بتصرف من كتاب الفكر الاسلامي لبسام جرار
اصبحت الصحوة الحضارية الإسلاميّة حقيقة ملموسة اليوم ، لا نقول في العالم الإسلامي فقط، بل في كل مكان يوجد فيه تجمّعات للمسلمين. في مقابل ذلك نجد اهتماماً متزايداً من قبل غير المسلمين للتعرف على حقيقة الإسلام. وتولّد عن هذا كله صور كثيرة للحوار مع الثقافات والحضارات الأخرى.
وكان لا بد من التأثير المتبادل، وإن كانت الغلبة في التأثير تكون دائماً للحضارة الأقوى والأعرق. وهذا يعني أنّ فرصة الحضارة الإسلاميّة اليوم هي أفضل من الأمس، نظراً لما تتمتع به الحضارة الإسلاميّة من قوة وحيويّة.
نعلم أنّ هذا القول سيلتبس على البعض، لأنّ الحضارة الغربيّة تبدو في نظر الكثيرين الأقوى بما تمتلكه من علم ومال وتكنولوجيا.
مفهوم الحضارة
لذا كان لا بد من إلقاء الضوء على مفهوم الحضارة وركنها الأساسي، أي الثقافة، والتي هي سر القوة أو الضعف في أية حضارة.
الفيزياء والكيمياء والصيدلة... علوم موضوعها الواقع المادي. وهي علوم تتسم بالموضوعيّة إلى حد كبير، فهي غير متأثرة بوجهات النظر الخاصة للعلماء، ولا تختلف باختلاف عقائدهم ومذاهبهم. ويندر أن نلمس أثراً لأية عقيدة من العقائد في هذه العلوم، وعلى وجه الخصوص في المعطيات العلميّة التي هي حقائق. فعلم الرياضيات، مثلاً، أبعد ما يكون عن التأثر بعقائد وفلسفات الرياضيين، وذلك لأنّ عالم الرياضيّات هو عالم الحقائق، وعند الحقيقة تحيّد الثقافة وتحل الموضوعيّة مكان الذاتيّة. شتان بين واقع علم الفيزياء قبل ألف سنة، وبين واقعه اليوم. فاتساع مساحات الحقيقة في معطيات هذا العلم يجعله غير متأثر بعقائد ومذاهب وخصوصيات الفيزيائيين. ويصدق هذا القول على علم الكيمياء أكثر مما يصدق على علم الفلك، لأنّ مساحات الحقيقة في علم الكيمياء أكبر منها في علم الفلك.
على الرُّغم من أنّ كل معرفة هي علم، إلا أنّ اصطلاح علم يغلب أن ُيطلق اليوم على علوم كالفيزياء والكيمياء والأحياء.. وغيرها من العلوم التي موضوعها المادة وبالتالي فهي عالميّة لا تخص حضارة بعينها، مما يجعلها تنتقل من أمة إلى أخرى من غير تحفّظ أو حساسيّة تجاهها.
والملاحظ أنّ هذه العلوم لم تكن يوماً سبباً في اختلاف الأمم وصراعاتها وتحزبها وتحالفاتها، فالاختلاف في معطياتها لا يؤدّي إلى تنازع وأحقاد، ومن السهل أن يلتقي الناس في التصديق بحقائقها لأنّها حقائق، على النقيض تماماً من العلوم الإنسانيّة، التي يغلب أن تنتمي معطياتها إلى عالم الفرضيّات أو النظريّات.
لو بحثنا عن أسباب نشأة الأحلاف، كحلف الأطلسي وحلف وارسو السابق، مثلاً، لوجدنا أنّ الخلاف كان في أساسه عقدي ومذهبي، فهو اختلاف حول مفاهيم مثل مفهوم العدالة ومفهوم المساواة ومفهوم الحرية ... ولم يكن الاختلاف حول قانون فيزيائي، أو معادلة كيميائيّة، أو وصفة طبية ... بل إنّ بعض معطيات العلم تُعتبر أسراراً وقد تباع بأثمان باهظة، على خلاف المفاهيم الثقافيّة والحضاريّة التي يبذل من أجل ترويجها وتصديرها إلى الآخرين الشيء الكثير.
قلنا بأنّ العلوم الإنسانيّة تتأثر معطياتها بشكل كبير بعقائد العلماء ومذاهبهم وتراثهم ... ومن هنا فهي علوم لا تتسم بالموضوعيّة وبالتالي لا يسهل التقاء الناس حول مفاهيمها، ويؤدّي الاختلاف فيها إلى تنازع وتنافر وصراع. ويرجع ذلك إلى موضوع هذه العلوم، فهي قضايا مجردة ومعنويّة بعيدة عن المحسوس. من هنا فهي تتسم بالخصوصيّة، وسيبقى الأمر كذلك إلى أن تصبح نظرياتها حقائق، وهذا أمر يبدو، حتى الآن، بعيد المنال.
هذه العلوم النظرية التي تتأثر بوجهات النظر وتختلف باختلاف العقائد والفلسفات تسمى ثقافة. وأساس ثقافة كل أمة هو الجانب العقائدي والفلسفي. ويدخل في مفهوم الثقافة أيضاً كل ما أنتجه الإنسان في عالم المحسوس وكان في انتاجه ذلك متأثراً بفلسفة الأمة.
الحضارة والمدنيّة:
يمكن أن نُعرّف الحضارة تعريفاً مبسطاً بقولنا: الحضارة هي كل ما أنتجه الإنسان في عالم الفكر والمادة. ونقصد بالفكر العلم والثقافة، كالفيزياء والكيمياء والآداب وعلم التربية... ونقصد بالمادة الجانب المحسوس من الحضارة، أي ما يسمى بالمدنيّة، كالبيت والمصنع والثوب ... فالمدنيّة هي كل ما أنتجه الإنسان في عالم المادة. وإذا كانت المدنيّة متأثّرة بالثقافة تكون عندها مدنيّة خاصّة وتلحق بعالم الثقافة، وإلا فهي مدنيّة عامّة. من هنا تُعتبر الفنون وأنماط البناء والأزياء من الثقافة، فصناعة القماش، مثلاً، مدنية عامّة تقوم على أساس العلم العام، ولكن عندما يتحول هذا القماش إلى زي فإنّه يُصبح مدنيّة خاصّة، لأنّه يتأثر بوجهة النظر الخاصّة، أي بالثقافة. من هنا ندرك أنّ الأزياء ليست مجرد شكل، بل هي في جوهرها تُعبّر عن الثقافة التي تختبئ من وراء الشكل. لذلك نجد أنّ الإسلام ينهى عن التشبّه بأهل الفكر المنحرف حتى في أزيائهم. ويمكننا، على ضوء ما سلف، أن نقول بأنّ الزي الإسلامي هو الزي الذي ينبثق عن الثقافة الإسلاميّة، وبالتالي ينسجم مع قيم الإسلام ومبادئه. وعليه فإن شروط الزي الإسلامي يمكن أن تنطبق على آلاف الأزياء التي قد تختلف من شعب إلى أخر. وما يقال في الزي يقال أيضاً في أنماط البناء، فليس النمط الإسلامي في البناء هو ما كان أقواساً وقباباً، بل هو كل نمط يراعي قيم الإسلام ومبادئه، وينبثق عن الثقافة الإسلاميّة. وما قلناه في الزي ونمط البناء نقوله في الفنون، فالفن الذي ينضبط بضوابط الشريعة الإسلاميّة ويراعي القيم الإسلاميّة يعتبر فناً إسلامياً، وكذلك الأمر في الأدب والشعر.
من يتجول في شوارع روما القديمة، مثلاً، ويتأمل تماثيل القديسين والعظماء، التي تنتشر في الشوارع والساحات، يدرك بأنّ الحضارة التي أنجبت هذه المدينّة هي حضارة ذات جذور وثنيّة تقدّس الصنم وتُعلي من قيمة الوثن. والمتأمل لهذه التماثيل يدرك أيضاً بأنّ هذه الحضارة تُقدّم القيم الجماليّة على القيم الأخلاقيّة. أما من يسير في شوارع القدس القديمة، وساحات المسجد الأقصى المبارك، فإنّه لا بد أن يلاحظ أنّ الحضارة الإسلاميّة هي حضارة مُوَحِّدة، تُعلي من شأن الفكرة وتحط من قيمة الوثن. ويَلحظ أنها تُقدّم القيم الأخلاقيّة على القيم الجماليّة، ويلحظ ذلك بشكل أوضح في عالم الأزياء وعالم الفنون والآداب.
الثقافة إذن هي التي تعطي كل حضارة طعمها الخاص وبالتالي خصوصيتها. وهي أساس الالتقاء والاختلاف بين الحضارات والأمم.
وعليه فيمكننا كمسلمين أن ننهل من معين العلم من كافة مصادره وموارده، أما في عالم الثقافة فلدينا ثقافة متميزة ومتفوقة على غيرها من الثقافات المعاصرة، أساسها التوحيد. وهي تُعلي من قيمة الفكرة وتنبذ الصنميّة والوثنيّة، وتُقدّم القيم الأخلاقيّة ولا تتنكر للقيم الجماليّة، بل تسمو بها. وهي ثقافة متوازنة ومتناسقة، إنسانيّة الأهداف والوسائل، تعلي من قيمة الإنسان، عالميّة الأهداف أخلاقيّة الوسائل.
و في المقابل فإنّ قوة الحضارة الغربيّة المعاصرة تكمن في الجانب العلمي والتكنولوجي، في حين يتجلّى ضعفها في الجانب الثقافي وفي حضارتها التي تتدلى بالإنسان. وإنّ في انهيار الماركسيّة لمثل واضح على أنّ ثقافة الإنسان وقيمه ومبادئه هي الأساس في نهضة الحضارات أو تراجعها. في المقابل نجد أنّ الضعف في مجتمعاتنا العربيّة والإسلاميّة يكمن في الجانب العلمي والتكنولوجي الذي يسهل تداركه، ويساعدنا في ذلك عناصر القوة الكامنة في ثقافتنا المتفوقة ومبادئنا السامية.
هل استطاعت الثقافة الفرنسيّة الهشة والآثمة أن تصمد أمام الطهر المتمثل في قلّة من الفتيات المسلمات المعتزات بحضارتهن الإسلاميّة الأنيقة. إنّ الفتاة المسلمة التي تجلس على مقاعد الدراسة بجانب الفتاة الفرنسيّة وتنهل من معين العلم من غير تحفُّظ، هي نفسها التي تعلن بسلوكها وزيها بأنّ الحضارة الغربيّة لا تليق بالإنسان، فهي تنحطّ به في دركات الحيوانيّة والشهوانيّة، وتجعل من العبثيّة فلسفة له ومنهجاً وسلوكاً. هذه الفتاة المعتزة بحضارتها الإسلاميّة جعلت مراكز الرصد الفرنسيّة تُستنفر وتقرع أجراس الخطر، لإدراكها بأنّ الحضارة الأقوى هي التي ستسود في النهاية. وقد قادها شعورها بالخطر وهشاشة قيمها إلى التنكّر للحرية التي هي من أهم مقدّساتها. ومن المفارقات أن نجد ذلك يحدث في البلد الذي تغنّى طويلاً بقيم الحريّة والإخاء والمساواة، بل إنّه البلد الأوروبي الأول الذي رفع شعار الحرية بعد انتصار ما يسمّى بالثورة الفرنسيّة. إنّ الجيوش الهمجيّة التي انتصرت على المسلمين في معركة بواتيه (بلاط الشهداء)، وحالت دون وصول رحمة الإسلام إلى الشعوب الأوروبيّة، هي نفسها التي تقف اليوم لتصد الشعوب الغربيّة عن معرفة الحق والحقيقة. ولكن المعركة اليوم تختلف في وسائلها ولم تعد تدور على الحدود المصطنعة بين البشر، بل هي تدور في عقر دار الاستعمار المتغطرس، وتدور في عواصم مثل لندن وباريس وواشنطن. وفي النهاية ستكون الغلبة للحضارة الأقوى، ولا داعي للخوف، لأنّ مثل هذا الانتصار هو في مصلحة الجميع.
1. الحضارة- الثقافة- المدنية، نصرت محمد عارف، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط2، 1994م
2. لمحات في الثقافة الإسلامية، عمر عودة الخطيب، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط2، 1975م
3. الثقافة الإسلامية، عزمي طه السيد وزملاؤه، دار المناهج، عمان، ط1، 1996م
4. ثقافة المسلم بين الأصالة والتحديات، موسى إبراهيم، دار عمار، عمان، ط1، 1998م
sv r,m hgpqhvm hgYsghldm sv r,m hgpqhvm hgYsghldm
مواقع النشر (المفضلة)