مساهمة الجعليين في نهضة السودان الحديثة
وفي سياق هذه اللمحات التاريخية نذكر أسماء قليل من كثير من أفذاذ الجعليين الذين ساهموا في كل المجالات السياسية والأدبية والعلمية والاجتماعية في تاريخ السودان الحديث. ولنبدأ برجال العلم والدين والقضاء في السودان فنذكر منهم الشيخ أبو القاسم هاشم الذي أسس المعهد العلمي بأم درمان عام 1912 والشيخ أحمد الطيب هاشم أول رئيس للقضاء الشرعي في السودان والشيخ محمد خير الدوش الذي كان يفتي على المذاهب الأربعة. ومن الجعليين العمراب، من سلالة الشيخ حامد أبو عصا، القاضي الدرديري محمد عثمان الذي كان أول قاضٍ سوداني في المحكمة العليا ــ 1952، وعضو أول مجلس سيادة للسودان المستقل، وقد تم انتخابه لذلك المنصب بإجماع البرلمان، وهو حفيد حاج خالد كروم أكبر أمراء المهدية، وابن أخي خلف الله حاج خالد أول وزير دفاع بعد الاستقلال، وكان جده حاج خالد أول المناصرين للمهدي والباذلين أنفسهم في سبيل الله والوطن، وكان أكثر التجار ثراء في الأبيض حين استسلمت المدينة للإمام المهدي، وبذل كثيراً من العطاء في نصرة الثورة المهدية حتى كان المهدي يكنيه بعثمان بن عفان تشبهاً به في الإنفاق على جيوش المسلمين مثل ما كان من عثمان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وكان والده محمد عثمان حاج خالد أحد زعماء الحركة المهدية وأمرائها وسياسييها العاملين. والمجال لا يتسع هنا لذكر مآثر الدرديري محمد عثمان ومواقفه العظيمة التي نادراً ما تجتمع في رجل واحد. والتي منها، كما يذكر الدرديري نفسه في مذكراته، مشاركته في الوساطة بين اللواء محمد نجيب وجمال عبد الناصر في أزمة مارس 1954م، ودوره في اللقاء الشهير بين السيد علي الميرغني والسيد عبد الرحمن المهدي، وكانت السياسة البريطانية تعتمد آنذاك في بقاء الحكم الاستعماري في السودان على التناقضات وفي مقدمتها الخلاف التقليدي بين طائفتي الختمية والأنصار وبين زعيمي هاتين الطائفتين. وعندما خرج البريطانيون كانوا يظنون أنهم وضعوا قنبلة زمنية سرعان ما تنفجر «كما وضعوا مثل تلك القنابل قبل مغادرتهم في كثير من المستعمرات» بسبب ذلك الخلاف الطائفي الذي كانوا يعتقدون أنه عميق الجذور، وقد جاء في مذكرات الدرديري «ومن هنا استطعت في الساعة المناسبة أن أنجح في تقريب الشقة بين السيدين ووفقني الله أن أجمع بينهما في ذلك اللقاء التاريخي العظيم الذي غير إلى حد كبير من مجرى الحوادث في السودان ووجهها وجهة لم تكن في حسبان أكثر المراقبين دقة، حتى قال بعض الساسة الإنجليز الذين كانوا بالسودان: «لقد تحققت إحدى المعجزات بالسودان بالتقاء السيدين».
ومن مواقف الدرديري الشهيرة ما رواه في مذكراته «أن الشيخ محمد محمد الأمين ترك «ناظر عموم الهدندوة فيما بعد» جاءني في حالة اضطراب وقد لاحظت على جبهته ضربة يسيل منها الدم تدل على أنه قد اعْتُدِىَ عليه وقال «إن المستر هوبلز ضربني» فأرسلت لمستر هوبلز ورقة حضور كالإجراء المتبع في مثل هذه الحالات، وقد رفض هوبلز بحجة أنه مشغول وعندئذ أرسلت جنديين من البوليس للمجيء به وإذا رفض عليهما استعمال القوة معه، وبعد قليل جيء به مقبوضاً عليه. وبعد وساطات تم الصلح، ولكن الدرس أن هوبلز والبريطانيين الآخرين في منطقة القاش عرفوا أنه ليس هناك رجل فوق القانون.»
وقال الدرديري «كنت قاضي مركز ببورتسودان وجيء ببحار إنجليزي اقترف جريمة السرقة وثبتت التهمة عليه. وقد رأيت أن سِجْنَهُ والباخرة على أهبة السفر قد يلقي العقوبة على غيره وهم اصحاب الباخرة. والغرامة لا تجوز في السرقة، وكان عمره يبيح حسب القانون استعمال الجلد فحكمت بجلده ونفذ أمامي، وكان لهذا الحكم صدى واستحساناً بعيداً بين المواطنين، ولكن من ناحية أخرى أدى إلى امتعاض البريطانيين. وقاطعني الأنجليز عاماً كاملاً. لقد أحسوا بأن كرامة الجنس الإنجليزي قد مُسَّتْ فكان يقابلني منهم من يقابلني بوجه عابس حتى رئيس القضاء».
ومن أولئك الأفذاذ من الجعليين في عالم الأدب الشاعر المجيد عبد الله البنا وأبوه الشاعر الفحل محمد عمر البنا أمير شعراء المهدية الذي له القصيدة ذات المطلع المشهور:
الحرب صبر واللقاء ثبات ** والموت في شأن الإله حياة
ومنهم ود ضيف الله صاحب الطبقات والدكتور يوسف فضل حسن الذي حقق كتاب الطبقات، ومنهم الشاعر الفذ التجاني يوسف بشير.
ومنهم أحمد محمد صالح عضو أول مجلس سيادة للسودان وهو الشاعر المرموق الذي جارى الشاعر المصري الشهير علي الجارم بك، بعد غارات الفرنسيين على دمشق بالطائرات في أربعينيات القرن الماضي، جاراه معبراً عن حزن وأسى الأمة العربية بقصيدته الرائعة التي جاء في مطلعها:
صبراً دمشـق فكل طـرف بــاكي ** لما اسـتبيح مع الظلام حمــاك
جرح الـعروبة فـيك جرح ســائل ** بكــت العـــروبة كلـها لبــكاك
جزعت عُـمَانُ ورُوِّعَتْ بــغداد ** واهتزت ربا صـنعاء يوم أساك
وقرأت في الخرطوم آيات الأسى ** وسمعت في بيروت أنَّةَ شاكي
والروضـة الفيحـــاء رُوِّع رُكْنُــها ** لما تعـــفـر بالثـــرى خـداك
ضــربوك لا متعـفـفـين ســــفاهـة ** لم تـأت إثـماً يـا دمـشق يداك
ورمـاك جـــبار يـتـيه بحـــوله ** شُلّــتْ يمـين العــلج حين رمـاك
«وأين نحن اليوم ودمشق تُدَكُّ دكّاً بيد أبنائها، والعروبة تلعق جراحاتها الجديدة وتنكأ جراحاتها القديمة؟؟»
ومنهم قطب اللغة العربية د. عبد الله الطيب ومنهم د. أحمد الطيب والأديب النابغة معاوية محمد نور، ومنهم من الشعراء المجيدين محمد المهدي المجذوب «الدامر 1919-1982» الذي «يعد من المجددين في الشعر العربي والسوداني ومن جيل ما بعد رواد النهضة الشعرية السودانية والعربية مباشرة». ومنهم الأستاذ عبد القادر كرف وعبد القادر تلودي وعبد الرحيم الأمين هاساي، ومن الأدباء الدكتور منصور خالد، الكاتب والمؤرخ ذو الأسلوب السلس.
ومن العلماء الدكتور التجاني الماحي، أبو الطب النفسي في السودان وعضو ثاني مجلس سيادة للسودان، والدكتور النذير دفع الله حفيد الياس باشا أم برير وأخواه المهندس الياس والإداري حسن دفع الله الياس مؤلف كتاب «قصة تهجير أهالي حلفا» هجرة النوبيين وهم أحفاد الياس باشا أم برير، وقد سبق ذكر الياس باشا أمبرير الذي كان كبير قادة جيوش الإمام المهدي وما لحق به من نكبة، وكان الخليفة عبد الله قد حبسه وأولاده إلى أن مات في سجن السائر، وكان ذلك بسبب أنه أسكن ابن عمه الأمير عبد الله ود سعد معه في منزله، وقد تم تحرير أبنائه من الحبس بعد سقوط الخرطوم. والدكتور النذير واحد من أَجَلِّ العلماء المشهود لأبحاثهم عالمياً في مجال الطب البيطري.
ونذكر من رجال التعليم والسياسة عبد الرحمن علي طه والطيب بابكر المظاهر وهنالك الكثير غيرهم.
وسنواصل في الحلقة التالية بذكر مزيد من أفذاذ الجعليين الذين ساهموا في كل المجالات السياسية والأدبية والعلمية والاجتماعية في تاريخ السودان الحديث ونستعرض قليلاً من إنجازات بعضهم.
- مساهمة الجعليين في نهضة السودان الحديثة (2)
ذكرنا في الحلقة السابقة أسماء قليل من كثير من أفذاذ الجعليين الذين ساهموا في كل المجالات السياسية والأدبية والعلمية والاجتماعية في تاريخ السودان الحديث، وهنا نذكر لمحات يسيرة عن بعض أخرين منهم. لقد حظيت في مستهل حياتي بقصة طريفة في لقاء عابر مع أحد هؤلاء المشاهير تركت في نفسي، إلى هذا اليوم، انطباعاً رائعاً عن جانبٍ من عظمة أولئك الرجال. كانت تلك القصة في أوائل خمسينيات القرن الماضي وأنا طالب بالصف الثاني بمدرسة وادي سيدنا الثانوية. وكان حينذاك يُسْمَحُ لنا بالخروج من الداخليات والذهاب إلى أهلينا بالعاصمة مرة كل خمسة أسابيع ـ نخرج ظهر الخميس ونعود عصر الجمعة. وكانت غاية متعتي في تلك الأيام، والتي كنت أتحرق شوقاً إليها، الذهاب ـ صباح الجمعة من أمدرمان ـ لقضاء ساعتين أو ثلاث في مكتبة «سودان بوكشب» بالخرطوم أتصفح فيها الكتب وأشتري أربعة أو خمسة منها خاصة كتب «البنجوين والبليكان» الإنجليزية التي كان سعر الواحد منها سبعة قروش. وكانت توجيهات إدارة المكتبة، حفظاً للنظام، أن يترك الزائر الكتب الذي لا يود شرائها على الطاولات ليعيدها الموظفون للرفوف فيما بعد. وفي واحدة من هذه الزيارات كانت المكتبة تعج بعدد من الرواد إذ كان قد وصلتها كمية كبيرة من الكتب الجديدة، فكان ذاك يوم عيد بالنسبة لي، فأخذت أتجول لعدة ساعات بين الرفوف وأخيراً أخذت خمسة كتب كعادتي، وتوجهت نحو الصراف، (مصطفى) الذي كان يعرفني جيدًا كزبون، لأدفع قيمتها. وفي طريقي أدركت أنني لم أحضر معي المبلغ الذي كنت عادة ادخره من مصروفي الشهري، البالغ جنيهاً، لشراء الكتب (بحوالى 70 قرشاً)، فتركت أربعة من الكتب الخمسة على الطاولة وأخذت واحداً ثم تصفحت عدداً من كتب أخرى ومجلات. وعندما وصلت للصراف لأدفع قيمة الكتاب وجدت أمامه الكتب الأربعة التي تركتها ورائي على الطاولة، فاعتذرت له عن عدم مقدرتي لشرائها، ففاجأني بأن قيمتها قد دفعها «عمك الواقف هناك». فذهبت لذلك الرجل لأشرح له أنني لم أتمكن من شراء تلك الكتب لظرف طارئ. وبعد أن تعرف عليَّ قال لي كلاما خلاصته: يا ابني كنت ألاحظ أنك تتصفح الكتب على بصيرة من أمرك، فتقبل هذه الكتيبات هدية مني، ولكن دع زملائك يقرئونها معك، فشكرته، ثم سألته عن اسمه وأنا مرتبك نوعاً ما فقال: أنا عمك التجاني الماحي!!
تخرج دكتور التجاني الماحي من مدرسة كتشنر الطبية، وكان أول سوداني وأفريقي يتخصص في الطب النفسي (1959ـ 1969)، وكان عضوًا ورئيساً بالتناوب لمجلس السيادة الثاني (1964ـ 1965). ثم رئيساً لقسم الطب النفسي في كلية الطب بجامعة الخرطوم حتى وفاته في عام 1970.
وقد جاء في خلاصة سيرته في موسوعة وكيبيديا الحرة ما يلي:
«دكتور التجاني الماحي من مؤسسي جمعية الطب النفسي الأفريقية. ويعتبر أبو الطب النفسي الأفريقي. وله دراسات رائدة حول السحر والزار وغيرها وعلاقتها بالصحة النفسية. وفي بحوثه حول الثقافة الأفريقية كان يدرس الآثار والحضارات الأفريقية القديمة وله معرفة باللغة الهيروغليفية. وكان يعزف البيانو وله اهتمام بالفنون بأشكالها المختلفة.
وكان موسوعة في العلوم والثقافة، وله مقالات متعمقة حول الطب النفسي والثقافة. وقد عبرت ملكة إنجلترا الزائرة للسودان «الملكة إليزابث الثانية» إبان رئاسته للدولة عام 1965م عن ذهولها بحصيلته الثقافية والمعرفية». انتهى.
وُلد الدكتور التجاني الماحي بمدينة الكوة، وينتمي إلى العمراب من نسل الشيخ حامد أبو عصاة. وهو خال الأستاذين بدر الدين وغازي سليمان. وقد وهب دكتور التجاني لجامعة الخرطوم مكتبة ضخمة بها كماً هائلاً من المخطوطات النادرة وقدرا كبيرا من الكتب التى تحوي صنوفا وألوانا من العلوم والمعارف. وتوجد هذه المكتبة في قسم خاص بمكتبة جامعة الخرطوم يعرف باسم «مكتبة التجاني الماحي». وسنتحدث في الحلقة التالية عن بعض نوابغ الأدب في السودان في أوائل القرن الماضي.
lshilm hg[ugddk td kiqm hgs,]hk hgp]dem
مواقع النشر (المفضلة)