين، الذى نضجت فيهالعلوم الاسلامية المتنوعة ودونت، وكان منها علم التفسير ..
وكانت الصفة البارزة للذين تعرضوا لتفسير القرآن، تهيبهم من القول فيه بآرائهمواعتمادهم على ما وصل إليهم من روايات يتناقلونها، منها الصحيح ومنها الضعيف أوالموضوع أو المستمد من الاسرائيليات .. ولم يصل إلينا من هذه التفاسير شيء منسق،وإن كنا عرفنا بعض أصحابها. مما تناقله الرواة عنها فى الكتب التى بين أيدينا ..
وقد أثر هذا الجو على الطبرى، فكانت عنايته البالغة بالرواية، وإن لم يمنعه هذا منأن يدلي برأيه موافقا لها أو مخالفا، فكان تفسيره يمثل دائرة معارف ضخمة فى كلالعلوم التى كانت سائدة فى هذا العصر وتتصل بتفسير القرآن، وذلك بسبب نبوغ الطبرىواتساع دائرة معارفه واستفادته من الجو العلمي الذى عاش فيه ..
على أن هذا التفسير العظيم الذى أخذ شهرة واسعة، وتقديرا عظيما من كبار العلماءعند ظهوره حتى ليقول أبو حامد الأسفرائني المتوفى سنة 406 هـ- 1015 م عنه «لو سافررجل إلى الصين حتى يحصل كتاب تفسير محمد ابن جرير لم يكن ذلك كثيرا» أقول إن هذاالتفسير على عظمته اندثر ونامت نسخه فى بعض المكتبات الخاصة .. فمرت قرون وهومندثر، دون أن يعرفه أحد، اللهم إلا بعض نماذج، وورقات مبعثرة، كانت تشير إليه،وتثير تلهف العلماء عليه .. حتى نجد المستشرق «نولدكه» يكتب فى سنة 1860 م بعد أناطلع على نماذج من هذا التفسير، «لو حصلنا على هذا الكتاب لاستطعنا أن نستغنى عنكل كتب التفسير المتأخرة عليه، ولكنه يبدو للأسف. مفقودا بالكلية، ولقد كان مثلكتاب التاريخ الكبير لنفس المؤلف نبعا لا ينضب استمد منه المتأخرون حكمتهم (1).
__________
(1) نقلا عن كتاب مذاهب التفسير لجولد تسهير تعليق المرحوم الدكتور عبد الحليمالنجار ص 108 المطبوع 1955 بمطبعة السنة المحمدية ..

وقد اراد اللهلهذا الكتاب العظيم أن يبعث من جديد فى عهد النهضة المطبعية إذ وجدت منه نسخة خطيةكاملة- كما يقول «جولد تسهير» فى مكتبة أمير حائل. وأمكن الاعتماد عليها فى طبعهبالقاهرة فى أوائل هذا القرن.
ويقول العلامة الاستاذ محمود شاكر فى مقدمته التى كتبها لهذا التفسير الذى حققهوعلق عليه هو وأخوه العلامة المحدث المرحوم الشيخ أحمد شاكر (والنسخ المخطوطةالكاملة من تفسير الطبرى لا تكاد توجد، والذى منها فى دار الكتب (المصرية) اجزاءمفردة من الجزء الأول، والجزء السادس عشر، ومنها مخطوطة واحدة كانت فى خمسة وعشرينمجلدا، ضاع منها الجزء الثانى والثالث .. وهى على ما فيها تكاد تكون أصح النسخ وهىمحفوظة بالدار تحت رقم 100 تفسير
ويقول جولد تسهير: كما طبعت منه بعد ذلك طبعة منقحة سنة 1911، ويقول الدكتورالحوفى الذى كتب عن الطبرى فى سلسلة أعلام العرب ((طبع سنة 1921 م بالمطبعةاليمنية بالقاهرة، وبمطبعة بولاق سنة 1923 م، ويطبع بدار المعارف الآن بمصر تحقيقالأستاذ محمود شاكر)
وكم فى بطون المكتبات الخاصة والعامة من ذخائر لنا ثمينة، مثل هذا التفسير لمايقيض لها من يكتشفها أو يطبعها بعد ..
ولا بد لى من كلمة تقدير أقدمها للجهد العظيم الذى بذله الأخوان «شاكر» فى تحقيقهذا التفسير والتعليق عليه .. فى طبعة ممتازة تقوم بها دار المعارف بمصر وأصدرتمنها 16 مجلدا انتهت إلى قوله تعالى «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا) منسورة إبراهيم الجزء الثالث عشر من القرآن. وتوقف حتى الآن (1982 م) كما أخبرنىالاستاذ محمود
لقد قام المحققان مشكورين بتخريج الروايات التى وردت فيه، وهذا أمر مهم جدا للقارئ.. وبتحقيق الألفاظ، ونسبة الأشعار، والأقوال إلى أصحابها، والمراجعة على النسخالخطية والمطبوعة، وأهم من ذلك فتح مغاليق الجمل، بما عنا به من ترقيم وفواصل،وذلك لكثرة ما جاء فى كلام الطبرى من

جمل اعتراضيةاستطرادية، وفواصل طويلة، تعرقل القارئ عن متابعة القراءة، أو تحول بينه وبينالفهم الصحيح ..
والواقع أن للطبرى أسلوبا خاصا يحتاج إلى مزيد من الصبر والأناة، والتتبع الدقيقلمعانيه، حتى إذا ألفه الانسان، سهل عليه بعد ذلك أمره .. مثله مثل بعض كتابناالمعاصرين الذين لهم أسلوبهم الخاص الذى يحتاج إلى قليل من الصبر على قراءته حتىيتعوده القارئ .. ولعل خير ما يعبر عن ذلك هو الاستاذ محمود شاكر العالم الدقيقحين يقول فى مقدمته:
كان يستوقفنى فى القراءة كثرة الفصول فى عبارته، وتباعد أطراف الجمل، فلا يسلم لىالمعنى، حتى أعيد قراءة الفقرة منه، مرتين أو ثلاثا .. وكان سبب ذلك أننا ألفنامنهجا من العبارة، غير الذى انتجه أبو جعفر، ولكن تبين لى أن قليلا من الترقيم فىالكتاب، خليق أن يجعل عبارته أبين، فلما فعلت ذلك فى أنحاء متفرقة من نسختى، وعدتبعد إلى قراءتها، وجدتها قد ذهب عنها ما كنت أجد من المشقة.
على أن الذى كان يجده الاستاذ شاكر .. وجده من قبله المفسرون الذين نقلوا عنالطبرى فى غير زماننا، مثل السيوطى وابن كثير وأبو حيان والقرطبى.
ولذلك وقعوا فى بعض أخطاء فى فهم المراد. كما يقول الاستاذ شاكر نفسه:
«ولما راجعت كتب التفسير وجدت بعضهم ينقل عنه فينسب إليه ما لا أجده فى كتابه،فتبين لى أن سبب ذلك .. هو .. هذه الجمل التى شقت على قراءتها، يقرؤها القارئ،فربما أخطأ فهم أبى جعفر .. وربما أصاب»
وإذن ففي أسلوب أبى جعفر فى تفسيره شىء من الصعوبة، ليست قاصرة على الذين تعودوامنا الأسلوب المعاصر، بل أيضا على القدماء من العلماء المفسرين أنفسهم، مما كانسببا فى أنهم أخطئوا فهم المراد من أبى جعفر.
وقد وقع لى كثيرا ما وقع للأستاذ محمود شاكر حين قراءة هذا التفسير، فكنت أعانىالكثير فى فهمه، وتتبع أفكاره، ووصل كلامه بعضه

ببعض. وكنتأضيق ذرعا بكثرة استطراداته وانتقاله حين الكلام على فكرة أو موضوع، إلى كلام آخربين كلامه، وإن كان له صلة به إلا أنه يمزق المعنى، ويشتت الفكر بين الفكرةالأصلية، وبين ما استطرد إليه وأضافه، حتى وجدت الجزء الأول من هذا التفسيرالمحقق، فسهل على كثيرا مما كنت أجده من صعوبة، كما وفر أيضا من الوقت.
ولأجل أن اشركك معى فى هذا .. أضع أمامك هذا النموذج من كلام الطبرى فى تفسير قولهتعالى «اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ» ومثله «يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ»و «نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ» بعد أن استعرض بعض الأقوال قال (1):
«والصواب فى ذلك من القول والتأويل عندنا: أن معنى الاستهزاء فى كلام العرب إظهارالمستهزئ للمستهزئ به من القول والفعل ما يرضيه ظاهرا، وهو بذلك من قوله وفعله بهمورثه مساءة باطنا. وكذلك معنى الخداع والمكر.
فاذا كان ذلك كذلك (2) - وكان الله جل ثناؤه قد جعل لأهل النفاق فى الدنياالاحكام. بما أظهروا بألسنتهم، من الاقرار بالله وبرسوله، وبما جاء به من عند اللهالمدخلهم فى عداد من يشمله اسم الاسلام، وان كانوا لغير ذلك مستبطنين- احكامالمسلمين المصدقين اقرارهم بألسنة أنهم مصدقون، حتى ظنوا فى الآخرة أنهم إذا حشروافى عداد من كانوا فى عدادهم فى الدنيا أنهم واردون موردهم وداخلون مدخلهم. «واللهجل جلاله- مع اظهاره ما قد أظهر لهم من الأحكام الملحقة بهم فى عاجل الدنيا. وآجلالآخرة إلى حال تمييزه بينهم وبين أوليائه، وتفريقه بينهم- معدّ لهم من أليم عقابهونكال عذابه ما أعد منه لأعدى أعدائه، وشر عباده، حتى ميز بينهم وبين أوليائه،فألحقهم من طبقات صحيحة بالدرك الأسفل- كان معلوما أنه جل ثناؤه بذلك من فعله بهم-وإن كان جزاء على أفعالهم، وعدلا ما فعل من ذلك بهم،
__________
(1) ص 303، 304 ح تحقيق شاكر
(2) من هنا جملة اعتراضية استطرادية تطول نحو عشرة أسطر إلى قوله كان معلوما ..

لاستحقاقهماياه بعصيانهم له- كان بهم- بما أظهر لهم من الأمور التى أظهرها لهم أمن الحاقهاحكامهم فى الدنيا باحكام أوليائه وهم أعداء، وحشره إياهم فى الآخرة مع المؤمنين،وهم به من المكذبين- إلى أن ميز بينهم دينهم- مستهزئا وبهم ساخرا .. الخ»
فانت ترى فى هذا النموذج كثرة الاستطرادات وبعد أجزاء الجملة بعضها عن بعض بسطوربلغت نحو عشرة- فى احداها .. وقد وضحت لنا الفواصل التى وضعها الاستاذ محمود شاكرإمكان الربط بين الجملة الواحدة ولذلك علق فى الهامش بقوله «أكثر الطبرى الفصل بينالكلام فى هذه الفقرة وسياق العبارة هو كما يلى «فإذا كان ذلك كذلك كان معلوما أنهجل ثناؤه بذلك من فعلهم بهم.
. كان بهم مستهزئا وبهم ساخرا» وما بين الكلام فى هذين الموضوعين فصل للبيان.
وترك الفصلة الطويلة جدا وهى من أول قوله «فاذا كان ذلك كذلك ..
كان معلوما. وبين جزءي الجملة ما يزيد عن عشرة أسطر جاء بها لزيادة التوضيح- ولكنمن الصعب جدا على القارئ العميق أن يصل إلى فهم هذه الفقرة .. ولا سيما فى الطبعاتالتى لا توجد فيها هذه الفواصل ..
لكن لا تظن أن هذه الظاهرة تعم الكتاب كله بل هى قليلة، وبجوار هذا القليل تجدالأسلوب المشرق الذى يمكن ادراكه بسهولة حين يدلى برأيه بعد نقله للروايات الكثيرةفى موضوع الآية ..

موقف الطبرى وموقفنا من الروايات:

ولقد كان الطبرى يورد هذه الروايات، وهو عالم بما فيها من تناقض أو كذب أو ضعف، ثمينقدها أحيانا، ويأتى أيضا بالكثير منها ويتركها بلا نقد.
وبعض النقاد يذهبون إلى تبرئة ساحة أبى جعفر من النقد، لسياقه هذه الروايات دوننقدها، قائلين إنه ذكر لك السند، وعليك أنت أن تبحث عن صحته أو كذبه أو ضعفه ..الخ، راوين العبارة المشهورة بين علماء الحديث

(من أسند لكفقد حملك) يعنون أن من ذكر لك سند الرواية فقد برئت ذمته، وحملك أنت مسئولية البحثعن صحته ..
ومع أن هذا الكلام صحيح فى حد ذاته، وربما كان محتملا للخاصة أو خاصتهم فى زمنهإلا أنه يحمّل القراء عامة أمانة فوق طاقتهم، فليس كل قارئ عارفا بالرجال، أو
بأساليب النقد، حتى يستطيع التمييز بين المقبول وغير المقبول، وليس كل قارئ عندهالرغبة أو الأمانة التى تحمله على التوقف حتى يتبين.
على أن هذا إن كان ممكنا فى زمن كثرت فيه الكتب المطبوعة المتداولة التى عنيتبالرواة ونقدهم وبيان غثهم من سمينهم، فإنه لم يكن متيسرا من قبل شيوع هذه الكتب.
ومن أجل هذا كان تدوين هذه الروايات التى كانت متداولة على ألسنة الناس فى أيامه-ومعروف بين العلماء أنها كانت بضاعة القصاص للتكسب والرواج عند العامة- أقول كانرفعها إلى مقام التدوين، ووضعها بجانب كلام الله على أنها تفسير له، مما ساعدكثيرا على إشاعة الخرافات والأضاليل فى نفوس المسلمين ملصقة بتفسير كلام الله.
بل إنى أقول أكثر من هذا فيما يتصل بالروايات التى نقدها، وهى أمنية تمنيت أن لوكانت قد تحققت فى ذلك الزمن المبكر من وضع التفسير، كنت أتمنى أن لو اقتصر الطبرىوأمثاله على الروايات الصحيحة فى تفاسيرهم، وجردوها من الروايات الباطلة التى كرواعليها بالنقد .. لأنها كانت ستموت فى زمنها، أما بعد أن دونت ووضعت بجانب التفسير.فقد فتحوا الباب للقصاص وأصحاب الهوى أن يطلعوا عليها، ويستندوا إليها، فى حكاياتهمللعوام لجذب انتباههم، وكسب إعجابهم .. وابتزاز أموالهم .. كما نرى الكثير فىأيامنا ممن يدورون فى الأرياف، وبين العوام، أو متخلفى الثقافة، يتحدثون فىالتفسير أو الدين ويستولون على ألبابهم بهذه الروايات الخيالية الخرافية، دون خوفمن الله، ولا حرج من أصحاب العقول والفهم. ولا مراعاة لما يجب أن يكون عليه

تكوين الأمةالعقلى والفكرى حتى انجرف فى هذا التيار بعض العلماء من الوعاظ والخطباء ...
ولقد روى لنا كيف أن الخرافيين ممن كانوا يعتمدون على هذه الروايات الكاذبة، كانوايستولون على قلوب العامة، ويهيجونهم ضد العلماء الذين ينكرون هذه الروايات، حتىيوجعوهم ضربا وإهانة، ومع ذلك عنى الطبرى بتدوينها!!
إننا نجنى من هذا وذاك الآن الكثير من المر، والكثير من التهجم على الاسلام وكتابه.. ولقد كونت هذه الروايات جانبا خرافيا فى عقول المسلمين، تحتاج إلى كثير منالجهد والوقت فى القضاء عليه، وبعض المتمردين على الدين- من المسلمين أنفسهم- معالأسف ممن تأثروا بمؤثرات غربية، يتخذون من هذا تكأة لرفض الدين كلية، ومع أنهممبطلون، إلا أنهم أصحاب هوى، يستغلون نقطة الضعف عند عدوهم لينقضوا عليه، ونحتاجنحن إلى دفاع وجهد كبيرين، لتطهير عقول الناس من هذه الخرافات، والرواياتالإسرائيلية المضللة.
ولقد كان من الأولى لهؤلاء السلف الطيبين أن يكونوا بعيدى النظر، فيريحوا أنفسهموالأجيال التى بعدهم من هذه الخرافات والأضاليل، ويذكروا لنا ما صح سنده وما رأوهبعقولهم الناضجة؟ ويتركوا غير ذلك يموت مع الزمن.
نعم كان من الأولى .. ولكن ماذا نفعل الآن وهذا هو الذى كان .. ولعل لهم عذرا وأنتتلوم ..

واجبنا الآن هو التجريد:

إن هذا يحملنا الآن مسئولية ضخمة وإن لم تكن مستحيلة أو صعبة ..
ولكنها تحتاج إلى همة وغيرة وجهد يتكاتف فيه العلماء مع الحكومات التى تعنى بهذهالناحية ...
هذه المسئولية هى تجريد هذا التفسير وأمثاله من كل رواية غير صحيحة ..
سواء أكانت إسرائيلية أم موضوعة .. وإخراج الكتاب بعد ذلك للناس

بريئا من هذهالعيوب .. ثم جمع كل النسخ الأصلية من الأسواق ووضع ما أمكن منها فى المكتباتالعامة ليطلع عليها الخواص من الباحثين كما يحظر النقل منها لما لم ينقل فىالتجريد ..
بذلك نقضى على هذه الخرافات والاسرائيليات من العقول، ولا بد بجوار ذلك من جهد آخر.. هو عدم السماح بطبع أى كتاب آخر فيه شىء من هذه الأضاليل .. فقد تسربت من كتبالتفسير وكتب التاريخ كذلك إلى كتب أخرى بعناوين أخرى وتحتاج إلى المتابعةالمستمرة ..
وإذا كانت هناك رقابة على المطابع فى الأمور السياسية، فمن الواجب أيضا أن تفرضهذه الرقابة فى مثل هذه الأمور، التى تتدخل تدخلا قويا فى تكوين عقلية المسلمينوإلى أجيال .. وتفسد تصوراتهم عن القرآن وعن الحياة ..
وهذا شىء ليس بالقليل، بل هو من الخطورة بمكان، وسبق أن أشرنا اليه ..
ولا أظن أن فينا من يعارض مثل هذا المشروع بحجة صيانة التراث أو حجج أخرى. فالتراثسيظل لمن يريد الاطلاع عليه. على أننا سوف نقدم التراث الفعلى حقيقة، ولا نحرمالمطلعين من شىء له فائدة، بل نحول بينهم وبين سموم هذه الخرافات ونقيهم شر أضاليلها .. ونشجع المطلعين على الاطلاع. ونقدم الكتاب فى حجم أقل كثيرا من حجمهالحالى .. وبثمن أقل من ثمنه مما يغرى بالشراء والاطلاع .. رأى أضيفه إلى ما سبقمن قبل ..

دفاع أو اعتذار:

ولقد أحسن الأستاذ محمود شاكر الدفاع عن الطبرى أو الاعتذار عنه، لما رواه منالأحاديث والروايات الغريبة والمنكرة التى لم يكن من المستحسن روايتها .. فذكر فىهامش صفحتى 453، 454 من الجزء الأول، دفاعا لا أعتقد إلا أنه مجرد التماس عذر له،فهو يقول:
«تبين لى مما راجعته من كلام الطبرى أن استدلال الطبرى بهذه الآثار التى يرويهابأسانيدها لا يراد به إلا تحقيق معنى لفظ أو بيان سياق عبارة، إلى أن يقول: «وهذامذهب لا بأس به فى الاستدلال».

ويقول:«فاستدلال الطبرى بما ينكره المنكرون، لم يكن إلا استظهارا للمعانى التى تدل عليهاألفاظ هذا الكتاب الكريم، كما يستظهر بالشعر على معانيها، فهو إذن استدلال يكاديكون لغويا .. الخ».
وهذا الذى يقوله العلامة محمود شاكر لا بأس به فى الدفاع، لكنه مع ذلك ليس قاطعا..
فما كان أغنانا عن هذه الروايات، وعندنا ما يكفى فى الدلالة على معناها من كلامالعرب من شعر ونثر، على أن الاسرائيليات- وما شابهها- لا تقطع بمعنى لفظ فى القرآنالكريم .. وفيها ما فيها من الخطر على فهمه، ثم إننا نجد الروايات الإسرائيلية علىما فيها من تناقض تتدخل لفهم شىء مغيب عنا، لم يعن القرآن ببيانه فجاءت هذهالروايات تفسر المراد منه، وهو ليس من باب الاستدلال على معنى الكلمة عند العرب،كما يستدل بالشعر .. واكتفى هنا بمثال.

ما المراد بالشجرة:

ففي ص 518 من الجزء الأول يروى الطبرى عن ابن عباس قولا فى المراد بالشجرة فى قولهتعالى (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ)، بأنها: البر، او السنبلة.
ويعدد الروايات عن ذلك القول، ويروى فى احداها صراحة أن أهل التوراة يقولون: هىالبر، ثم روى روايات أخرى عن المراد بالشجرة، ومنها رواية ثانية عن ابن عباس نفسهبأنها: الكرمة (ص 519 فقرة 730 وما بعدها)، ثم يروى رواية ثالثة وأخيرة بأنها:التينة ص 520 فقرة 740.
وقد أتى بهذه الروايات التى شغلت حيزا كبيرا بعد ما ذكر قبلها: «الشجرة فى كلامالعرب: كل ما قام على ساق ومنه قوله جل ثناؤه «وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُيَسْجُدانِ» يعنى بالنجم ما نجم من الأرض من نبت، وبالشجر ما استقل على ساق» فذكربذلك المراد بالشجرة فى كلام العرب. ثم بدأ فى بيان المراد منها عند أهل التأويل،وذكر هذه الروايات الغريبة التى تعتبر كلها خبطا بدون دليل ولا بينة.

فما الفائدة-اذن- من كل هذا السرد، وهو لا يكشف عن معنى الكلمة عند العرب؟!
إنه حقيقة- أعنى هذا السرد- يكشف لنا عن نموذج من تفكير الناس فى فهم القرآن فىذلك الزمن .. لكننا كنا نود أن لو طوى عنا هذا النموذج، الذى لا أساس له من كلامالعرب، ولا من بينة يوثق بها، ما دام يحمل معه هذه الخرافات.
ونلاحظ أن الطبرى روى فى هذه الروايات روايتين عن ابن عباس. رواية تقول المرادبالشجرة: البر، ورواية أخر تقول: إنها الكرمة!! فهل كان لابن عباس رأى، أو رأيان،أو لم يكن له رأى البتة؟. ولكن الرواة قالوا عن لسانه! ومن أين لابن عباس بهذاالرأى أو ذاك؟ ذلك ما كنا نحب أن يضعه أبو جعفر فى حسابه ويريحنا ويريح نفسه ..ومع هذا التعب كله فى سرد الروايات لمعرفة المراد بالشجرة، نجد الطبرى فى النهايةيضرب صفحا عن هذه الروايات كلها، ولا يثق بشيء منها، وكأنها معرض تحف قديمة بالية،ويشق الطريق إلى الرأى الذى يرتضيه- معه- أهل العلم والعقل المتزنون، وهو نموذجلخطته فى التفسير حين يكشف عن رأيه.
والحق أنها خطة ممتازة تكشف عن عقليته الفذة، العقلية العلمية المؤمنة التى لاترضى بالكلام الجزاف، والتى تحافظ على العقول أن يملأها الحشو والخرافة وما لاجدوى منه .. وحبذا لو التزم هذه الطريقة فيما سرده من روايات. اقرأ معى رأيه فىالمراد من الشجرة بعد سرد الروايات:
قال أبو جعفر (يعنى نفسه وهذه طريقته): والقول فى ذلك عندنا أن الله جل ثناؤه أخبرعباده أن آدم وزوجته أكلا من الشجرة التى نهاهما ربهما عن الأكل منها فأتياالخطيئة التى نهاهما عن إتيانها بأكلهما ما أكلا منها بعد أن بين الله جل ثناؤهلهما عين الشجرة التى نهاهما عن الأكل منها، وأشار إليها بقوله: «ولا تقربا هذهالشجرة» ولم يضع الله جل ثناؤه لعباده المخاطبين بالقرآن دلالة على أى أشجار الجنةكان نهيه آدم أن يقربها، فلم ينص عليها باسمها، ولا بدلالة

عليها. ولوكان لله فى العلم بأى ذلك، من أى رضا، لم يخل عباده من نصب دلالة لهم عليها، يصلونبها إلى معرفة عينها، ليطيعوه بعلمهم بها، كما فعل ذلك فى كل ما العلم به له رضا.
فالصواب فى ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها منأشجار الجنة دون سائر أشجارها، فخالفا إلى ما نهاهما الله عنه، فأكلا منها، كماوصفهما الله جل ثناؤه به، ولا علم عندنا بأى شجرة كانت على اليقين، لأن الله لميضع لعباده دليلا على ذلك فى القرآن، ولا فى السنة الصحيحة، فأنى يأتى ذلك؟ وقدقيل: كانت شجرة البر، وقيل: كانت شجرة العنب، وقيل، كانت شجرة التين، وجائز أنتكون واحدة منها.
وذلك علم، إذا علم، لم ينفع العالم به علمه، وإذا جهله جاهل لم يضره جهله به (1)هـ ..
هذا هو الذى يستريح إليه العقل والقلب. وهو يكفينا جدا فى فهم كلام الله، ولواقتصر أبو جعفر عليه لكان خيرا له وللمسلمين .. وهذا النموذج من التفسير هو الذىأدعو الى الاقتصار عليه فيما دعوت إليه من تجريد تفسير الطبرى مع ضميمة ما يوجد منحديث صحيح.

خطته فى المبهمات:

والخطة التى سار عليها الطبرى فى تفسيره من عدم الجرى وراء معرفة أشياء مبهمة لميبينها القرآن ولا السنة، ولا ضرر من عدم معرفتها، هذه الخطة هى المثلى فى
تفسير القرآن، وقد سار عليها، وهاجم الذين يتعبون أنفسهم فى الجرى وراء معرفة نوعالشجرة، كما قرأت سابقا، كما هاجم الذين يحاولون معرفة الذى كان على مائدة عيسى:أسمك أم غيره؟ فى أواخر سورة المائدة، ومعرفة عدد الدراهم التى بيع بها يوسف: أهيعشرة أم عشرون أم أكثر؟ .. وأمثال ذلك فى القرآن، ملتزما قاعدة: [العلم بها غيرنافع، والجهل بها غير ضار].
ولو كان العلم بها نافعا لبينه الله .. وبذلك سد الباب على الفضوليين الذين
__________
(1) ص 520، 521 ج 1 تحقيق الأخوين: شاكر ..

يخبطون فى مثلهذه الأمور خبط عشواء، ويضيعون أوقاتهم فيما لا يفيد. وهذا من أجود التفاسيروأنقاها ..
ومع ذلك تجده يذكر الروايات المتعددة حول هذه الأشياء التى ينكر الجرى وراءها!!
وإننى أعتقد أن هذه الروايات كانت رائجة فى أيامه، فذكرها ليكر عليها بخطته، ويبينأنه لا فائدة من الاشتغال بها .. لكنها بذلك اكتسبت البقاء عبر القرون، تطغى علىالتفكير، وتحتل مكانا لها فيه. بل تأخذ صفة الصدارة وتطرد الفكر السليم. فما تسألإنسانا الآن عن نوع هذه الشجرة، إلا قال لك قولا مما نقله الطبرى واستهجنه، وقليلمن العلماء من يقف عند خطة الطبرى ويقتدى به فيها، لأن الفضول كثيرا ما يؤديبأصحاب العقول ..
وجاء الخطر الأكبر من أن بعض من جاء بعد الطبرى من المفسرين، ربما اقتصر على ذكرنوع الشجرة، كأن ذلك أمر ثابت، يقرؤه الطالب المبتدئ فى الأزهر أو غيره، ويقرؤهأنصاف العوام، فيأخذونه قضية مسلمة. ترتسم فى عقولهم من الصغر، لتستمر غالبة علىتفكيرهم فى الكبر!! واسأل من شئت من العلماء الآن عن نوع الشجرة، تجد منه الجوابسريعا بتحديدها .. فإذا قلت له: من أين لك هذا؟ قال: كتب التفسير التى درسناها،دون التأكد من صحة ما ذكرته هذه الكتب عن طريق حديث صحيح .. وهكذا جاء الخطر علىالعقول.

شىء لا بدّ من التنبيه عليه:
لقد لاحظت فى تفسير الطبرى وفيما اشتهر عنه بين العلماء أشياء لا بد من الوقوفعندها لتمحيصها .. وقد يدعو تتبعها إلى الإطالة فلذلك اكتفى بواحدة منها ..
فالعلماء والدارسون يضعون هذا التفسير على قمة التفسير بالمأثور، وكثير منهم يردسبب هذه التسمية إلى عناية الطبرى بالروايات الكثيرة التى تشغل الحيز الأكبر منه.

ولكن بقليل منالتتبع لآراء الطبرى وتفسيره الخاص به، نجد أنه لم يلتزم بهذه الروايات عند ما أخذيبدى رأيه فى تفسير الآية، يذكر أولا معنى الكلمات عند العرب، ثم اعرابها مع ذكرالشواهد على ذلك من شعر أو نثر، ثم يذكر الروايات الواردة فى تفسير الآية، صحيحةوغير صحيحة، ثم يكر على هذه الروايات أحيانا بالنقد أو النقض، ثم يأخذ فى بيانرأيه فى تفسير الآية، غير ملتزم بما ذكره، إلا إذا كان صحيحا ثابتا، ويبدى رأيهفيما يؤخذ منها من أحكام، غير متقيد غالبا برأى امام فقيه معين، مع أنه كانشافعيا، حتى قيل عنه إنه كان صاحب مذهب فقهى خاص به، اندرس لعدم شيوع تلاميذ لهينتصرون لآرائه، ويجادل مع ذلك المتكلمين من أصحاب المذاهب الكلامية، ملتزما خطةالسلف مدافعا عنها.
ومعنى ذلك كله .. أن الرجل كان له رأى واتجاه بارزان، وتفسيره الخاص به الذى يبدؤهبقوله: «قال أبو جعفر .. أو يقول: والرأى عندنا، أو التأويل عندنا أو مثل ذلك.ويبين هذا الاتجاه الاستقلالى بوضوح ..
فهو لم يكن- اذن- أسير الروايات الكثيرة التى ذكرها، ولا أسير أقوال العلماء الذينسبقوه، لأنه أحيانا يرد عليهم وينقض قولهم .. فهو مفكر مستقل، له رأيه فى معنىالآية، وفيما يستنبط منها من أحكام، وآراؤه فى غاية الاتزان العقلى، ولا سيما عندما يتناول بعض الأشياء التى كثر الجدل فيها، كالأشياء التى ذكرناها وكالمتشابهاتمثل اليد والعين الخ ..
والطبرى بهذا يوضع فى مقدمة أهل الرأى فى التفسير، إذا فهمنا الرأى على أنه الذىينتهى إليه الانسان بعد دراسة عميقة متجردة من الأهواء، التى تعصف بعقول العلماء،وتحملهم على لي عنق الكلمات القرآنية لتوافق أهواءهم أو مذاهبهم ..
فالذين يفهمون إذن أن تفسير الطبرى من التفسير بالمأثور، بسبب كثرة الرواياتالواردة فيه، غير دقيقين فى الفهم، لأنه لم يتقيد بهذه الروايات ولم يكن أسيرا لها...

أما إذا فهمنا(الرأى) على أنه اخضاع الآيات للمذاهب الخاصة، والشطط فى تأويلها، وعدم التقيدبالحديث أو تأويله كذلك، فإن الطبرى ليس من هذا النوع، ولا يعد تفسيره على هذا منالتفسير بالرأى، لأن الرجل التزم خطة التحفظ فى التأويل، والحفاظ على منهج السلف،والدفاع عنه، فيما يتصل بالله وصفاته، والمتشابهات عموما فى القرآن ... وكل ماتتوقف معرفته على أخبار موثوق بها عن الله سبحانه، أو عن الرسول صلى الله عليهوسلم.
ولو قلنا بناء على هذا إن تفسيره تفسير بالمأثور لكنا محقين .. لأنه لم يتأثربالمذاهب الكلامية التى سادت المجتمع الاسلامى فى عصره، ولكنه التزم الخطة السلفيةالمأثورة عن الصحابة ..

الرأى المذموم:

ولو تأملنا قليلا فيما ورد من كراهة الصحابة للرأى فى التفسير، وما ورد فى ذلك منذم، لفهمنا أن الرأى المذموم فى التفسير هو الذى يخضع للأهواء ولعصبية المذاهب،ولم يقم على دراسة محايدة متأنية. أما الرأى الذى يبديه الإنسان فى التفسير مستنداإلى معانى كلام العرب، وإلى ما ورد من حديث صحيح، غير متأثر بمذهب مستحدث أو عصبيةطارئة، حتى يصل إلى المفهوم الذى يستريح إليه عقله وقلبه، فذلك لا يمكن أن يذمبحال من الأحوال- كما قلنا من قبل-، وإلا ما كان هناك معنى لدعوة القرآن المسلمينلتدبر آياته والاتعاظ به، وأخذ أحكامهم منه ..
وقد تحدث عن ذلك الامام الطبرى فى مقدمة تفسيره، كما تحدث فى هذه المقدمة، عن أمورلا بد من الاحاطة بها لكل من يفسر القرآن مثل اتفاق معانى القرآن، وما اتفقت فيهألفاظ العرب والعجم، واللغة التى نزل بها القرآن، ونزوله على سبعة أحرف، وما قيلفى النهى عن تأويل القرآن بالرأى، وفى الحض على العلم بتفسير القرآن، وآراؤه فىالمفسرين الخ ..
بقيت كلمة لا بد من بيانها فى ختام هذا، وهى كلمة (تأويل) التى جعلها الطبرى فىعنوان كتابه: ((جامع البيان عن تأويل آى القرآن)) والتزمها عند ما يأخذ فى ابداءرأيه فى الآية ..

هل تأخذ هنامعنى غير معنى كلمة تفسير التى استعملها غيره من المفسرين.
والجواب. لا .. فإن المراد بها هو المراد بكلمة تفسير.
ويكفى هذا دون الدخول فى تفاصيل ما قيل عن معنى كلمة تأويل الواردة فى القرآن منمعان أخرى لم يقصدها الطبرى فى استعماله لها ..

الإمام فخر الدين الرازى وتفسيره
هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين البكرى الطبرستانى الرازى.
وشهرته فخر الدين أو ابن الخطيب الشافعى.
ولد سنة 544 هـ وتوفى سنة 606 هـ. وكان ميلاده فى مدينة «الرى» ونسب إليها على غيرقياس النسب فقيل الرازى ..
وقد نسب إلى هذه المدينة بهذه النسبة كثير من علمائها، مثل أبى بكر بن زكرياالرازى الطبيب العربى المعروف، ومثل أبى بكر الرازى الفقيه الحنفى المعروفبالجصاص، وأبو الحسين بن فارس بن زكريا الرازى صاحب كتاب المجمل فى اللغة، ومحمدبن أبى بكر الرازى مؤلف «مختار الصحاح»، وقطب الدين الرازى وهو مؤلف شرح الشمسيةوسماها «الرسالة القطبية» المعروفة فى الأزهر .. وتوفى سنة 766 هـ
ولكن أشهر هؤلاء جميعا لدى عامة المسلمين وخاصتهم هو الامام فخر الدين الرازى صاحبالتفسير .. وما ذلك إلا لأن مؤلّفه وتفسيره مرتبط بكلام الله وخدمته، وبيان معانيهللمسلمين، وهكذا كل كتاب وكل مؤلف يرتبط بكتاب الله ويخدمه ..

العصر الذى عاش فيه وألف كتابه
كان عصرا مليئا بالفتن الداخلية. والهجوم الخارجى على المسلمين، وكان مثار هذهالفتن إما طمعا فى الملك، وإما طمعا فى وجاهة وسيادة مذهب، كما حصل بين الفرقالاسلامية .. المعتزلة، وأهل السنة، والشيعة، والرافضة من جهة، وفيما بين هذهالفرق نفسها من مذاهب «حتى عدا ابن السبكى تسعا وعشرين فرقة نازلها الرازى وانتصرعليها (1)»
__________
(1) الامام فخر الدين الرازى- للدكتور على محمد حسن العمارى ص 29.

وهذا يصور لكمدى ما كان يموج به عصر الرازى من خلافات وفتن ..
ثم تميز هذا العصر من ناحية أخرى بالإقبال على الدراسات العلمية من المنطق والعلمالطبيعى والفلسفة، وعلم ماوراء الطبيعة، والهندسة والفلك والموسيقى، بجانب الإقبالعلى الدراسات الدينية والعربية ..
كما تميز باعتزاز المعتزلة بمعرفة الفلسفة والمنطق، وتعاليهم بها على غيرهم ..
وادعائهم بأن العالم المتمكن لا يكون كذلك، إلا إذا جمع بين علوم الدين وهذهالعلوم. وقد ظل المعتزلة مسيطرين بأفكارهم وإنتاجهم زمنا، حتى شعر أهل السنة بمايشبه عقدة النقص، فأقبلوا على هذه العلوم التى احتكرها المعتزلة وأضرابهم زمنا،فاغترفوا منها، لينازلوا المعتزلة ويكونوا أندادا لهم ..
وكان ممن اتجه هذا الاتجاه الإمام فخر الدين الرازى منذ شبابه. فتعلم على والده،وكان من كبار علماء عصره وهو «ضياء الدين أبو القاسم الرازى» وكان فقيها أصوليامتكلما صوفيا خطيبا محدثا أديبا.
وأضاف إمامنا فخر الدين إلى ما أخذه عن والده علوم عصره، من الفلسفة والمنطق وعلمالفلك والطبيعة على علمائها، واستعان بذلك كله على خدمة دينه.
وتجلية معانى القرآن وأسراره بالطريقة التى رآها مناسبة لعصره .. حتى يبز المعتزلةوغيرهم فيما يدعونه- من أنهم خدمة الدين والقرآن .. والكاشفون عن معانيه وأسراره-ويلجمهم ..
؟؟؟ وضع ثقافته الاسلامية الواسعة المتنوعة فى خدمة القرآن، هادفا؟؟؟ إلى أن يبرزما فيه من الحكمة والمعرفة حسبما تفيده دراسة الفلسفة والكلام والعلوم الأخرى،ولذلك كان يوغل فى بيان معانى القرآن وما تدل عليه العبارات، ولو سار شوطا بعيدافى العلوم التى يبرز بها هذه الناحية ..
وإنك لتجد صورة من هذا حين فسر قوله تعالى «رَبِّ الْعالَمِينَ»، واندفاعه ليبينالعوالم المتعددة التى خلقها الله .. فى السموات وفى الأرض .. مما يخيل للقارئ أنهابتعد كثيرا عن القرآن، وهو لم يبتعد، وإنما يفسر «العالمين» بما وقف عليه من علم،يجلى به حكمة الله فى مخلوقاته ..

فذلك أولىعنده وأجدى من حصر التفسير فى مباحث لفظية وبلاغية ..
تبرز اعجاز القرآن البلاغى، بينما يوجد فى القرآن آيات كثيرة تتحدث عن الكون،وتبرز الإعجاز العلمى للقرآن، ولا بد من بيانها والكشف عنها، بواسطة ما نعرفه منعلوم .. ولذلك استغل الرازى ما عرفه من علوم ليجلى بها أسرار القرآن، ومعجزاتهالعلمية فى الكون. بالاضافة إلى معجزته البلاغية مما أشار القرآن إليه أو تكلمبصراحة عن آيات الله فى كونه، ولا يجلى هذه الآيات، ويبرزها، ويصل إلى أغوارها إلاالعلم. فإذا قال الله «رب العالمين» فما هى هذه العوالم التى خلقها الله وهو ربها؟لا تستطيع البلاغة أن تبرز لنا هذا وتبينه، بل العلم هو الذى يقدم لنا هذه العوالمأجلى بيان على قدر اتساعه ..
وهو كل يوم يزداد اتساعا».
وسار الإمام فى دروسه على هذا المذهب أو هذه الطريقة التى اختطها، برغم ما لقي مناستغراب ومعارضة من الذى ألفوا القديم من التفسير .. أو كما يقول: الذين ألفوا منأنفسهم التعلقات الفارغة عن المعانى، والكلمات الخالية عن تحقيق المعاقدوالمبانى».
وكان مصمما ومقتنعا بهذه الطريقة لخدمة القرآن، فبدأ يفسر على أساسها سورة«الفاتحة» واتسع فى تفسيرها والاستنباط منها بما آتاه الله من علوم، تبرز قدرةالله وحكمته فى خلقه، أو فى كونه العلوى والأرضى. فعند ما يتعرض مثلا لتفسير «ربالعالمين» يبين أن الوجود ليس محصورا فى عالمنا الذى ضبطت أحواله، لأن الخلاء الذىلا نهاية له خارج هذا العالم .. يمكن أن يشتمل على الآلاف من العوالم الأخرى .. بلإن الانسان لو اقتصر علمه على أن يحيط من هذا العالم فقط بعجائب المعادن، ويعرفعجائب أحوال النبات، وعجائب أقسام الحيوان، لنفد عمره فى أقل القليل من هذهالمطالب، فلا ينتهى إلى غورها، مع أن ذلك كله يندرج تحت قوله تعالى «رَبِّالْعالَمِينَ» (1)
__________
(1) باختصار من كتاب التفسير ورجاله للشيخ محمد الفاضل بن عاشور ص 73، 74.

وفى مقدمةتفسيره يقول: «اعلم أنه مر على لسانى فى بعض الأوقات أن هذه السورة الكريمة(الفاتحة) يمكن أن يستنبط من فوائدها ونفائسها عشرة آلاف مسألة فاستبعد هذا بعضالحساد، وقوم من أهل الجهل والغى والعناد، وحملوا ذلك على ما ألفوه من أنفسهم منالتعلقات الفارغة عن المعانى والكلمات الخالية عن تحقيق المعاقد والمبانى، فلماشرعت فى تصنيف هذا الكتاب، قدمت هذه المقدمة، لتصير كالتنبيه على أن ما ذكرناه أمرممكن الحصول قريب المنال» (1).

رأى علماء عصره وغيرهم فيه ورأيه فيهم:

ونظرا لأن هذا النسق فى التفسير لم يكن مألوفا فيما كتب من تفاسير، وكان تفسيرالرازى هذا أول تفسير دعمه صاحبه بالعلوم التى أتقنها من فلسفة وطب وفلك. الخ ..انتقده كثير من العلماء حتى نجد أبا حيان صاحب تفسير «البحر المحيط» الذى ولد بعدوفاة الرازى بخمسين سنة تقريبا يقول فيه بعد أن اطلع عليه: «جمع الإمام الرازى فىتفسيره أشياء كثيرة لا حاجة لها فى علم التفسير، ولذلك قال بعض العلماء: فيه كلشىء إلا التفسير.
وهذه النغمة كانت موجودة فى زمن الرازى نفسه سمعها ورد عليها بشدة بقوله: «ربماجاء الجهال والحمقى وقال: إنك أكثرت فى كتاب الله تعالى من علم التهيئة والنجوم،وذلك على خلاف المعتاد .. فيقال لهذا المسكين: إنك لو تأملت فى كتاب الله حقالتأمل لعرفت فساد ما ذكرته.
وكان ذلك بلا شك ناشئا من شدة عنايته بالرد على الفلاسفة فيما قالوه- واعتقد أنهيمس القضايا الدينية، واجتهاده فى أن يبرز حكمة الله وهديه القرآنى عن طريق كشف ماأشار الله إليه فى القرآن من مظاهر النفس والكون .. مقدما بذلك أدلة أخرى علىإعجاز القرآن غير الإعجاز البلاغى الذى تكلم فيه الكثيرون واقتصروا عليه ..
__________
(1) مقدمة تفسيره ج 1 ص 322 عن «التفسير والمفسرون» ج 1، ص 296.

وكان شديدالعناية بالربط بين الآيات بعضها مع بعض وبين السور كذلك.
كما كان معنيا بالرد على المعتزلة، وبتجلية مذهبه الشافعى ومناصرته على غيره منالمذاهب، حتى ألف كتابا خاصا بسيرة الإمام الشافعى ومناقبه، ولم يهمل الرازى معذلك المسائل النحوية والبلاغية والأصولية بل أدلى فيها بدلوه، وقد كان إماما فىالفقه وله آراؤه فيه، حتى قيل إنه من المجتهدين، ولكن ضيعه تلامذته، وإن كانشافعيا وأبلى بلاء حسنا فى نصرة مذهبه والدفاع عن الشافعى وتجلية مذهبه .. وقد ألففى علوم عدة وترك فيها كتبا منها المطالب العالية، والبرهان فى الرد على أهلالزيغ، والمحصول، وفى الحكمة أى الفلسفة: الملخص وشرح الاشارات، وعيون الحكمة،وقام بشرح الوجيز فى الفقه للإمام الغزالى .. وله كتاب فى مناقب الإمام
الشافعى ..

هل أتم تفسيره؟

وقد شاع بين العلماء وقرروا أنه لم يتم كتابة تفسيره كله، وتولى إتمامه بعضتلامذته وذكروا أسماءهم .. حتى أن ذلك دون فى طبعته التى أخرجتها المطبعة البهيةالمصرية فى اثنين وثلاثين جزءا. بتحقيق بعض العلماء مستدلين ببعض عبارات وردت فىالتفسير تدل على أن المفسر غير الرازى .. وأن مجموع ما فسر ضم بعضه إلى بعض فكانتفسيرا للقرآن كله سمى «مفاتيح الغيب» ونسب للرازى. بينما هو توقف عند سورةالانبياء.
والمجال هنا لا يتسع لمناقشة هذا تفصيلا، لذلك اكتفى بتصدى أخينا وزميلنا العالمالباحث الدكتور على محمد حسن العمارى لهذه النقطة فى كتابه «الامام فخر الدينالرازى» الذى أجازته أيضا لجنة القرآن والحديث بالمجلس الأعلى للشئون الاسلاميةالذى تولى طبع الكتاب
فقد ذكر وجهة نظر القائلين بأن الرازى لم يتم تفسيره، بأسانيدهم التى اعتمدواعليها مما جاء فى التفسير نفسه ثم تولى الرد مفصلا على هذه الأسانيد، مسلما بأنتفسير سورة الواقعة ليس للرازى. كما ورد فى كلام العلماء الناقدين .. وان كان نسقالتفسير لم يختلف فيها عما كتبه الرازى ..

وقد انتهىالدكتور العمارى بعد سرد أدلته والرد على مخالفيه إلى ترجيح أن الكتاب كله للرازىما عدا سورة الواقعة وقال ص 183:
«لقد ترجح عندى بعد هذا التردد الطويل بين أخبار أصحاب التراجم، والتفسير الكبيرللرازى أن هذا الإمام الجليل قد أتم تفسير القرآن كله، ثم لأمر لعله من صنع التترالذين اغاروا على خوارزم سنة 617 هـ بعد وفاة الرازى بإحدى عشرة سنة، ضاع جزء منهذا الكتاب يغلب على الظن أن يكون تفسير سور متفرقة كتفسير سورة الواقعة، فجاء شمسالدين الخويى (المتوفى سنة 639 هـ)، ووضع لهذه السور تفسيرا، وربما كان قد وضعتفسيرا كاملا للقرآن، وأدخل بعض أجزائه فى تفسير الرازى»
وقد قيل أيضا من الناقدين أن نجم الدين القمولى المتوفى سنة 627 هـ كان له أيضاجهد فى تتمة هذا الكتاب .. ويلاحظ الدكتور على العمارى أن نسق تفسير سورة الواقعةالتى سلم الجميع أنه ليس للرازى لا يختلف عن نسق الرازى فى تفسيره، مما يجعل منالصعب على الفاحص أن يميز بين هذا وذاك عن طريق الأسلوب والمنهج ..
وليس هذا بغريب، فهما من تلامذته المتأثرين به، وحين كتبا، كان ما كتباه على نسقأستاذهما. لم يكن بينهما فرق .. مما يصعب على القارئ الفاحص التمييز بين الأسلوبين..

هل نقول إنه تفسير علمى:

يمكن أن يقال ذلك بجوار كونه تفسيرا موضوعيا لغويا فقهيا عقديا، فقد استعان علىتجلية معانى ألفاظ القرآن بما عرفه من علوم فى زمنه .. وهذا وإن عابه القدماءالذين ألفوا أن يكون التفسير على غير هذا الوجه وقالوا فيه ما قالوا، إلا أننا لانجاريهم على طول الخط، فليس ما قالوه- من أنه فيه كل شىء إلا التفسير- صحيحا، ففيهما درج عليه المفسرون قبله وبعده من تفسير يقوم على الناحية البلاغية والنحويةوالفقهية مع عنايته بالربط بين الآيات، والرد على المعتزلة.

ثم فيه زياداتنافعة لكل من يريد التوسع فى معرفة أسرار القرآن والكون، ليخرج من هذا بالعبرالنافعة المؤيدة لإيمانه ..
وإذا كان الفقهاء قد أخذوا ما جاء من آيات فى الأحكام الفقهية وهى لا تتعدى نحومائتى آية، فأقاموا عليها علم الفقه والأحكام .. فإنه قد جاء فى القرآن آيات تتحدثعن الكون والانسان والحث على النظر فيها أكثر بكثير جدا مما ورد فى الأحكام .. وهىفى حاجة إلى تجلية بالنظر فى علوم الكون والانسان والاستعانة بها فى إيصال أسرارالقرآن للناس ..
والمهم فى هذه الحالة ألا يوغل المفسر فى سرد تفصيلات كثيرة، تجره إلى تفصيلات لاحاجة إليها كثيرا .. فلنأخذ من تفسير الامام الرازى ما نأخذ من كتب التفسيرالأخرى، ولنأخذ منه ما يزيد عن ذلك إن أردنا، مما يزيدنا علما ويقينا وإدراكالأسرار الكون، وعظمة الخالق. فهو أشبه بموسوعة أو مائدة يختار الجالس عليها مايشاء من ألوان الطعام والغذاء ..
ويمكن أن نعد هذا التفسير أساسا لا تجاه المرحوم المفسر «الشيخ طنطاوى جوهرى» الذىألف تفسيره على هذا النسق أيضا، مستغلا ما وصل إليه العلم والفلك من فتوحات جديدة..
ومما لا شك فيه أن هذين التفسيرين وأمثالهما ليسا لعامة القراء، ولكنها لخاصةالخاصة، فيكفى المسلم العادى ما يعلمه من المعنى العام للآية، وما فيها من هدايةدون الدخول فى تفاصيل .. مما تكفلت به أخيرا تفاسير مختصرة طبعت على هامش المصحف،أو وضعت مستقلة
ولقد كان مما يلفت النظر أن تقوم ضجة من العلماء حول ما ذكره الرازى واستطرد إليهمن علوم، فى الوقت الذى لم تحظ فيه الاسرائيليات والخرافات بمثل هذه العنايةوالنقد، فظلوا يتناقلونها فى تفسيراتهم، مما نراه فى كتب التفسير التى بين أيدينا.. والتى ألف بعضها بعد عصر الرازى .. ويشكو الجميع منه الآن مر الشكوى ..

النهضة الحديثة للتفسير
فى بداية القرن الرابع عشر الهجرى، ونهايات القرن التاسع عشر الميلادى بدأ تحولكبير فى طريقة التفسير. بدأ من مصر وعلى يد الإمام الشيخ محمد عبده.
وقد كانت التفاسير كما عرفنا- من أول أمرها تدور حول أبحاث لفظية نحوية أو بلاغيةأو قراءات، وحول روايات، أغلبيتها الكبرى خرافات، وإسرائيليات. وأحاديث لا أصللها- وجاء تفسير الفخر الرازى فغلبت عليه العلوم العقلية الفلسفية والفلكية، فدونمنها الكثير عند ما يرى مناسبة لذلك فوق المباحث الأخرى .. وقد كان آخر
هذه التفاسير المتداولة بيننا هو تفسير الألوسي المتوفى سنة 1270 هـ جامعا لما رأىجمعه وإثباته من التفاسير السابقة عليه ..
وحين ظهر الشيخ محمد عبده بنضجه العقلى، كانت كل هذه التفاسير أمامه، فلم يتقبلطريقتها كما هى، وإنما نحا منحى جديدا فى التفسير، فى دروسه التى ألقاها ببيروتحين نفى إليها، ثم عاودها حين عاد لمصر، وبدأ دروسه فيها من أول القرآن علىالطريقة التى رآها تبرز هدايته وأثره فى النفوس، حتى يستعيد المسلمون بهدايتهسيرتهم الأولى، فى القوة العلمية والسياسية .. ويتحقق بذلك منهجه فى الإصلاح، الذىتأثر فيه بمنهج أستاذه جمال الدين الأفغانى ..
فالقرآن هو الذى نهض بالمسلمين الأول، وهو الذى ينهض بالمسلمين الآن، متى تشربواهدايته، كما تشربها السابقون ..
على هذا الأساس بدأ تفسيره للقرآن، هادفا إلى إبراز هدايته للنفوس، بعيدا عما جرىعليه المفسرون السابقون، مما كان يذهب ببهاء المعانى، وروح الهداية.
ويضيع الهدف المقصود منه «هدى للمتقين».
يقول السيد محمد رشيد رضا فى مقدمته لتفسير المنار وهو الذى تشرب روح الأستاذالإمام:

«كان من سوءحظ المسلمين أن أكثر ما كتب فى التفسير، يشغل قارئه عن هذه المقاصد العالية،والهداية السامية، فمنها ما يشغله عن القرآن، بمباحث الأعراب، وقواعد النحو، ونكتالمعانى. ومصطلحات البيان، وفيها ما يصرفه عنه بجدل المتكلمين، وتخريجاتالأصوليين، واستنباطات الفقهاء المقلدين، وتأويلات المتصوفين، وتعصب الفرقوالمذاهب، بعضها على بعض، وبعضها يلفتها عنه بكثرة الروايات، وما مزجت به منخرافات الاسرائيليات، وقد زاد الفخر الرازى صارفا آخر عن القرآن، وهو ما يورده فىتفسيره من العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها، من العلوم الحادثة فى الملة على ماكانت عليه فى عهده- مما قلده فيه بعض المعاصرين، وهى تصد قارئها عما أنزل اللهالقرآن لأجله»
«وصحيح أنه لا بد من وسائل فهم القرآن من فنون العربية واصطلاحات الأصول، ومعرفةسنن الله فى كونه، وما صح من أحاديث رسول الله، ولكن الاغراق فى ذلك، واللجوء إلىالروايات الباطلة الخرافية، أمر يذهب بهداية القرآن» 1 هـ مختصرا ثم يقول فى نهايةما أورده حول هذا «فكانت الحاجة شديدة إلى تفسير تتوجه فيه العناية الأولى إلىهداية القرآن على الوجه الذى يتفق مع الآيات الكريمة المنزلة فى وصفه»

دور السيد رشيد رضا فى هذا التفسير
السيد محمد رشيد رضا من قرية القلمون جنوب طرابلس لبنان .. وقد زرت بيته فيها،وأنا أزور ابن أخيه العالم الفاضل السيد عاصم رضا- عليه رحمة الله- فى الستينات ..وقد درس على علماء بلده «طرابلس» حتى أكمل دراسته هناك، واطلع على أحد أعداد مجلة«العروة الوثقى» التى كان يصدرها محمد عبده مع جمال الدين من باريس، فتأثر بماكتبه الشيخ عبده فيها واشتاق إلى لقائه، ثم حانت له الفرصة، فشد رحاله إلى مصر سنة1315 هـ 1897 م. ليلتقى فيها بالإمام ..
وعقب وصوله إلى مصر فى رجب سنة 1315 هـ اتصل فورا بالإمام .. وكان أول اقتراح لهعليه أن يكتب تفسيرا للقرآن ينفخ فيه من روحه التى وجدنا روحها فى مقالات (العروةالوثقى) ... فاعتذر بأن العمر لا يتسع لتفسير كامل، فاقترح عليه أن يقرأ درسا فىالتفسير. فكان يعتذر باستمرار عن الكتابة وعن الدروس .. وكان يصده عن الكتابة- كماذكر- أن القارئ لا يستفيد كثيرا من الكتاب كما يستفيد السامع. وإذا وصل الكتابلأيدى هؤلاء العلماء، وفيه غير ما يعلمون، لا يعقلون المراد منه، وإذا عقلوا منهشيئا، يردونه ولا يقبلونه، وإذا قبلوه حرفوه إلى ما يوافق علمهم ومشربهم.
وكان يعتذر عن الدروس بأنه- على عكس بعض الناس- تؤثر فيه حال المخاطب «ولذلك لاأتكلم بشيء عن حالة الاسلام، عند ما أجتمع بهؤلاء العلماء، لأن أفكارهم منصرفة عنذلك بالكلية، وإذا كان هناك من يلقى بالا لما أقول يفتح الله على بكلام كثير.
ويقول السيد رشيد: ولم أزل به حتى أقنعته بقراءة التفسير فى الأزهر، فاقتنع، وبدأالدرس بعد ثلاثة أشهر ونصف- أى فى غرة المحرم سنة 1317 هـ مايو 1899 م، وانتهى منهفى منتصف المحرم سنة 1323 هـ مارس- 1905 م عند تفسير قوله تعالى «وَكانَ اللَّهُبِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً» من الآية 125 من سورة

النساء، فقرأزهاء خمسة أجزاء فى ست سنوات، إذ توفى لثمان خلون من جمادى الأولى من السنة نفسها.
وكان يتوكأ على تفسير الجلالين الذى هو أوجز التفاسير، فيذكر عبارته، ويقرها أوينتقدها، ثم يتكلم بما فتح الله به عليه، مما فيه هداية وعبرة.
وكان يختار هذا التفسير لإيجازه، ولأنه لا يدخل فى مباحث لفظية أو غيرها، مما لايجب أن يدخل الإمام فيه، أثناء تفسيره. ويقول السيد رشيد:
«وكنت أكتب أثناء الدرس مذكرات، أودعها ما أراه أهم ما قاله، وأحفظ ما أكتبلأبيضه، وأمده بكل ما أتذكره وقت الفراغ، ثم تلقى اقتراحا من قراء «النار» التىأصدرها فور وصوله، أن ينشر فيها هذا التفسير، فشرعت فى ذلك فى أول المحرم سنة 1318هـ 1900 م وذلك فى المجلد الثالث من المنار، وكنت أولا أطلع الاستاذ على ما أعدهللطبع كلما تيسر لى ذلك، بعد جمع حروفه فى المطبعة .. فكان ربما ينقح فيه بزيادةقليلة، أو حذف كلمة أو كلمات.
على أنه لم يكن كله نقلا عن الاستاذ، ومعزوا إليه، بل كان تفسيرا للكاتب منانشائه، اقتبس فيه من تلك الدروس جل ما استفاده منها .. وبعد أن توفاه الله صرتأرى أن من الأمانة ألا أعزو إليه إلا ما كتبته عنه أو حفظته ..
وأقول: قال ما معناه ..
ولما استقللت بالعمل بعد وفاته، خالفت منهجه، بالتوسع فيما يتعلق بالآية من السنةالصحيحة، وفى تحقيق بعض المفردات والمسائل الخلافية، والإكثار من شواهد الآيات فىالسور المختلفة، وفى بعض الاستطرادات لتحقيق مسألة خاصة تشتد حاجة المسمينلتحقيقها، أو بعض المشكلات التى أعيا حلها، بما يطمئن به القلب» (1).
ولعلك ترى بعد هذا السرد الموجز، كيف كانت أهمية دور السيد رشيد فى بروز هذاالتفسير، سواء فى الدروس أو بعد ذلك حين طبع .. أو فى السير فيه بعد وفاة الإمامإلى آخر سورة يوسف على نسق الإمام ..
__________
(1) من مقدمة السيد رشيد تفسير المنار ج 1.

[مقدمة الإمام لتفسيره]
هذه المقدمة الموجودة فى أول التفسير، وإن كان السيد رشيد قد اقتبسها من دروسالإمام بفحواها، إلا أنها تعبر- بلا شك- عن روح الامام واتجاهه، ونظرته لتفسيره،والتفاسير القديمة ..
ولذلك أحببت أن أضع أمامك منها- بقدر الإمكان- بعض الفقرات المهمة- ولو باختصار،باعتبارها معبرة عن رأيه ..
فمما يراه الإمام «أن التفسير الذى نطلبه هو فهم الكتاب من حيث هو دين، يرشد الناسإلى ما فيه سعادتهم فى حياتهم الدنيا وحياتهم الآخرة»
والتفسير له وجوه شتى:
أحدها: النظر فى أساليب الكتاب ومعانيه، وما اشتمل عليه من بلاغة، كما فعلالزمخشرى فى الكشاف.
ثانيها: الإعراب .. وقد توسع فيه أقوام.
ثالثها: تتبع القصص. وقد سلك هذا المسلك أقوام زادوا فى قصص القرآن ما شاءوا منكتب التاريخ والاسرائيليات من غير تمييز بين غث وسمين.
رابعها: غريب القرآن.
خامسها: الأحكام الشرعية من عبادات ومعاملات والاستنباط منها.
سادسها: الكلام فى أصول العقائد ومقارعة الزائغين.
سابعها: المواعظ والرقائق.
ثامنها: ما يسمونه بالإشارة وقد اشتبه على الناس فيه كلام الباطنية بكلام الصوفية.ومن ذلك التفسير الذى ينسبونه للشيخ الأكبر محى الدين بن عربى، وهو للقاشانىالباطنى الشهير، وفيه من النزعات ما يتبرأ دين الله وكتابه منه ..
وبعد أن يورد الإمام هذه الأنواع والوجوه، يقول:
وقد عرفت أن الإكثار فى مقصد خاص من هذه المقاصد، يخرج بالكثيرين عن المقصود منالكتاب الالهى.

ثم يبين منهجهفيقول:
لهذا كان الذى نعنى به من التفسير، هو ما سبق ذكره، أى فهم الكتاب من حيث هو دينوهداية جامعة لبيان ما يصلح به أمر الناس فى دنياهم، وفى آخرتهم. ويتبع ذلك بلاريب بيان وجوه البلاغة بقدر ما يحتمله المعنى، وتحقيق الإعراب عند الحاجة إلى ذلك،وتبيين بعض قواعد الأصول مما لا يشغل القارئ عن المعانى ..
ويقول: إن الأحكام العملية التى نسميها فقها، هى أقل ما جاء فى القرآن. وفيه منالتهذيب ودعوة الأرواح إلى ما فيه سعادتها، ما لا يستغنى عنه من يؤمن بالله واليومالآخر .. وما هو أجدر بالدخول فى الفقه والفهم الحقيقى. ولا يوجد إلا فى القرآن.
ثم يبين أن للتفسير مراتب:
أدناها: أن يبين إجمالا ما يشرب القلب عظمة الله ويصرف المؤمن عن الشر.
وهذا متيسر لكل أحد.
وأعلاها: يتم بوسائل ..
أولها: فهم حقائق الألفاظ واستعمالاتها وقت نزول القرآن، دون التقيد والاكتفاءبقول فلان وفلان، فإن دلالات بعض الألفاظ قد تغيرت عما كانت عليه وقت التنزيل، مثلكلمة «تأويل» التى كان أصل دلالتها: العاقبة والمآل أى ما يؤول إليه الأمر. وكثيراما يفسر المفسرون كلمات القرآن على ضوء الاصطلاحات التى حصلت بعد القرون الثلاثةالأولى!!
ثانيها: الأساليب.
ثالثها: علم أحوال البشر.
رابعها: العلم بوجه هداية البشر كلهم بالقرآن .. فمن نشأ فى الاسلام ولم يعرف حالالناس قبله، يجهل تأثير هدايته ..
خامسها: العلم بسيرة النبى وأصحابه ..
ثم يقول: فعلم من هذا أن التفسير قسمان:

1 - قسم جافمبعد عن الله وكتابه، وهو ما يقصد به حل الألفاظ والإعراب الخ .. فهذا لا يسمىتفسيرا، وإنما هو ضرب من التمرين فى الفنون، كالنحو والمعانى وغيرهما ..
2 - التفسير الذى قلنا: إنه يجب على الناس على أنه فرض كفاية، وهو ذهاب المفسر إلىفهم المراد من القول، وحكمة التشريع فى العقائد والأحكام، على الوجه الذى يجذبالأرواح ويسوقها للعمل، ويتحقق به كون القرآن «هدى ورحمة»، ثم يقول الإمام: وهذاهو الفرض الأول الذى أرمى إليه فى قراءة التفسير ..
ثم تكلم عن التفاسير الموجودة، ونقدها نقدا مرا، وتكلم عن نظرتنا للقرآن، واتخاذهأحجبة، وحماية من الجان لمن حمله، وإحداثنا الضوضاء حول قارئيه بصوت حسن لحسنالصوت، لا لفهم المعنى والألفاظ كما هو معروف، وبهذا صرنا كما يقول- فى جاهلية أشدمن الجاهليين والضالين فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم.
وإننا نعتقد أن المسلمين ما ضعفوا وزال ملكهم إلا بإعراضهم عن هداية القرآن، ولنيعودوا إلى عزهم إلا بالرجوع إلى هدايته، والاعتصام بحبله.
وبهذا انتهت المقدمة التى اقتبسها السيد رشيد رضا من كلام الإمام.
وعلى هذا الأساس، وتحقيقا للهدف الذى يرمى إليه الإمام من إصلاح، أقبل على إلقاءدروسه فى التفسير، فصار أول معلم من معالم التغيير والتحول، لا فى منهج التفسيرفحسب، ولكن فى حياة الأمة نفسها ..
حينما تأثر بهدايته وطريقته ودعوته الكثيرون سنة بعد سنة، وصار صاحب مدرسة تجديديةفى الفكر الدينى عموما لا فى التفسير وحده ..
وقد قيض الله له تلميذه السيد رشيد رضا، وأتى به من لبنان أو من الشام كما كانتتسمى، ليقوم بهذا الدور العظيم، ويقيم صرح مدرسة الإمام التجديدية .. ويواصلرسالته ويمكنها بعد وفاته، بواسطة مجلة المنار، ومدرسة الدعوة والإرشاد، والخطبوالدروس، وكانت مدرسة الإمام كشجرة

عظيمة، ذاتثمر حلو شهى، لا تثمر ثمرتها، وتؤتى أكلها، إلا بعد سنوات من غرسها ..
ولقد تعهدها السيد رشيد، حتى اتسع ظلها، وكثرت ثمارها .. فغيرت مجرى التفكيرالدينى فى العالم الاسلامى، لا فى مصر وحدها .. وهى تضرب بجذورها الأصيلة لأفكارالسيد جمال الدين الأفغانى موقظ الشرق والغرب الاسلامى .. حيث امتدت فروعها فظهرزعماء الاصلاح والتحرر فى المغرب العربى، والمشرق الاسلامى .. على المنهج الاصلاحىالذى اختطه جمال الدين وتلميذه محمد عبده ..

[فى الجزائر]

فكان الشيخ عبد الحميد بن باديس فى الجزائر الأب الروحى لحركة التحرير الجزائرية،معتمدا فى بث نهضته ودعوته على القرآن الكريم، وتفسيره على المنهج الذى ارتضاهمحمد عبده فى مصر، فظل يلقى دروسه فى التفسير على مدى نحو خمس وعشرين سنة، حتىاختتم تفسير القرآن، وقام احتفال فى مدينة «قسنطينة» فى الثالث عشر من شهر ربيعالثانى 1357 هـ- 1938 م .. كما يقول المرحوم زميله الشيخ محمد البشير الابراهيمى.وللأسف لم يلتقط أحد هذا التفسير ويدونه، ولكن الذى بقى من تفسير ابن باديس هو ماكان ينشره أحيانا هناك فى «مجلة الشهاب» ويسميها «مجالس التذكير»، وقد جمعت ونشرتفى كتاب بعنوان «تفسير ابن باديس» أو «مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير» جمعوترتيب وإعداد ومراجعة وتعليق الاستاذين محمد الصالح رمضان الجزائرى، والدكتورتوفيق محمد شاهين المصرى الأزهرى، نشر دار الكتاب الجزائرى. فى مجلد يضم نحو 500صفحة ..

[فى الهند]
وقد تعجب إذا عرفت أن أثر هذه المدرسة امتد حتى وصل للهند وكان له أثره فى تحريكالمسلمين، أو فى إشعالهم لطلب التحرر لبلادهم من الاستعمار الانجليزى ..

ولم يكن الأمرإلا شرارة مست قلب شاب تخرج فى المعاهد الهندية، ثم جاء إلى مصر يزورها، ويتعرفعلى الحركات الدينية والوطنية بها- سنة 1326 هـ- 1908 م بعد وفاة الإمام محمدعبده- وهو فى سن العشرين، والتقى بالسيد رشيد، وأعجب بمنهجه، وطريق دعوته، وبمدرسةالدعوة والارشاد التى افتتحها، ولم يمكث بمصر طويلا، ولكن العلاقة توطدت بينه وبينالسيد رشيد. وكانت المراسلات العلمية والاسلامية الوطنية بينهما متواصلة.

[أبو الكلام أزاد]

هذا الشاب هو مولانا أبو الكلام أزاد، الذى صار فيما بعد صاحب الإمامتين- كما كانيدعى فى الهند- إمامة فى الدين، وإمامة فى السياسة، حين قاد حركة التحرير فى أشدأوقاتها أثناء الحرب العالمية الثانية، وتولى المفاوضات مع الانجليز، باسم الهندوالحزب الوطنى، الذى كان يرأسه طوال مدة الحرب ..
ومع أن «أزاد» زار تركيا، وبلادا عربية أخرى، إلا أن الشرارة التى مست عقلة وقلبهكانت من مصر، من مدرسة الإمام الدينية. فعاد للهند متأثرا بهذه المدرسة، حتى ألفجماعة هناك، على نسق جماعة أو مدرسة الدعوة والإرشاد التى انشأها السيد رشيد، وقرعزمه على أن يتخذ من الاسلام وروحه، الوسيلة لإلهاب روح التحرر فى نفوس المسلمين،فأصدر مجلتين:
الهلال ثم البلاغ، لتقوما بهذه المهمة، وكان ينشر فيها تفسيرا للقرآن على النسقالذى تشيع به، بجوار مقالاته الأخرى .. وبدأ بالهلال فى 12 يونيو 1912 م- 1330 هـثم لما صودرت، أصدر «البلاغ» فصادرها الانجليز ..
يقول علامة الهند السيد سليمان النّدوي: «لا شك أن مجلتى الهلال والبلاغ لأبىالكلام أزاد، قد كونتا الذوق القرآنى لدى الشبان المسلمين، وفتحتا نوافذ جديدةأمام الجيل الجديد، وعرضتا الآيات القرآنية بأسلوب بلاغى، يتسم بالحكمة، وجودةالصناعة، مما أنار القلوب بنور الإيمان واليقين، وكشفتا معانى القرآن وسمو قولالرحمن»

«اتجاههلكتابة تفسير»
وحين لمس «أزاد» إقبال المسلمين على التفسير فى المجلة اتجه إلى كتابته ونشره فىكتاب، وكان عبارة عن ترجمة محكمة سهلة العبارة الأوردية، ثم تفسير بعض ما يحتاجلتفسير على الهامش .. بحيث تكون الترجمة حاوية على المعنى الذى يريد إيصاله للقراءدون توقف .. أما التفسير فعلى الهامش لمن أراد زيادة وتوسعا ..
وقد تعطل هذا المشروع بسبب اعتقال السلطة الانجليزية لمولانا أزاد مرات وتبديدهالمسودات ترجمته وتفسيره، وبين تأرجح العمل بين القلة والكثرة سار العمل شوطا كبيرا..
وقد نشر من ترجمته وتفسيره إلى سورة النور .. وجاءت الفاتحة فى الطبعة الأخيرة فىمجلد خاص يضم أكثر من خمسمائة صفحة باللغة الأوربية.

[كيف كان منهجه]

كان منهجه ومشربه فى التفسير هو منهج الإمام محمد عبده، وتلميذه رشيد رضا، فىالقصد رأسا إلى العبرة والهداية المحركة للقلوب. حتى إنه اعتمد على القرآن كماقلنا فى إثارة المسلمين أكثر وأكثر لمحاربة المستعمر، ومقاطعته فى كل شىء، ممااعتنقه غاندى بعد ذلك، وسماه بما ترجمناه «حركة العصيان المدنى» حين انضم الهندوسللمسلمين فى حركة المقاطعة متأخرا ..
وقد كتب مقدمة لترجمته وتفسيره سماها «التفسير والمفسرون» اشتملت على نظرتهللتفاسير السابقة، وكيف حجبت عن المسلمين هداية القرآن، بمباحثها اللفظية،وأخبارها الإسرائيلية، ومناقشاتها الفقهية والكلامية وبالعلوم اليونانية .. وهىتماما مثل نظرة الإمام محمد عبده .. وتكلم عن التفسير بالمأثور، والتفسير بالرأى،ووضح المراد من «الرأى»، كما وضح هدفه من عمله.
وكتب هذه المقدمة وهو فى سجن «ميرت» شمال دهلى فى 16 نوفمبر سنة 1930 م

وقد دعالتأليف جماعة تسمى «جماعة القرآن» - على نسق «جماعة الانجيل» - لخدمة القرآن،طباعة، وتفسيرا، وترجمة إلى اللغات المختلفة، لتنتشر دعوة الاسلام فى العالم، ولكنذلك لم يتحقق .. حتى توفى فى فبراير سنة 1958 دون أن يتم التفسير الذى أراده ...وكان فى شوق شديد لإتمامه، لكنه لم يجد الفراغ الكافى ..
وله بحث قيم دقيق ومحقق بالشواهد والأدلة التاريخية والأثرية حول ذى القرنين ذكرهبمناسبة تفسيره لقصة ذى القرنين فى سورة الكهف .. يعتبر من أدق وأصح ما كتب حتىالآن عن شخصية ذى القرنين، وهو الامبراطور «غورش» أو «قورش» الايرانى مؤسس أولامبراطورية ايرانية، احتفل شاه إيران السابق بمرور 25 قرنا على تأسيسها منذ عدةسنين ..
ومن أراد المزيد حول أزاد وتفسيره وآرائه فى التفاسير القديمة، ومنهجه وإصلاحهالدينى بالقرآن، فليرجع إلى ما كتبته مفصلا فى كتابى «مولانا أبو الكلام أزاد»المصلح الدينى والزعيم السياسى (1) ..
والمهم من ذكر هذا كله أن نسجل هنا .. أن مدرسة الإمام فى التماس الهداية منالقرآن، والاصلاح الدينى والدنيوى على أساسه قد امتد أثرها حتى وصل إلى الهند بفضلمولانا أبى الكلام أزاد، ولم يقتصر على البلاد العربية .. وعلى أساس هذا قامتالحركات التحررية فى البلاد العربية والاسلامية ..

[فيما بعد الإمام]

وقد سرى أثره فى تلامذته الذين أعجبوا بآرائه، وكان أولهم تلميذه الوفى المخلصالسيد محمد رشيد رضا، الذى سجل كل ما يختص به من تاريخ، ومن أقوال وآراء .. فأبقىالشيخ عبده حيا فى النفوس، مؤثرا على مدى السنين.
وإذا كانت آراؤه الاصلاحية الدينية ومنهجه قد وجد لهما معارضة فى حياته، وقامعلماء زمنه فى وجهه شأن ما يجرى لكل مصلح، فقد مات هؤلاء
__________
(1) طبع فى جزءين الأول- المصلح الدينى، والثانى الزعيم السياسى، إصدار المجلسالأعلى للشئون الإسلامية.

جميعا، وبقيتالقاعدة: «البقاء للأصح» تعمل عملها حتى جاء الوقت الذى يفخر فيه العلماءبالانتساب لمدرسته .. ويشرفون بترديد آرائه .. والسير على منهجه المفيد فى التفسير..

الشيخ محمد مصطفى المراغى شيخ الأزهر

ولقد كان الشيخ الإمام المراغى شيخ الأزهر سابقا، أوفى العلماء فى اتباع منهجه فىهداية الناس بالقرآن وتفسيره وإن لم يكن قد ترك تفسيرا منتظما للقرآن، فقد ظهرطابعه هذا، فيما تناوله من دروسه للملك السابق من تفسير بعض آيات القرآن وسوره ..كتفسير سورة لقمان، والحجرات، وبعض آيات أخرى، جمعت وطبعت فيما بعد.
وعاصر الإمام المراغى وجاء بعده علماء ساروا على المنهج نفسه فى تفسير القرآنتفسيرا يهدف إلى تربية الروح، وإيقاظ القلب، وبعث الهمة فى النفوس عن طريق تعريفهابمعانى القرآن وأهدافه ومراميه، دون الدخول فى تفاصيل ..
وكانوا فى الوقت نفسه يلبون حاجة ماسة فى نفوس المثقفين، لفهم القرآن، دون الدخولفى اصطلاحات ومباحث تصرفهم عن المعنى- فظهر تفسير الشيخ أحمد مصطفى المراغىالاستاذ بكلية دار العلوم، كما قام بعض العلماء الأجلاء بإلقاء محاضرات بالتناوبفى قاعة الشبان المسلمين، أو فى قاعة دار الحكمة فى تفسير القرآن، وكان الحضورإليها مفتوحا، كما اتجه بعض العلماء والدارسين لكتابة تفسير مختصر على هامشالمصحف، يقدم المعنى العام لقارئه .. وكان أفضل ما كتب فى ذلك «تيسير التفسير»للشيخ عبد الجليل عيسى عضو مجمع البحوث عليه رحمة الله .. وأتبعه بكتابة تفسيرميسر مختصر، على هامش المصحف أيضا سمى «بالمصحف الميسر» وقدم فيهما خدمة جليلةأخرى تيسر لقارئى القرآن- دون استعانة بقارئ آخر- قراءته فى الكلمات المرسومةبالرسم العثمانى، المخالف لما عليه الرسم حسب الإملاء الحديثة الآن .. ووضع ذلك فىأسفل الصفحة، فمثلا «يا صالح» تكتب هكذا «يصلح»، فكتبها الشيخ

عبد الجليلأسفل الصفحة برقم خاص «يا صالح» و «الصلاة» بالرسم العثمانى كتبها «الصلاة» و«الصلحت» كتبها «الصالحات» وبذلك قدم خدمة كبرى لقارئى القرآن .. وجمع بينالمحافظة على الرسم العثمانى، وتسهيل القراءة على قارئى القرآن ..
ومع هذا تفسير الاستاذ محمد فريد وجدى على هامش المصحف أيضا، وإن كان عليه بعضالمؤاخذات، وتفسير «القوصى» للاستاذ أحمد نصار القوصى .. «والتفسير الواضح»للدكتور الشيخ محمود حجازى عليه رحمة الله، وفيه يذكر الآيات، ثم يتبعها بشرح مبسطسهل.
وتلا ذلك كله تفسير كتبه المرحوم الاستاذ «سيد قطب» وهو أوسع من هذه التفاسير، لكنلم يتعرض فيه لمباحث لفظية أو مجادلات تصرف عن سياق المعنى، وانصبابها فى نفسالقارئ، وقد صاغه صياغة أدبية فنية، وحرص على إبراز المعانى بصورة مؤثرة، وأعانهعلى ذلك اسلوبه الفنى الشيق، مستعينا ببعض الأحاديث وأسباب النزول الصحيحة .. وقدأخرجته «دار الشروق» فى ستة مجلدات كبيرة بالقطع الكبير، والطباعة الجيدة، ولقىهذا التفسير قبولا عند الجميع وسماه «فى ظلال القرآن»
وبجوار هذا «منتخب التفسير» الذى توفر على كتابته بعض العلماء، وعلى مراجعتهوصياغته لجنة منهم مختصرة، كنت واحدا من أعضائها، تحت رعاية «وزارة الأوقاف» وكانالفضل فى البدء به «للاستاذ أحمد طعيمة» وزير الأوقاف سابقا واستمر المشروع بعده،حتى خرج فى مجلد واحد سمى «المنتخب فى تفسير القرآن، وقد روعى فى التفسير الاختصارالمركز فى إيراد معنى الآية فى ضعف حجمها غالبا وبأسلوب سهل وآراء معتمدة، لا تثيرجدلا ولا شكوكا، لأن الهدف منه، كان ترجمته للغات الأجنبية، ولكن مع الأسف لميتحقق هذا الهدف برغم المحاولات التى بذلت حتى الآن ..
ويخرج مجمع البحوث. «التفسير الوسيط» لعامة القراء، يقوم به صفوة من العلماءتحضيرا وصياغة، وهو ليس بالطويل كالتفاسير القديمة، وليس بالمختصر كتفاسير الهامش،ولكنه بين بين ..

ويقدم غذاءطيبا للقارئ الذى يحرص على فهم القرآن فى سهولة واختصار وقت .. وقد نسيت أن أذكرأن فضيلة المرحوم الشيخ محمود شلتوت بذل جهدا فى التفسير مشكورا، سواء كان فىالمحاضرات التى أشرت إليها، أو فى ندوات أخرى، وقد خرج له كتاب فى تفسير ثلثالقرآن تفسيرا موضوعيا سهلا، لم يتبع فيه طريقة الأقدمين، ولكنه ساق تفسيره فى خطةجديدة، وبأسلوبه الشيق، وهو مطبوع متداول أيضا ..
وهكذا نرى أن اتجاه العلماء الآن فى التفسير، قد استفاد وتأثر بمنحى الشيخ عبدهفيه، وأصبح هو الاتجاه الغالب.

[طريقة تدريس التفسير]

ومع ذلك فإن الطريقة التى لا تزال متبعة فى تدريس التفسير بالأزهر وغيره هى الطريقةالتقليدية القديمة، والكتاب المقرر على الطلاب كتاب من هذه التفاسير القديمة،كالنسفى والجلالين أو غيرهما .. والمدرس ملزم بملازمة الكتاب وتفهيمه للطلاب،ويتخرج الطالب عالما وهو متشبع بهذه الطريقة التقليدية، وبالأقوال والرواياتالواردة فى هذه التفاسير، مع ضعفها أو بطلانها .. دون أن يأخذوا وجبة روحية منالقرآن وتفسيره ..
وكنت وأنا أدرّس التفسير بالأزهر وفى الخارج طوال المدة التى اشتغلت فيهابالتدريس، أعانى ضيقا فى الجمع بين دراسة الكتاب، وتفهيم الطلاب ما جاء فيه، مننحو، وقراءات، وآراء، وروايات، وهذا يأخذ جل الوقت أو كله، وبين الطريقة التى أنامقتنع بها، وهى طريقة الشيخ عبده فى استخلاص العبرة وربط الآيات بالحياة ومشكلاتها.. مما يتشوق إليه الطلاب .. ويخرجون منه بفائدة ووجبة معنوية من القرآن ..
لكنى استطعت أن أخصص وقتا قصيرا للمباحث اللفظية، ثم أصرف كل الوقت للدراسة التىأراها مفيدة ..
وكنت أشبه الدراسة التقليدية بدراسة عالم الطبيعة لجسم الإنسان فى المعمل، ممايضطره لفك أجزائه، والتحدث عنها، جزءا هنا وجزءا هناك،

دون العنايةبالنظر إلى الجسم كله، وما فيه من تنسيق، جعله يؤدى مهمته فى الحياة .. ويظهر صنعالله المتقن .. وبرغم حاجة المفسر إلى بعض الأبحاث اللغوية والتركيبية، فإنه منالخطأ وضياع الهدف أن يصرف الجهد كله فى هذا.
. كما يحصل فى دراستنا للتفسير من كتبه المقررة وغير المقررة ..

[كتابى للتفسير]

ولكى أربّى طلابى على الطريقة التى أحبها، وكان ذلك فى أواخر الأربعينات- عملت علىأن أكتب التفسير على ما أحب، وأنشره فى جريدة «منبر الشرق» لصاحبها ورئيس تحريرهاالمرحوم المجاهد الشيخ على الغاياتى، لكى يضم الطلاب لما يسمعونه فى الدرس، قراءةله فى كلام مكتوب، يمكنهم الاحتفاظ به ..
وبدأت ذلك فى سنة 1950، أسبوعيا وحكمنى المقرر على الطلاب، فبدأت من أول سورةالجاثية، وسرت فى هذا لمدة سنة، حتى منتصف سورة الأحقاف ثم سافرت للعمل فى الخارج.. وتوقفت عن كتابة التفسير.
ولكنه كان دائما يشغل بالى ويؤرقنى، فعدت إليه بعد قرابة ثلاثين سنة، أنشره فىجريدة «السياسى» الأسبوعية، التى تصدر عن «دار التعاون» سنة 1979 وما زال حتى الآن.. حيث توفر لدى الآن تفسير سور الجاثية، والأحقاف، ومحمد والفتح، والحجرات، ثمالمجادلة، والحشر، والممتحنة، والصف، والجمعة، والمنافقون، والتغابن .. والكتابةوالنشر مستمران ..
وقد نشرت دار التعاون «تفسير سورة الجاثية» فى كتاب، والبقية تأتى إن شاء اللهوبفضله .. وقد سبقت فى كتابتى للتفسير على هذا النسق، كل الذين كتبوا التفاسيرالمختصرة والمتوسطة فيما بعد.

[تفسير الشيخ طنطاوى جوهرى والتفسيرات العلمية]
وبرغم الموجة الحديثة فى التفسير التى بعثها الشيخ محمد عبده، وبرغم التأثر الشديدبها، فى أوساط العلماء والقراء بوجه عام، رأينا عالما فاضلا أستاذا فى «دارالعلوم» يضع تفسيرا مطولا، جعل همه فيه بيان عجائب الكون مما أشار إليه الله فىكتابه الكريم، على أساس ما وصلت إليه العلوم الزراعية، والطبية،

والحساب،والهندسة، والفلك وعلوم البحار وغيرها من العلوم .. فما تأتى مناسبة تتصل بالزراعةمثلا إلا تحدث فيها بما وصل إليه علم الزراعة والنبات الخ.
وما تأتى مناسبة لذكر البحار، وما فيها من أسماك وأحجار ولآلىء، إلا وتدرج إلى بحثالبحار، وملوحتها، ومساحاتها، وخواصها والأسماك وأنواعها وخواصها .. الخ. حتىلنراه يستعين بالصور فى بيان أنواع الأسماك .. وهكذا فى بيان اللؤلؤ والمرجانوكيفية تكوينه.
وكان يعتقد أن من الواجب عليه أن يبين فى هذا التفسير ما يحتاجه المسلم من الأحكاموالأخلاق وعجائب الكون، فأثبت فيه من نظريات العلوم وحقائقها ما يشوق المسلمين إلىالوقوف على الحقائق البينات فى الحيوانات والنبات والانسان الخ.
وكان يتعجب من أن آيات الأحكام لا تعدو فى القرآن (مائة وخمسين آية) كما يقول، ومعذلك تقوم على هذه الآيات، البحوث الفقهية، التى شغلت العلماء، وألفوا فيها هذهالكتب الكثيرة، بينما فى القرآن من آيات العلوم ما يربو على سبعمائة آية وخمسين،ومع ذلك لا يعتنى علماء المسلمين بالوصول إلى فقهها ودقائقها. حتى ليقول فى أسلوبحماسى يستنهض همم المسلمين لطريقته»: فما بالكم أيها الناس بسبعمائة آية فيهاعجائب الدنيا كلها؟ هذا زمان العلوم، وهذا زمان ظهور نور الاسلام، وهذا زمان رقيهيا ليت شعرى لماذا لا نعمل فى آيات العلوم الكونية، ما فعله آباؤنا فى آياتالميراث»؟.
ثم يقول:
«ولكنى أقول: الحمد لله الحمد لله. إنك تقرأ فى هذا التفسير خلاصات من العلومودراستها، أفضل من دراسة علم الفرائض، لأنه فرض كفاية، فأما هذه فإنها للازدياد فىمعرفة الله وهى فرض عين على كل قادر، إن العلوم التى أدخلناها فى تفسير القرآن، هىالتى أغفلها الجهلاء المغرورون من صغار الفقهاء فى الاسلام، فهذا زمان الانقلاب،وظهور الحقائق»

وبهذه الصورةتجده متحمسا غاية التحمس لمنهجه، لأنه يؤدى للمسلمين فرض عين عليه وعليهم، لترقىالأمة فى عقيدتها ومعرفتها بربها، وفى حياتها.
ولم يعتمد فيما ذكره وأفاض فيه من أنواع العلوم إلا على الحقائق والنظريات العلميةالسائدة يذكرها، ثم فى النهاية يستخرج منها العبرة التى من أجلها ساق الله الآيةوهى الايمان بقدرة الله وعظمته فى تدبيره لخلقه ..
وقد شرع فى هذا التفسير على طلبته بدار العلوم أولا، ثم سار فيه حتى أتمه فى خمسةوعشرين جزءا كبارا، وطبع حال حياته بمصر من 1341 هـ إلى سنة 1351 هـ 1922 - 1932م، ولم يلق الإقبال الذى يستحقه، ربما لتغلغل منهج الشيخ عبده فى النفوس، وقد ولدعليه رحمة الله 1287 هـ- 1870 م وتوفى 1358 هـ- 1940 م .. مخلفا وراءه هذا العملالعظيم الذى قام به، مهما تختلف فيه الآراء من جهة فائدته فى التفسير وبيان معانىالقرآن ..

الفخر الرازى والشيخ طنطاوى

وإننى أعتقد أن الهدف الذى دفع الفخر الرازى لكى يستعمل علوم عصره فى إظهار هدايةالقرآن وبيان عظمة الله، هو الهدف الذى دفع الشيخ طنطاوى لتفسيره .. والفرقبينهما، هو الفرق بين العلوم فى عصر الرازى، والعلوم فى عصر الشيخ طنطاوى .. فماذكره الشيخ طنطاوى من علوم، متقدم كثيرا عما ذكره الفخر الرازى منها، كتقدم العلومالآن عن عصر الرازى .. ولا شك أن الفائدة والعبرة من معلومات العلوم الآن، أكثروأغزر مما كانت فى عهد الرازى ..
والذى أخذ على الرازى فى توسعه فى ذكر العلوم، يؤخذ على الشيخ طنطاوى .. والذىيعجب بالرازى، يعجب أكثر بالشيخ طنطاوى ..
وقد أخذ على الرازى من قبل أنه يشتت الذهن والقلب، ويبعدهما عن هدى القرآن، والعيشفى جوه، إلى مباحث علمية لا بدّ للانسان من التركيز عليها عند قراءتها .. وهو مايؤخذ على الشيخ طنطاوى أيضا، كما يؤخذ على غيرهما من المفسرين الذين اشتغلوابالمباحث اللفظية والفقهية والمجادلات

الكلامية ..هؤلاء شتتوا الذهن بشيء، والآخرون شتتوه بشيء آخر ..
وكلاهما قرر المحدثون أنه إبعاد لقلب الانسان وشغل له عن الهداية بالقرآن ..
لكن مما لا شك فيه أن التشتيت بالعلوم التى تظهر دقيق صنع الله، يأتى فى النهايةبفائدة كبيرة فى تعميق الإيمان، لو صبر الانسان وجمع بين أول الموضوع وآخره .. وكلمفسر قد أدى خدمة لفهم القرآن على طريقته فى تقديم خدماته جزاهم الله خيرا ..

القرآن والعلم
ولعل هذا يجرنا إلى بحث موضوع «القرآن والعلم»، والقرآن من الدعوات الأساسية التىدعا إليها واعتمد عليها دعوته للعلم بشتى أنواعه.
ولذلك فنحن نتقبل فى أى تفسير بعض الحقائق العلمية، التى تبرز ما أشار إليهالقرآن، وما رمى إليه من ذكر الدلائل الكونية، ولكن الكثير منه فى التفسير يشتتالذهن فعلا، وينقله إلى جو آخر. فالقليل منه نافع، والكثير يشوش الذهن ويبعده عنجو القرآن وسياقه .. هذا إذا لم نشد الآيات، ونلو عناقها، لتقبل تفسيرا علميا فيهكثير من التفتت ان لم يكن التفتت نفسه ..
فيصبح غير مقبول نهائيا ...
وكلا التفسيرين، يمكن أن نقول عنهما: تفسيرا علميا، لكثرة ذكر العلوم والاستدلالبها فيه ..
وأحب أن أذكر هنا وأؤكد أن هناك فرقا كبيرا، بين أن نستعين بالعلم، لتوضيح معنىآية أو جملة أو إظهار إعجاز القرآن، وبين أن تؤول الآية أو الجملة أو الكلمةتأويلا تعسفيا، لتكون مطابقة لما يقال من أنه علم ..
فمثلا قوله تعالى «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» حين يأتى المفسر ويقولإن العالمين جمع عالم، وتكون بمعنى العوالم المخلوقة من انسان وهو أشرفها وغيره،ويأخذ فى ذكر هذه العوالم الأخرى وما فيها من أسرار، وتنظيم دقيق، كعالم الأرضوالسماء، ثم عالم النبات والحيوان والحشرات. والأسماك، والنجوم والأفلاك الخ ..ويبين أن الله خلق هذه العوالم، وأعطى كل شىء خلقه ثم هدى، لأنه ربها، ومتولى أمرها،وراعيها وحافظ حياتها. لتؤدى دورها، ثم يمتد بحثه عن هذه العوالم الأخرى المشابهةلعالمنا كما بحث العالم المؤمن الاستاذ الغمراوى (1) يكون قد خدم القرآن بهذا دونخروج على نصه»
__________
(1) كما جاء فى كتابه الذى جمع فيه بحوثه العلمية القرآنية «الاسلام فى عصر العلم»فى الفصل الأول من الكتاب الرابع «الأعجاز العلمى للقرآن» ص 221.

أو قوله تعالى«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها» فيتحدث عن الثمرات وتنوعها وخاصيتها، ويبين علىضوء العلم سر قدرة الله فى خلق هذه الثمرات، وفى مختلف المناطق، ولكل منطقة ثمارهاوالوانها الخ .. مقتصدا فى بيان ذلك، بحيث لا يفسر الآيات عنوة على معنى، أو يفسرتفسيرا مخلا .. بل إنه يلقى ضوءا فحسب على ما يشير الله إليه، ليزيدنا إيمانا ..بهذا يكون العلم فعلا فى خدمة الإيمان والقرآن. وداعيا إليه.
وحين نذكر آيات خلق الانسان وتكون الجنين من «نطفة أمشاج» ونستعين بما وصل إليهالعلم من مناظير وتشريح وتحليل، لبيان ما أشار الله إليه من عظيم قدرته فى خلقالإنسان- حين نفعل ذلك- لا نكون متعسفين فى استخدام العلم فى تفسير القرآن .. بلإننا نثاب على ذلك.
ولا يخشى على الحقيقة القرآنية من التغييرات فى النظريات العلمية، فإن النظريةالعلمية مهما تتغير لا تخرج عن أنها تكشف جديدا فى التطور أو فى بيان قدرة الله،وإن كنا لا نشجع على بيان معانى القرآن وأسراره على ضوء نظريات لا تزال محل بحث.ومع ذلك .. فإنه لا يضر فى رأيى أن نبين معنى أو نذكر شيئا على أساس علمى ثم يظهرضعفه، أو خلافه فيما بعد، لأن هذا الفهم لا يقدح فى القرآن، ولأن هذا الذى وصلناإليه وقلناه، يمثل عقليتنا وعلمنا نحن حين قلناه، ولا يمثل حقيقة القرآن، وفىتفسيرات القرآن التى بين أيدينا الآن نجد أقوالا من علماء أفاضل فى تفسير الآيةنراها متهافتة، ومع ذلك لا نعيب إلا على قائلها وفهمه ولا نعيب القرآن ..
ومع أن هذه هى الطريقة التى يمكن أن نقف عندها ونستعملها دون انزعاج، فإن ما يثارأحيانا من تفسيرات علمية تافهة ومتعسفة، تسيء للتفسيرات للجادة، وقد تروج وتشتهربين الناس، ويكون ضررها أكثر من نفعها .. فى فهم القرآن، ولكن إلى حين .. وذلككالذى فسر آيات سورة الرحمن حين ظهور مراكب الفضاء ووصولها للقمر، وذهابها إلى مابعد الغلاف الجوى المحيط بالأرض.

فقد قفز هذاالعالم- دون علم- لا بالقرآن، ولا بأوليات العلوم- وأنزل آية «يا معشر الجن والإنسإن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان» علىمراكب الفضاء، وقال: إن الانسان نفذ من أقطار السموات والأرض بسلطان العلم ..وادعى أن القرآن تنبأ بهذا، ظانا أنه يخدم القرآن مع الأسف!! وكان ذلك خطأ فادحايدل على عدم فهم سياق الآيات التى سيقت لبيان عجز الجن والانس من أن يكون لهما أىخيار أو قدرة فى مصيرهما أمام الله وقدرته ومساءلته لهم عن أعمالهم ..
وكان خطأ يدل على عدم الفهم العلمى لأقطار السموات والأرض ..
فراكب الفضاء لم يخرج عن هذه الأقطار حين ذهب للقمر، والمعروف أن القمر كوكب تابعللأرض أو للمجموعة الشمسية. فكيف يفهم علميا أنه خرج من أقطار السموات والأرض وإلىأين غير أقطار السموات والأرض؟
ولكن مع هذا الفهم الفادح فى خطئه، رأينا مثل هذه المقولة يختطفها الجاهلونبالقرآن، وبالفلك وعلومه، ويتحدثون بها .. وهذا هو الذى نقف دونه وله بالمرصاد ..

«القرآن محاولة لفهم عصرى»
ومثل هذا الذى نعيبه، ونقف دونه، جاء منه أيضا فيما كتبه أخونا الفاضل الدكتورمصطفى محمود فى محاولة لفهم القرآن .. ولا أشك فى أنه أقدم على هذا الذى اعتبرهويعتبره العلماء جميعا خطأ غير مقبول، أنه مشوب بسوء نية، بل على العكس، أعتقد أننيته كانت حسنة حين أخطأ، وخرج عن الحقيقة الإسلامية فى بعض الموضوعات. ولى كثيرمن الشواهد على أنه لم يكن يتعمد هذا الخطأ، بل كان مشوقا إلى أن يراجعه أحدالعلماء، فيما كتبه حتى لا يحدث منه شىء من هذا، وفعل هذا فى بعض الموضوعات.
وأعتقد أن تعجله فى النشر أسبوعيا فى المجلة الأسبوعية التى كان يكتب بها فى هذاالموضوع، هو الذى حال بينه وبين لقائه بالمرجع الدينى الذى يراجع عليه،

كما كان يريدونريد .. ولو أنه كان من الأفضل له ولنا أن يتأنى. ففي الكتاب الكثير مما يسرناونحمده عليه .. وفى نشاط الدكتور فى النواحى الدينية وتعميق الإيمان، ما يجعلنانحييه على جهوده وفى روحه الدينية المتصوفة، ونظرته الآن للدين والإيمان، ما يجعلهقريبا جدا إلى نفوسنا، برغم أخطائه فى محاولته لفهم عصرى للقرآن- ولكل عالم هفوة،ولكل جواد كبوة .. والله ينفع بخيره وجهده ..
لقيته مرة فى مراقبة البحوث بالمجمع، وقد جاء صارخا لما علم من صدور قرار بمصادرةكتابه هذا المطبوع فى بيروت، ووجدته كتب مذكرة غلبت عليه فيها صوفيته، واعتمد فيهاعلى أن يقول: إن الله هو الرقيب لا أنتم الخ ..
فأخذته لمكتبى وهدأته، ووجهت له لوما على تسرعه بإبداء هذه الآراء ..
فقال لى: لم أجد من يسعفنى بالمراجعة، وجئت مرة لمشيخة الأزهر وصححوا لى بعضالموضوعات، فأخذت بها فورا، وجئت ثانية فلم يسعفنى أحد، هكذا قال، والعهدة عليه ..ولكنى لم أخله من العهدة، فقد كان بوسعه أن يتأنى، ما دام يطلب الحقيقة كما أفهم.. وأنهيت الموضوع بتعهد أخذه على نفسه، بأن يدفع الكتاب لمراجعة عالم ثقة، أولمراجعة الأزهر قبل طبعه بعد ذلك .. أما هذه الطبعة فهى فى بيروت ولا سلطان لناهناك ..
ومن هذه المحادثة فهمت حسن نيته، وصدق طويته، لا سيما وقد رغب فى تصحيح كل خطأنشره .. فى الوقت الذى حمل فيه حملة شعواء على تفسيرات الباطنية والبهائية،وغيرهما من الفرق المنحرفة بالاسلام، لالتوائهم بألفاظ القرآن وتأويلها، حتى يوافقأهواءهم الضالة المخربة .. وكتب كتابة رائعة أظهر فيها جلال القرآن وجماله وفضلهعلى البشرية.
وقد تحدث عن هذه المحاولة العالم الفاضل الشيخ مصطفى الحديدى الطير ..
عضو المجمع، وكتب عنه تقريرا قدمه للمجمع، أنصفه فيه، فذكر محاسنه، كما ذكر مساوئه..
ومن هذه المآخذ: قوله فى خلق آدم مما يخالف القرآن .. ، وحديثه عن

آدم فى الجنة،وآدم فى الأرض، ورأيه فى نعيم الجنة، وفى الجحيم والعذاب، وفى معنى غض البصر، وفىالحد وتوبة السارق .. وأرجو أن يعيد الدكتور مصطفى طبع كتابه بعد تصحيح ما يحتاجلتصحيح منه .. حتى يكون خيرا كله ..
وغير الدكتور مصطفى محمود .. هناك بعض العلماء الذين اندفعوا وراء ما يشبه التصفيقالشعبى، فقدموا للناس أبحاثا عن القرآن والعلم، ينبهر لها بعض الذين لم يدرسواالقرآن ولا العلم، مع أنهم لم يسلموا من الزلل والشطط ..
وكان لهذا كله رد فعله عند الراسخين، والغيارى من العلماء، وكبار المثقفين،فأصبحوا ينفرون من أية دراسة عن القرآن والعلم .. وهكذا كان رد الفعل لهذاالانتشار غير الملتزم فى الحديث عن القرآن والعلم ..
ومع ذلك فهناك دراسات جادة مؤمنة من رجال وعلماء ثابتين، غيارى على دينهم وعلىالعلم، ملتزمين بنصوص القرآن، ولا يحملونها فوق طاقتها، بل يجلونها بما درسوهوعرفوه من حقائق علمية، ويقدمون للناس دراسة علمية دينية جادة، تفيدهم كثيرا فىاستجلاء بعض الآيات الكونية فى القرآن ..
وأذكر للقارئ واحدة من هذه الدراسات، وهى التى قام بها ونشرها فى مقالات .. العالمالكيميائى الورع، المرحوم الاستاذ محمد أحمد الغمراوى، وأعدها للنشر صديقه العالمالاستاذ أحمد عبد السلام الكردانى، ونشرتها دار الانسان ..
وقد كان هدف المرحوم الاستاذ الغمراوى أن يكشف فى بحوثه التى استندت على الحقائقالعلمية، معجزات القرآن العلمية، التى أشار إليها وقررها قبل إن تكتشف بعدة قرون.. وبذلك تتوالى المعجزات العلمية. وتظهر جديدة حينا بعد حين. كلما تقدم العلم،ولها أهميتها وأثرها فى إقناع العلماء جيلا بعد جيل، بأن القرآن من عند الله.
ويقرر الاستاذ الغمراوى كما يقرر الكثيرون أن الاسلام هو وحده- من بين الأديان-الذى احتضن العلم، ودعا إلى العب منه بشتى أنواعه، وتحاكم إلى العقل، وحث علىالنظر والتدبر فيما خلق الله فى كونه المنظور. ومما يفخر به

المسلمون أنقرآنهم بما أشار إليه أو ذكره من حقائق علمية .. تأتى حقائق العلم بعد ذلك بقرونفتؤكدها، ولا تجد تناقضا أبدا بين القرآن وبين الحقائق العلمية، كما
تجده فى غيره من الكتب السماوية التى ناقضت- فى بعض ما جاء فيها- ما أثبته العلم،واستعصت على التأويل، كما نصت التوراة على عمر للأرض محدود، لا يتجاوز بضعة آلافمن السنين، فى حين أن العلم اليقينى يقرر عمرها بالملايين، مما حمل بعض كتاب الغربوقسيسيه على أن يظنوا أن الدين عندهم قد خذ له الواقع، فلم يبق ما يستند إليه إلاالمعانى الشعرية والقيم الأخلاقية.

التوراة والإنجيل والقرآن والعلم
ولعل من المناسب ونحن نتحدث عن القرآن والعلم الحديث، وعما كتبه المسلمون فى هذهالناحية وقرروه من أنه لا يوجد تناقض بين مقرارات القرآن ومقرارات العلم، أقول:لعل من المناسب أن نذكر هنا دراسة قام بها عالم طبيب فرنسى مشهور هو «موريس بوكاى»عن العلم والكتب المقدسة الثلاثة:
التوراة والإنجيل والقرآن، ونشرت هذه الدراسة الدقيقة دار الكندى فى بيروت بعد أنترجمها نخبة من الدعاة بالعنوان المذكور، ثم قامت دار المعارف المصرية بترجمة هذهالدراسة ونشرها تحت عنوان: دراسة الكتب المقدسة فى ضوء المعارف الحديثة.
والترجمة البيروتية فى 217 صفحة والترجمة المصرية فى 288 صفحة من القطع نفسه ..
والكاتب لم يكن قد أسلم بعد حتى يتهم بالتحيز للاسلام، ولكنه كان مسيحيا، حين أقدمعلى هذه الدراسة، يدين للتوراة والإنجيل بالولاء، كما هو معروف عن المسيحيين ..ولكن- والحق يقال- كان موضوعيا جدا فى دراسته، محايدا بين الكتب الثلاثة، شأنالعالم الحقيقى، فخرج من نتيجة دراسته .. بإظهار الحقيقة التى تنطق بصدق القرآن،وأنه من عند الله حقا، وأنه لم يجد فيه رائحة تناقض مع مقررات العلم الحديث ..وإنما وجد فى غيره، ولذلك أسلم.
ويقول فى مقدّمته ص 12 فى طبعة دار المعارف:
«هذه التأملات حول الصفة المقبولة أو غير المقبولة علميا، لمقولة فى كتاب مقدس.تتطلب منا إيضاحا دقيقا، إذ علينا أن نؤكد أننا عند ما نتحدث هنا عن حقائق العلم،فإننا نعنى بها كل ما قد ثبت منها بشكل نهائى، وأن هذا الاعتبار يقضى باستبعاد كلنظريات الشرح والتبرير التى قد تفيد فى عصر ما لشرح ظاهرة، ولكنها قد تلقى بعد ذلكتاركة مكانها لنظريات أخرى أكثر

ملاءمة للتطورالعلمى، وإن ما أعنيه هنا .. هو تلك الأمور التى لا يمكن الرجوع عنها. والتى ثبتتبشكل كاف، ويمكن استخدامها دون خوف الوقوع فى مخاطرة الخطأ.
وبهذا حصن الكاتب العالم الفرنسى نفسه فى بحثه، ولم يترك ثغرة لأحد ينفذ منهالمهاجمته ..
ثم يقول الكاتب الباحث تعليقا على ما تقدم ..
«إننا نجهل مثلا التاريخ التقريبى لظهور الانسان على الأرض، غير أنه قد اكتشفتآثار أعمال إنسانية ترجع دونما ريب إلى ما قبل عشرة آلاف سنة قبل ميلاد المسيح ..(قيل إن العلم اكتشف أبعد من هذا موغلا فى القدم) دون أن يكون هناك مكان للشك ..فلا يجوز إذن اعتبار النص التوراتى لسفر التكوين كما لو كان صحيحا، إذ لا يمكنعلميا قبوله، إذ يذكر السلالات البشرية والتواريخ التى تحدد بداية الإنسان (خلقآدم) بأنها ترجع إلى سبعة وثلاثين قرنا- أى ثلاثة آلاف وسبعمائة سنة قبل المسيح لاعشرة آلاف) ولكنا نستطيع أن نكون واثقين بأننا لن نثبت أبدا أن الإنسان ظهر علىالأرض منذ 5736 سنة كما شاء التقويم العبرى سنة 1975. إن معطيات التوراة المتعلقةبالإنسان القديم- إذن- خاطئة وغير صحيحة» ..
والاستاذ الباحث يبنى حكمه بخطإ التوراة، على أساس علمى ثابت لا يمكن أن يتطرقإليه شك وهو فى هذا جد محتاط، فالعلم الحديث والحفريات قد تظهر لنا- أو أظهرتفعلا- أن عمر الإنسان على الأرض يرجع إلى ملايين من السنين بواسطة العثور علىجمجمة للإنسان فى كينيا، وبعد تحليلها علميا ثبت ذلك .. فكون التوراة تحدد عمرالإنسان بما حددته به- فى سفر التكوين- قد ظهر خطأ ذلك وتناقضه مع معطيات العلماليقينية ..
ويقول فى المقدمة أيضا:
«لقد قمت أولا بدراسة القرآن الكريم، وذلك دون أى فكر مسبق، وبموضوعية تامة، باحثاعن درجة التوافق بين نص القرآن ومعطيات العلم

الحديث. وكنتأعرف قبل هذه الدراسة، وعن طريق الترجمات .. أن القرآن يذكر أنواعا كثيرة منالظواهر الطبيعية، ولكن معرفتى كانت وجيزة، وبفضل الدراسة الواعية للنص العربىاستطعت أن أحقق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها .. أن القرآن لا يحتوى على أيةمقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم فى العصر الحديث.
وقد قمت بالتدقيق ذاته وبالفحص بموضوعية تامة للعهد القديم والأناجيل.
أما بالنسبة للعهد القديم .. فلم تكن هناك حاجة للذهاب إلى أبعد من الكتاب الأول-أى سفر التكوين- فقد وجدت مقولات لا يمكن التوفيق بينها وبين أكثر معطيات العلمالحديث رسوخا فى عصرنا ..
وأما بالنسبة للأناجيل .. فما نكاد نفتح الصفحة الأولى، حتى نجد أنفسنا دفعة واحدةفى مواجهة مشكلة خطيرة، ونعنى بها شجرة أنساب المسيح، وذلك أن نص إنجيل متى يناقضبشكل جلى إنجيل لوقا، وأن هذا الأخير يقدم لنا صراحة أمرا لا يتفق مع المعارفالحديثة الخاصة بقدم الإنسان على الأرض ويتناقض معها.
ثم يتكلم بعد هذا عن أثر هذا التناقض على الإيمان فيقول: لا يبدو لي أنها تستطيعأن تضعف الإيمان بالله .. ولا تقع المسئولية فيها إلا على البشر.
ولا يستطيع أحد أن يقول كيف كانت النصوص الأصلية؟ وما نصيب الهوى والخيال فى عمليةتحريرها؟ أو ما نصيب التحريف المقصود من قبل كتبة هذه النصوص؟، أو ما
نصيب التعديلات غير الواعية التى أدخلت على الكتب المقدسة (1)؟
إن ما يصدمنا حقا فى أيامنا هذه أن نرى المتخصصين فى دراسة النصوص يتجاهلون ذلكالتناقض والتعارض مع الحقائق العلمية الثابتة، أو يكشفون عن بعض نقاط الضعف،ليحاولوا بعد ذلك التستر عليها مستعينين فى ذلك ببهلوانيات جدلية.»
__________
(1) كل هذها لتساؤلات والتناقضات تثبت تلاعب الناس بالنصوص الأصلية وما سماهالقرآن بالتحريف»

ثم يتعجب منالقدرة الجدلية وغيرها على إخفاء هذه التناقضات على كثيرين من المسيحيين الذىيجهلون حتى الآن العيوب الكبيرة لعديد من مقاطع العهد القديم والإنجيل، مما تكفلهو ببيانه فى الجزءين الأول والثانى من الكتاب ..
ثم يقول: أما الجزء الثالث فسيجد فيه القارئ أمثلة توضيحية لتطبيق العلم على دراسةأحد الكتب المقدسة (يريد القرآن) وهو تطبيق لم يكن يتوقعه إنسان، كما سيجد القارئفى ذلك بيانا لما قد جاء به العلم الحديث الذى هو فى متناول كل يد، من أجل فهم أفضلوأكمل لبعض الآيات القرآنية، التى ظلت حتى الآن مستغلقة، أو غير مفهومة، ولا عجبفى هذا إذا عرفنا أن الإسلام قد اعتبر دائما أن الدين والعلم توأمان متلازمان،فمنذ البدء كانت العناية بالعلم جزءا لا يتجزأ من الواجبات التى أمر بها الاسلام،وأن تطبيق هذا هو الذى أدى إلى ذلك الازدهار العظيم للعلوم فى عصر الحضارةالاسلامية، تلك التى اقتات منها الغرب نفسه قبل عصر النهضة فى أوربا.
وإن التقدم الذى تم اليوم بفضل المعارف العلمية فى شرح بعض ما لم يكن مفهوما، أوفى شرح بعض ما قد أسىء تفسيره حتى الآن من آيات القرآن ليشكل قمة المواجهة بينالعلم والكتب المقدسة».
وانتهى المؤلف الفرنسى من مقدمته الموجزة التى نقلت لك فقرات منها، وكأنى أقدم لكبها رائحة شواء لذيذ يسيل لعابك لتتوفر على قضاء وقت ممتع على مائدة هذا الرجل،ومع هذا الكتاب .. فما تغنى مقدمة ولا فقرات منها عن الحقائق الصريحة التى قدمهاهذا العالم المسيحى عن الكتب المقدسة، والتى خرج منها بحقيقة عن القرآن يعتز بهاكل مسلم، ويقدرها ويحترمها كل إنسان عاقل ..
ونصل بهذا الموضوع إلى نهايته مكتفين بما قدمناه منه لننتقل إلى موضوعات أخرىباقية لا بد من الإلمام بها ..

علوم القرآن أو أصول التفسير
ومن هذه الموضوعات التى أرى ضرورة عرضها هنا هو ما سمى بعلوم القرآن وأصولالتفسير. وهو علم نشأ من اشتغال العلماء بتفسير القرآن، إذ لا يمكن الإقدام علىالتفسير إلا بعد الإلمام بموضوعاته، كالوحى، ونزول القرآن ومتى وكيف نزل. وأول مانزل وآخر ما نزل، والمكى والمدنى، وأسباب النزول.
والمحكم والمتشابه ونزول القرآن على سبعة أحرف، والعام والخاص، والناسخ والمنسوخإلى غير ذلك مما يعد أساسا للتعرض لتفسير القرآن ولذلك سماه بعض العلماء المؤلفين«بأصول التفسير .. »
وقد وفاه المؤلفون من العلماء القدامى. حقه، وكتبوا فيه كتبا مطولة ومختصرة منقديم «كالبرهان» للزركشى «والاتقان» للسيوطى، كما كتب المحدثون لطلابهم فىالدراسات العليا كتبا مناسبة للدراسة ..
غير أن هذا العلم ظل قاصرا على العلماء والدارسين فى قاعات الدرس، ليس لدىالمثقفين عامة أى إلمام به .. مع ضرورة هذا لكل مسلم متعلم.
ومن أجل ذلك عنيت بهذه الناحية، وعملت على صياغة هذه الموضوعات، وتقديمها لعامةالمثقفين، وللدارسين أيضا بأسلوب سهل سلس. يجذب القارئ ويشده إليه، ويعطيهالمعلومات الكافية فى موضوعه، وسميته أيضا «علوم القرآن» وصدرت طبعته الأولى فىسنة 1979 م- 1399 هـ بمناسبة قدوم القرن الخامس عشر الهجرى، أصدرته دار الكتاباللبنانى المصرى بالقاهرة، وأعيد طبعه مع تنقيحات وزيادات ..

[تجريد التفاسير القديمة]
ونظرا لأن حاجة العصر الآن، تقتضى السرعة والتخفيف على القارئ.
وتقديم وجبة دسمة له فى أصغر حجم ممكن، فقد تاقت نفوس القراء إلى اختصار الكتبالمطولة، وتجريدها مما لا يحتاجون إليه، ومما علق به مما يسيء

تغذيتهم،وتجريد الأحاديث الصحيحة من العنعنات الكثيرة فى إسنادها وروايتها والاكتفاء بمتنالحديث والإشارة إلى موضعه ..
نظرا لهذا اتجهت عناية بعض العلماء إلى تحقيق هذا الغرض للقراء، وقاموا فعلابتجريد بعض الكتب المطولة، إلا أن ذلك لا يزال فى دائرة ضيقة ..
وقد رأى مجمع البحوث بدلا من تجريد هذه الكتب أن يقدم «التفسير الوسيط» الذى أشرناإليه من قبل.
كما عنى بموضوع الإسرائيليات والروايات التى لا أصل لها لحماية قراء هذه الكتبالمطولة من ضررها .. وذلك بمراجعة هذه الكتب، وتقييد ما يمكن حذفه منها وحمايةالعقول من غثها ..
وكان أمامه لذلك طريقان:
الأول. وضع كتب مستقلة عن التفاسير تبين هذه الاسرائيليات والروايات التى لا أصللها .. كما فعل المرحوم الشهيد الدكتور الشيخ الذهبى فى كتابه «الاسرائيليات فى
القرآن» وكما فعل الدكتور الشيخ محمد أبو شهبه فى كتابه عن الاسرائيليات، ولوأنهما لم يستوعبا كل الاسرائيليات فى تفسير سور القرآن ..
وقد اختارت لجنة الدراسات القرآنية هذا الطريق، ورأت أن تستحث العلماء للمشاركة فىهذا المشروع العظيم، كما اتصلت بالمسئولين فى كلية أصول الدين وقسم التفسير بهاليوجهوا طلاب الدراسات العليا للاهتمام بهذه الناحية فى رسالاتهم للماجستيروالدكتوراة .. لنخرج فى نهاية الأمر بما يمكن أن يكون حصرا وتجنيبا لما لا نريدهفى كتب التفسير والتنبيه إليه ..
الطريق الثانى: أن يدون هذا على هامش التفسير، حين إعادة طبعه، حتى يكون أمامالقارئ وهو يقرأ، حتى لا يكون فى حاجة للرجوع إلى كتاب آخر قد لا يسعفه .. ويصدرحظر على إعادة طبع هذه الكتب بدون هذا التصحيح ..

وكان رأيى

أن تجرد هذه الكتب من كل هذا الغذاء الفكرى السام، ويعاد طبعها بدونه، حتى لايتسرب للأفكار شىء من هذه السموم، والوقاية بهذا وإبعاد

المواد السامةوالحارقة، خير من وجودها وتحذير الناس منها .. وقد لا يتنبهون، وقد لا يحذرون،فالوقاية خير من العلاج ..
أما هذه الكتب بطبعاتها الموجودة الآن، فتظل فى المكتبات العامة للخواص الدارسين،ولن يحتاجوا إليها، إلا إذا أرادوا الاطلاع على هذه المواد الفاسدة المفسدة ..
ولا يصح أبدا التأثر بكلمة: التراث .. التراث .. وضرورة الإبقاء عليه، فإننا فىغنى عن هذا الذى ورثناه فى الكتب من مواد فكرية سامة، ولا يصح أبدا أن تسمى تراثانتعلق به ونحافظ عليه .. بل الأولى بنا أن نتخلص منه، ونحمى أجيالنا من التأثر به،أو من التلوث منه. كما نحمى الانسان من آثار التلوث بأشكاله وأنواعه ..
كان هذا رأيى، وإن كان الرأى الأخير دائما للأغلبية .. وللزمن حكمه الأخير ..

ترجمة القرآن أو تفسيره باللغات غير العربية
حين نقول: ترجمة القرآن، فإننا نعنى ترجمة معانيه، وذكر المعنى الذى تدل عليهألفاظه العربية بلغة غير عربية، ولذلك قلنا أو تفسيره بلغة أجنبية، لأن الذىسيترجم هو المعنى، إذ الترجمة اللفظية من أية لغة إلى لغة أخرى غير ممكنة فى الكتبالعادية، فما بالك بالقرآن الصورة العليا فى البلاغة؟ ..
ونحن العرب قد لا نشعر بضرورة هذه الترجمة لأننا نقرأ القرآن ونقرأ تفسيره بلغةعربية ..
أما غير العرب فيحسون الحاجة الشديدة إلى هذه الترجمة ليفهموا القرآن، ويعتبروابه، ويحيطوا علما بما قدمه من معارف شتى فى الأمور الدنيوية والأخروية، والعلميةالخ ..
لأنهم حتى إن طوعوا ألسنتهم لقراءته بالعربية، فهم كالشريط، ينطقون به، ولا يعرفونأى معنى لما ينطقون، لذلك كان من الواجب إسلاميا إيصال معانيه إليهم باللغة التىيفهمونها، إذ لا يمكن إجبار كل مسلم ولو كان فى الحقول والأودية، والكفوروالبادية، أن يتعلم العربية، ويترك لغته أو يحتفظ بها ..
وقد دخل الاسلام بلادا غير عربية كثيرة فى إفريقيا وآسيا وأوربا قديما، ومع ذلك لميمكن تحويل كل الذين دخلوا فى الاسلام من لغتهم الأصلية إلى اللغة، العربية لتكونلغة التخاطب والقراءة والكتابة .. وظلوا أو ظلت الكثرة الساحقة منهم على لغتهم، لايعرفون العربية نطقا ولا فهما، وهؤلاء فى شديد الحاجة لكى يعرفوا دينهم وقرآنهم عنطريق لغتهم.
كيف يتم ذلك دون أن نترجم القرآن إلى لغتهم وكذلك كل ما يتصل بفهمهم لدينهم؟
ولقد لمست هذا على أرضية الواقع أيضا، حين كنت مدرسا للعربية فى إحدى الجامعاتالدينية فى الهند لأكثر من سنتين، وزرت كثيرا من معاهدها

وجامعاتهاالدينية. ووجدت علماء يعرفون العربية قراءة وفهما من أمهات الكتب العربية، ولكنهمحين يشرحون لطلابهم أو لسامعيهم من عامة المسلمين لا يستطيعون نطق جملة كاملةباللغة العربية قبل أن يقضوا وقتا فى صياغتها صياغة ركيكة.، فكانت الضرورة تقضىبأن يشرحوا لهم بلغتهم ويذكرون لهم معانى القرآن مترجمة بلغتهم ..
والإمام أبو حنيفة رضى الله عنه- وأصله فارسى- كان أكثر الأئمة لمسا لهذه الحقيقةأو قربا منها، ولذلك وجدناه يلبى هذه الحاجة، حينما رأى أن للمصلى أن يقرأ معنىالفاتحة باللغة الفارسية حين يعجز عن قراءتها بالعربية، بينما الأئمة الآخرون لميلمسوا مثله هذه الحالة فمنعوا أن يصلى بغير العربية مهما يكن الأمر ..
ونحن العرب لا نحس الحاجة إلى الترجمة كما يحسها غير العرب .. لذلك تأخرنا كثيراجدا فى النظر إلى الترجمة، حتى إذا أثارها الإمام الشيخ المراغى عليه رحمة اللهودعا إلى ضرورتها ثار عليه كثير من العلماء والمفكرين، وكانت معركة فكرية حامية،امتدت مرة إلى معركة بالكراسى فى قاعة الشبان المسلمين من أنصار المراغى ضد أحدمعارضيه وشاهدت هذه المعركة وأنا طالب فى الكلية فى أواخر الثلاثينات .. حتى وجدناأحد أعضاء المحكمة الشرعية العليا يصدر كتابا يجعل عنوانه «حدث الأحداث فى الاسلامالاقدام على ترجمة القرآن» وطبعا كان الرد على المنكرين باستمرار مما شغل الرأىالعام والدولة فى أيامها ..
وكان الجدل دائرا حول الممكن وهو ترجمة المعانى، لا ترجمة الألفاظ التى لا يختلفأحد على عدم إمكانها، لا فى القرآن ولا فى غيره ..

فى الهند

حدث هذا عندنا فى النصف الأول للقرن العشرين، بينما نجد أن هذه الترجمة قد استقرعلى الحكم بجوازها، بل بضرورتها جميع علماء الهند من قرون مضت ..
ترجم أولا للغة الفارسية، وقام بالترجمة حجة الإسلام هناك شاه ولى الله الدهلوىرأس مدرسة الحديث والمتوفى سنة 1176 هـ- 1762 م .. وهو

صاحب كتاب«حجة الله البالغة» الذى يعرفه العلماء هنا ويعتمدون عليه ..
ثم قام ابنه ووارث علمه وطريقته، العالم المحقق، مولانا عبد القادر الدهلوىالمتوفى سنة 1230 هـ- 1814 م بترجمته إلى اللغة الأوردية- اللغة الحديثة فى الهندلدى المسلمين، واعتبروا ذلك أنه «كان من أعظم ما من الله به سبحانه عليه». وكانتأول ترجمة للأوردية ..
ثم تتابعت الترجمات بعد ذلك إلى لغات الهند المتعددة، كل عالم كبير يجعل من فخرهوقرباته عند الله، أن يقوم بترجمة إلى لغته. ليستطيع المسلمون فى المنطقة تذوقمعنى القرآن ..
حتى جاء مولانا محمود الحسن شيخ الهند، وكبير العلماء المجاهدين، «وأسير مالطا»كما يلقبونه أيضا أثناء الحرب العالمية الأولى .. والمتوفى سنة 1339 هـ- 1920 م،حيث عكف فى معتقله فى «مالطا، على كتابة ترجمة سهلة باللغة الأوردية، بعد أن صارتالترجمة الأولى معقدة، بلغة أوردية قديمة، وقد تطورت بعدها اللغة تطورا كبيرا،وأتم ترجمته فى معتقله كأعظم عمل يتقرب به إلى الله ..
وطبع الترجمة هناك غالبا أن يكتبوا تحت كل سطر من القرآن، ترجمته بالأوردية،فيستطيع القارئ سريعا الإلمام بمعنى ما يقرؤه ..
ثم جاء مولانا أزاد، وكان ذا لغة أوردية فصيحة قشيبة، وعلى طريقته فى التفسير التىأشرنا إليها من قبل، قام بترجمة القرآن ترجمة سهلة بليغة، متقربا بها إلى الله ..وذلك فيما سماه «ترجمان القرآن» وعند طبعه كتب القرآن بترقيم الآيات أعلى الصفحة،وكتب ترجمة بالترقيم تحت ذلك ..
وكذلك كانت الترجمة فى بلاد اسلامية، متعددة لها ظروف المسلمين فى الهند. كأمروواجب دينى يقوم به العلماء الكبار .. ومعنى ذلك ومؤداه أن ما كنا نتجادل ونتعاركفيه هنا، حول ترجمة القرآن، كانت أمم اسلامية قد فرغت منه قبلنا بقرون واعتبرتهضرورة أو بديهة .. وعاشت وتعيش عليه فى فهمها للقرآن ..

ومن أجل هذابرز فى الهند وباكستان مترجمون كثيرون مقتدرون، ترجموا القرآن إلى لغاتهم وإلىاللغة الانجليزية أيضا، وكان منها أحسن الترجمات التى يمكن الأخذ بها.
وأشهر هذه الترجمات فى الوسط العربى ترجمة مولانا عبد الله يوسف على، التى طبعتها-مرارا- السعودية وليبيا. وكذلك ترجمة «مارمادوك بكتال» التى طبعتها دار الكتاباللبنانى المصرى بالقاهرة بإذن من الأزهر .. على ورق خفيف ممتاز، ولذلك جاء فى حجمالمصحف العادى، ونظامه أن تكتب الآيات فى الصفحة اليمنى، والترجمة فى الصفحةاليسرى.
وكذلك قامت بطبع ترجمة فرنسية معتمدة من بعض كبار العلماء فى تونس ولبنان ومن دارالإفتاء فى لبنان ..

فى أوربا وأمريكا

أما فى الغرب فلم ينتظر أحد هناك رأيا إسلاميا فى جواز الترجمة، ولذلك ترجم هناكبلغات متعددة من قرون سابقة، وقام بترجمته بعض المستشرقين.
منذ بدأ الاستشراق، وأحسوا حاجة لمعرفة القرآن، وقد انتشرت هذه الترجمات هناك دونحسيب أو رقيب عليها .. وقدمت لقراء الانجليزية والفرنسية والألمانية وغيرها مناللغات ترجمة للقرآن، كان من الطبيعى أن يعتمدوا عليها فى فهم القرآن والاسلام ..مع ما بها من اخطاء ..
ولو أن المسلمين من قديم تفتحت عقولهم واتجهت هممهم للترجمة للغات الأجنبية فىالغرب أو الشرق كوسيلة فعالة قوية فى التعريف بالاسلام، والدعوة إليه .. لما ظهرتهذه الترجمات الكثيرة التى قام بها علماء غير مسلمين، لا يتذوقون معنى القرآن، ولايحرصون عليه ..
إن ما يدعو إلى العجب والأسى الشديد معا، ألا يقوم عربى مسلم على مدى هذه القرونبترجمة صحيحة للقرآن، يأتمنها المسلمون العرب على دينهم وكتابهم. وإن كانت هناكمحاولات لذلك. ولكنها حتى الآن لم تظهر، ومنها محاولة قام بها أخونا الدكتور عبدالمنعم الجمال. ولا تزال هذه الترجمة حبيسة مكتبته، برغم محاولاته فى إخراجها لحيزالوجود ..

وإذا كانتالحاجة- كما يقولون- أم الاختراع، فقد كانت حاجة المسلمين فى البلاد غير العربية،هى التى دفعت العلماء للتفكير فيها، والقيام بها، كواجب دينى أساسى ..
على عكس الحال عندنا، فقد عشنا فى البلاد العربية، لا نحس هذه الحاجة، ولذلك حينظهرت الدعوة إلى الترجمة قام علماء يعارضونها باسم الدين!! وذلك من نحو أربعين سنة..
ولا أستطيع الآن ولا قبل الآن، أن أصل إلى أعماق قلوب المعارضين ونياتهم. وكانمنهم كبار العلماء، ولكن الذى طرحته وقتها- على صغر سنى- ولا ازال أطرحه .. هوغفلة هؤلاء- ولا أقول سوء نيتهم ورغبتهم فى معارضة الشيخ المراغى صاحب المشروع-غفلتهم- عن واجبنا فى الدعوة إلى الاسلام، وتعريف غيرنا ما جاء به القرآن كوثيقةإلهية يمكن أن نعتمد عليها، ويعتمدوا عليها كذلك فى فهم الإسلام.
كيف كانوا يتصورون الطريقة المثلى لإبلاغ دعوة الاسلام إلى غير المسلمين؟
قد يقال: بواسطة كتب تشرح هذه الدعوة.
لكن مما لا شك فيه أن تقديم ترجمة للقرآن- وهو الوثيقة الالهية- تعتبر أبلغ وأقوىوسيلة مباشرة للدعوة للاسلام، وبيان أهدافه ومراميه، عن طريق كلام الله لا عن
طريق كلام من البشر ..
ولعل مما يثير العجب والدهشة والحيرة أكثر وأكثر أننا حتى الآن- وفى المقدمةالأزهر- لم نعن بطبع ترجمة نعتمدها، ونقدمها للناس شرقا وغربا ليعرفوا عن طريقهاالاسلام.
وحين يأتى زوار لنا من مسلمين لا يعرفون العربية أو غير مسلمين، ويطلبون منا ترجمةللقرآن، لا نستطيع أن نلبى طلبهم، ونقف عاجزين، والخجل يستولى علينا .. مع أنناننفق الكثير والكثير فى طبع كتب عربية، هناك فى المكتبة العربية ما يسد مسدها ..

مشروعى فى الأوقاف
ولذلك عند ما أسندت إلى وزارة الأوقاف فى فبراير سنة 1979، اتجهت عنايتى لسد هذاالنقص، وساعدنى على هذا الكثيرون من الوزراء ومديرى البنوك والشركات، واستجابوالما طلبته منهم من تبرع، حتى تجمع لدى نحو ربع مليون جنيه. لهذا المشروع ..
وفاتحت فيه الرئيس السادات عليه رحمة الله، والرئيس الحالى- حين كان نائبا للرئيس-فشجعا المشروع، وسرت فيه، وجهزت الترجمة التى سنطبعها وهى الترجمة التى طبعتهاالسعودية وليبيا- ترجمة عبد الله يوسف على- وبدأت فى عمل مناقصة لطبعها، بين الدورالتى تستطيع القيام بالطباعة، ووضعت شروطها، وتمت أول جلسة، لكن لم يكتمل فيهاحضور الذين تقدموا وأظهروا رغبتهم فى الاشتراك، فأجلناها لجلسة قادمة ..
وكنت أنوى طبع كميات كبيرة منه، تتيح لى بجوار توزيعه هوايا على نطاق واسع أن أضعفى كل حجرة من حجرات الفنادق الكبرى، التى ينزل فيها الأجانب، نسخة من الترجمة-وأظهرت وزارة السياحة الاستعداد فى الاشتراك فى 40 ألف نسخة للفنادق، وبعد اتمامطبع الترجمة الانجليزية، أشرع فى طبع الترجمة الفرنسية.
ولكن قبل أن يحين موعد الجلسة القادمة لدور الطبع خرجت من الوزارة فى 15 مايو 1980ونام المشروع حتى الآن أواخر 1984 أوكاد، وأرجو أن يبعثه الله على يد من يخصهبالخير من عباده .. لتؤدى مصر جانبا مهما من رسالتها نحو الإسلام، وهى السباقةدائما فى هذا الميدان ..
والله الموفق
وصلى الله وسلم على سيدنا صاحب الرسالة وعلى آله وأصحابه ومن سار على هداه





ugl hgjtsdv ;dt kaH ,j',v ugl hgjtsdv ;dt kaH ,j',v