النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: مساهمة الجعليين في نهضة السودان الحديثة

مساهمة الجعليين في نهضة السودان الحديثة وفي سياق هذه اللمحات التاريخية نذكر أسماء قليل من كثير من أفذاذ الجعليين الذين ساهموا في كل المجالات السياسية والأدبية والعلمية والاجتماعية في

  1. #1
    كاتب و محقق أنساب الصورة الرمزية القلقشندي
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    المشاركات
    1,968

    افتراضي مساهمة الجعليين في نهضة السودان الحديثة

    مساهمة الجعليين في نهضة السودان الحديثة

    وفي سياق هذه اللمحات التاريخية نذكر أسماء قليل من كثير من أفذاذ الجعليين الذين ساهموا في كل المجالات السياسية والأدبية والعلمية والاجتماعية في تاريخ السودان الحديث. ولنبدأ برجال العلم والدين والقضاء في السودان فنذكر منهم الشيخ أبو القاسم هاشم الذي أسس المعهد العلمي بأم درمان عام 1912 والشيخ أحمد الطيب هاشم أول رئيس للقضاء الشرعي في السودان والشيخ محمد خير الدوش الذي كان يفتي على المذاهب الأربعة. ومن الجعليين العمراب، من سلالة الشيخ حامد أبو عصا، القاضي الدرديري محمد عثمان الذي كان أول قاضٍ سوداني في المحكمة العليا ــ 1952، وعضو أول مجلس سيادة للسودان المستقل، وقد تم انتخابه لذلك المنصب بإجماع البرلمان، وهو حفيد حاج خالد كروم أكبر أمراء المهدية، وابن أخي خلف الله حاج خالد أول وزير دفاع بعد الاستقلال، وكان جده حاج خالد أول المناصرين للمهدي والباذلين أنفسهم في سبيل الله والوطن، وكان أكثر التجار ثراء في الأبيض حين استسلمت المدينة للإمام المهدي، وبذل كثيراً من العطاء في نصرة الثورة المهدية حتى كان المهدي يكنيه بعثمان بن عفان تشبهاً به في الإنفاق على جيوش المسلمين مثل ما كان من عثمان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وكان والده محمد عثمان حاج خالد أحد زعماء الحركة المهدية وأمرائها وسياسييها العاملين. والمجال لا يتسع هنا لذكر مآثر الدرديري محمد عثمان ومواقفه العظيمة التي نادراً ما تجتمع في رجل واحد. والتي منها، كما يذكر الدرديري نفسه في مذكراته، مشاركته في الوساطة بين اللواء محمد نجيب وجمال عبد الناصر في أزمة مارس 1954م، ودوره في اللقاء الشهير بين السيد علي الميرغني والسيد عبد الرحمن المهدي، وكانت السياسة البريطانية تعتمد آنذاك في بقاء الحكم الاستعماري في السودان على التناقضات وفي مقدمتها الخلاف التقليدي بين طائفتي الختمية والأنصار وبين زعيمي هاتين الطائفتين. وعندما خرج البريطانيون كانوا يظنون أنهم وضعوا قنبلة زمنية سرعان ما تنفجر «كما وضعوا مثل تلك القنابل قبل مغادرتهم في كثير من المستعمرات» بسبب ذلك الخلاف الطائفي الذي كانوا يعتقدون أنه عميق الجذور، وقد جاء في مذكرات الدرديري «ومن هنا استطعت في الساعة المناسبة أن أنجح في تقريب الشقة بين السيدين ووفقني الله أن أجمع بينهما في ذلك اللقاء التاريخي العظيم الذي غير إلى حد كبير من مجرى الحوادث في السودان ووجهها وجهة لم تكن في حسبان أكثر المراقبين دقة، حتى قال بعض الساسة الإنجليز الذين كانوا بالسودان: «لقد تحققت إحدى المعجزات بالسودان بالتقاء السيدين».
    ومن مواقف الدرديري الشهيرة ما رواه في مذكراته «أن الشيخ محمد محمد الأمين ترك «ناظر عموم الهدندوة فيما بعد» جاءني في حالة اضطراب وقد لاحظت على جبهته ضربة يسيل منها الدم تدل على أنه قد اعْتُدِىَ عليه وقال «إن المستر هوبلز ضربني» فأرسلت لمستر هوبلز ورقة حضور كالإجراء المتبع في مثل هذه الحالات، وقد رفض هوبلز بحجة أنه مشغول وعندئذ أرسلت جنديين من البوليس للمجيء به وإذا رفض عليهما استعمال القوة معه، وبعد قليل جيء به مقبوضاً عليه. وبعد وساطات تم الصلح، ولكن الدرس أن هوبلز والبريطانيين الآخرين في منطقة القاش عرفوا أنه ليس هناك رجل فوق القانون.»
    وقال الدرديري «كنت قاضي مركز ببورتسودان وجيء ببحار إنجليزي اقترف جريمة السرقة وثبتت التهمة عليه. وقد رأيت أن سِجْنَهُ والباخرة على أهبة السفر قد يلقي العقوبة على غيره وهم اصحاب الباخرة. والغرامة لا تجوز في السرقة، وكان عمره يبيح حسب القانون استعمال الجلد فحكمت بجلده ونفذ أمامي، وكان لهذا الحكم صدى واستحساناً بعيداً بين المواطنين، ولكن من ناحية أخرى أدى إلى امتعاض البريطانيين. وقاطعني الأنجليز عاماً كاملاً. لقد أحسوا بأن كرامة الجنس الإنجليزي قد مُسَّتْ فكان يقابلني منهم من يقابلني بوجه عابس حتى رئيس القضاء».
    ومن أولئك الأفذاذ من الجعليين في عالم الأدب الشاعر المجيد عبد الله البنا وأبوه الشاعر الفحل محمد عمر البنا أمير شعراء المهدية الذي له القصيدة ذات المطلع المشهور:
    الحرب صبر واللقاء ثبات ** والموت في شأن الإله حياة
    ومنهم ود ضيف الله صاحب الطبقات والدكتور يوسف فضل حسن الذي حقق كتاب الطبقات، ومنهم الشاعر الفذ التجاني يوسف بشير.
    ومنهم أحمد محمد صالح عضو أول مجلس سيادة للسودان وهو الشاعر المرموق الذي جارى الشاعر المصري الشهير علي الجارم بك، بعد غارات الفرنسيين على دمشق بالطائرات في أربعينيات القرن الماضي، جاراه معبراً عن حزن وأسى الأمة العربية بقصيدته الرائعة التي جاء في مطلعها:
    صبراً دمشـق فكل طـرف بــاكي ** لما اسـتبيح مع الظلام حمــاك
    جرح الـعروبة فـيك جرح ســائل ** بكــت العـــروبة كلـها لبــكاك
    جزعت عُـمَانُ ورُوِّعَتْ بــغداد ** واهتزت ربا صـنعاء يوم أساك
    وقرأت في الخرطوم آيات الأسى ** وسمعت في بيروت أنَّةَ شاكي
    والروضـة الفيحـــاء رُوِّع رُكْنُــها ** لما تعـــفـر بالثـــرى خـداك
    ضــربوك لا متعـفـفـين ســــفاهـة ** لم تـأت إثـماً يـا دمـشق يداك
    ورمـاك جـــبار يـتـيه بحـــوله ** شُلّــتْ يمـين العــلج حين رمـاك
    «وأين نحن اليوم ودمشق تُدَكُّ دكّاً بيد أبنائها، والعروبة تلعق جراحاتها الجديدة وتنكأ جراحاتها القديمة؟؟»
    ومنهم قطب اللغة العربية د. عبد الله الطيب ومنهم د. أحمد الطيب والأديب النابغة معاوية محمد نور، ومنهم من الشعراء المجيدين محمد المهدي المجذوب «الدامر 1919-1982» الذي «يعد من المجددين في الشعر العربي والسوداني ومن جيل ما بعد رواد النهضة الشعرية السودانية والعربية مباشرة». ومنهم الأستاذ عبد القادر كرف وعبد القادر تلودي وعبد الرحيم الأمين هاساي، ومن الأدباء الدكتور منصور خالد، الكاتب والمؤرخ ذو الأسلوب السلس.
    ومن العلماء الدكتور التجاني الماحي، أبو الطب النفسي في السودان وعضو ثاني مجلس سيادة للسودان، والدكتور النذير دفع الله حفيد الياس باشا أم برير وأخواه المهندس الياس والإداري حسن دفع الله الياس مؤلف كتاب «قصة تهجير أهالي حلفا» هجرة النوبيين وهم أحفاد الياس باشا أم برير، وقد سبق ذكر الياس باشا أمبرير الذي كان كبير قادة جيوش الإمام المهدي وما لحق به من نكبة، وكان الخليفة عبد الله قد حبسه وأولاده إلى أن مات في سجن السائر، وكان ذلك بسبب أنه أسكن ابن عمه الأمير عبد الله ود سعد معه في منزله، وقد تم تحرير أبنائه من الحبس بعد سقوط الخرطوم. والدكتور النذير واحد من أَجَلِّ العلماء المشهود لأبحاثهم عالمياً في مجال الطب البيطري.
    ونذكر من رجال التعليم والسياسة عبد الرحمن علي طه والطيب بابكر المظاهر وهنالك الكثير غيرهم.
    وسنواصل في الحلقة التالية بذكر مزيد من أفذاذ الجعليين الذين ساهموا في كل المجالات السياسية والأدبية والعلمية والاجتماعية في تاريخ السودان الحديث ونستعرض قليلاً من إنجازات بعضهم.



      • مساهمة الجعليين في نهضة السودان الحديثة (2)
        ذكرنا في الحلقة السابقة أسماء قليل من كثير من أفذاذ الجعليين الذين ساهموا في كل المجالات السياسية والأدبية والعلمية والاجتماعية في تاريخ السودان الحديث، وهنا نذكر لمحات يسيرة عن بعض أخرين منهم. لقد حظيت في مستهل حياتي بقصة طريفة في لقاء عابر مع أحد هؤلاء المشاهير تركت في نفسي، إلى هذا اليوم، انطباعاً رائعاً عن جانبٍ من عظمة أولئك الرجال. كانت تلك القصة في أوائل خمسينيات القرن الماضي وأنا طالب بالصف الثاني بمدرسة وادي سيدنا الثانوية. وكان حينذاك يُسْمَحُ لنا بالخروج من الداخليات والذهاب إلى أهلينا بالعاصمة مرة كل خمسة أسابيع ـ نخرج ظهر الخميس ونعود عصر الجمعة. وكانت غاية متعتي في تلك الأيام، والتي كنت أتحرق شوقاً إليها، الذهاب ـ صباح الجمعة من أمدرمان ـ لقضاء ساعتين أو ثلاث في مكتبة «سودان بوكشب» بالخرطوم أتصفح فيها الكتب وأشتري أربعة أو خمسة منها خاصة كتب «البنجوين والبليكان» الإنجليزية التي كان سعر الواحد منها سبعة قروش. وكانت توجيهات إدارة المكتبة، حفظاً للنظام، أن يترك الزائر الكتب الذي لا يود شرائها على الطاولات ليعيدها الموظفون للرفوف فيما بعد. وفي واحدة من هذه الزيارات كانت المكتبة تعج بعدد من الرواد إذ كان قد وصلتها كمية كبيرة من الكتب الجديدة، فكان ذاك يوم عيد بالنسبة لي، فأخذت أتجول لعدة ساعات بين الرفوف وأخيراً أخذت خمسة كتب كعادتي، وتوجهت نحو الصراف، (مصطفى) الذي كان يعرفني جيدًا كزبون، لأدفع قيمتها. وفي طريقي أدركت أنني لم أحضر معي المبلغ الذي كنت عادة ادخره من مصروفي الشهري، البالغ جنيهاً، لشراء الكتب (بحوالى 70 قرشاً)، فتركت أربعة من الكتب الخمسة على الطاولة وأخذت واحداً ثم تصفحت عدداً من كتب أخرى ومجلات. وعندما وصلت للصراف لأدفع قيمة الكتاب وجدت أمامه الكتب الأربعة التي تركتها ورائي على الطاولة، فاعتذرت له عن عدم مقدرتي لشرائها، ففاجأني بأن قيمتها قد دفعها «عمك الواقف هناك». فذهبت لذلك الرجل لأشرح له أنني لم أتمكن من شراء تلك الكتب لظرف طارئ. وبعد أن تعرف عليَّ قال لي كلاما خلاصته: يا ابني كنت ألاحظ أنك تتصفح الكتب على بصيرة من أمرك، فتقبل هذه الكتيبات هدية مني، ولكن دع زملائك يقرئونها معك، فشكرته، ثم سألته عن اسمه وأنا مرتبك نوعاً ما فقال: أنا عمك التجاني الماحي!!
        تخرج دكتور التجاني الماحي من مدرسة كتشنر الطبية، وكان أول سوداني وأفريقي يتخصص في الطب النفسي (1959ـ 1969)، وكان عضوًا ورئيساً بالتناوب لمجلس السيادة الثاني (1964ـ 1965). ثم رئيساً لقسم الطب النفسي في كلية الطب بجامعة الخرطوم حتى وفاته في عام 1970.
        وقد جاء في خلاصة سيرته في موسوعة وكيبيديا الحرة ما يلي:
        «دكتور التجاني الماحي من مؤسسي جمعية الطب النفسي الأفريقية. ويعتبر أبو الطب النفسي الأفريقي. وله دراسات رائدة حول السحر والزار وغيرها وعلاقتها بالصحة النفسية. وفي بحوثه حول الثقافة الأفريقية كان يدرس الآثار والحضارات الأفريقية القديمة وله معرفة باللغة الهيروغليفية. وكان يعزف البيانو وله اهتمام بالفنون بأشكالها المختلفة.
        وكان موسوعة في العلوم والثقافة، وله مقالات متعمقة حول الطب النفسي والثقافة. وقد عبرت ملكة إنجلترا الزائرة للسودان «الملكة إليزابث الثانية» إبان رئاسته للدولة عام 1965م عن ذهولها بحصيلته الثقافية والمعرفية». انتهى.
        وُلد الدكتور التجاني الماحي بمدينة الكوة، وينتمي إلى العمراب من نسل الشيخ حامد أبو عصاة. وهو خال الأستاذين بدر الدين وغازي سليمان. وقد وهب دكتور التجاني لجامعة الخرطوم مكتبة ضخمة بها كماً هائلاً من المخطوطات النادرة وقدرا كبيرا من الكتب التى تحوي صنوفا وألوانا من العلوم والمعارف. وتوجد هذه المكتبة في قسم خاص بمكتبة جامعة الخرطوم يعرف باسم «مكتبة التجاني الماحي». وسنتحدث في الحلقة التالية عن بعض نوابغ الأدب في السودان في أوائل القرن الماضي.



    lshilm hg[ugddk td kiqm hgs,]hk hgp]dem


  2. #2
    كاتب و محقق أنساب الصورة الرمزية القلقشندي
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    المشاركات
    1,968

    افتراضي النوابغ الأدب في السودان في أوائل القرن الماضي

    • النوابغ الأدب في السودان في أوائل القرن الماضي
      وعلي ذكر المكتبات في الحلقة السابقة، كانت المكتبة الثانية لبيع الكتب في العاصمة وحتى بداية خمسينات القرن الماضي، هى مكتبة النهضة التي أسسها السيد محمد عباس أبو الريش شقيق الدكتور إبراهيم أبو عباس الريش معرب كتابي النيل الأزرق والنيل الأبيض للمؤرخ ألان مورهيد وقد تقدم ذكره. وقد كتب السيد ماضي أبو العزائم أبو الريش في موقعه في الشبكة «أن محمد عباس أبو الريش من إعلام الصحافة السودانية ومن أحد رواد مدرسة النهضة الأدبية. تخرج في كلية غردون قسم الكتبة والمحاسبين. وعشق القراءة والبحث والمطالعة وفي عام 1929 افتتح مكتبة النهضة السودانية وفي عام 1931 أصدر مجلة النهضة فكانت «أول مجلة ثقافية صدرت في السودان»، وأول حيز فكري يجتمع فيه المثقفون السودانيون حيث ظهر على صفحاتها محمد أحمد محجوب ويوسف مصطفى التني ومحمد عشري الصديق وإسماعيل عتباني وعبد الله ميرغني وأحمد يوسف هاشم. ويعتبر محمد عباس أبو الريش رائداً في مجال الصحافة الأدبية المتخصصة، فمجلته تعتبر أساساً لكل المجلات التي صدرت بعد ذلك، خاصة مجلة الفجر التي تعتبر امتداداً لها، وتميز أسلوبه بالمخاطبة المباشرة للقراء. وقد توقفت بنهاية حياته عام 1935 بعد صدور ثلاثين عدداً منها». وقد تزامن في تلك الحقبة الزمنية المشرقة بروز عدد من نوابغ الأدب في السودان منهم، محمد أحمد المحجوب الذي كان شاعراً ومؤلفاً ومهندساً ومحامياً وقاضياً، وقائداً لحزب الأمة ورئيساً لمجلس وزراء السودان مرتين. ولد عام 1908م بمدينة الدويم بولاية النيل الأبيض من أبناء قبيلة الحسانية التي تنتسب إلى بني كاهل «الكواهلة» وهم تنتمون إلى محمد كاهل بن عامر بن عبد الله بن الزبير بن العوام.
      ومن أولئك النوابغ الكاتب النابه عرفات محمد عبد الله «1899- 1936» الذي قال عنه الدرديري محمد عثمان في مذكراته «كان عرفات محمد عبد الله شاباً سودانياً طموحاً بعيد الآمال كبير القلب عميق الفكرة.. وواسع الثقافة.. تنقل في الخارج حيناً واختير ودرس ثم جاء إلى بلاده واجتمع إلى نخبة من الخريجين وكون صداقات أصبحت بمرور الزمن ذات أصالة وعمق. وكان هؤلاء الأصدقاء يشاركونه في الرأي والمنهج والأسلوب، وفي طليعة هؤلاء محمد أحمد محجوب وعبد الحليم محمد ويوسف مصطفى التني «ابن أخت الدرديري»، وأسس الأستاذ عرفات محمد عبد الله «جريدة الفجر عام 1934» مجلة نصف شهرية مكرسة لخدمة الأدب والفنون والثقافة العامة كما هو مكتوب على الصفحة الأولى منها وتقع في 52 صفحة وسعرها قرشان!!»، وكتب فيها نخبة من المثقفين كان أبرزهم المحجوب ويوسف مصطفى التني وعبد الله عشري الصديق فأصبحت المجلة بوصفها أول ناشرة للثقافة والفكر صوتاً لقضايا الوطن.
      كانت مكتبة النهضة أكبر موزع لأمهات كتب ومراجع الأدب العربي التي كانت تستوردها من لبنان بعد التطور الكبير بدخول تكنولوجيا الأوفست في عالم الطباعة، مما جعلها آنذاك قبلة الأدباء وتحفة القراء. وقد اندثرت مكتبة النهضة، مع الأسف، في أواخر القرن الماضي بعد أن تحولت العمارة التي كانت فيها سوقاً للذهب جنوب مسجد الخرطوم الكبير. وكان لي حظ سعيد أن حصلت من تلك المكتبة على مجموعة قيمة من المراجع الأدبية المهمة لمكتبة المعهد الفني عام 1964 عندما كنت محاضراً فيه في قسم هندسة الكهرباء. وقد شملت تلك الكتب، فيما أذكر، مجموعة كتب الجاحظ وكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني «في 24 مجلداً» وكتاب العقد الفريد لابن عبد ربه وكتاب الأمالي لأبي علي القالي وبعض الكتب الأخرى.
      والمكتبة الثالثة، بجانب مكتبتي النهضة وسودان بوكشب، كانت في المحطة الوسطى بالخرطوم في أواخر أربعينات القرن الماضي، وكان صاحبها الأستاذ أحمد مختار أخو المعلم محمد مختار. كان لتلك المكتبة ذكرى رائعة في حياتي. فقد زرت العاصمة لأول مرة عام 1948 وأنا طالب بالسنة الثانية بمدرسة شندي الريفية الوسطى، وفي الثالثة عشرة من عمري، وكان أكثر ما شد انتباهي عندما أقبل الليل المصباح الكهربائي الذي لم أره من قبل.
      ذهبت في تلك الأيام برفقة خالي السيد محمد الحبيب التيجاني، أمد الله في أيامه، وكان قارئاً نهماًَ، إن صح التعبير، يقرأ كتب تولستوي ودستويفسكي وتشالز ديكنز والمازني وغيرهم. ذهبت برفقته لزيارة مكتبة صديقه أحمد مختار. فأقبلت على الكتب أتصفح بعضها في شغف شديد، وفجأة شد انتباهي كتاب عن «المهاتما غاندي» الذي قاد ثورة سلمية مدوية وغير مسبوقة في تاريخ البشرية استمرت 28 سنة قاطعت خلالها الهند البضائع البريطانية ورفضت الضريبة على ملح الطعام، بعد مسيرة طولها 400 كيلومتر قادها غاندي. وقد سجن غاندي وعذب سنين طويلة من غير أن تلين له قناة. وأخيراً لم يسع الإمبراطورية، التي لم تكن تغرب الشمس عنها، إلا أن تتخلى مكرهة عن أكبر مستعمراتها حينذاك وتمنح الهند استقلالها «في أغسطس 1947» بسبب ما أصاب اقتصادها من ضرر عجزت بكل قواها عن دفعه. وقد دعا الإنجليز غاندي في عام 1931 إلى مؤتمر «المائدة الخضراء» في لندن في محاولة منهم للتهدئة، فحضر قادماً من الهند بالبحر. وأثناء مروره استقبلته الجماهير المصرية في قناة السويس بالورود وبحماسة بالغة تعبيراً عن إعجابهم بكفاحه المرير ضد الاستعمار البريطاني الذي كان الشعب المصري يتأجج غضباً للخلاص منه، وقال حينها أمير الشعراء أحمد شوقي «1968 -1932» قصيدته الشهيرة محيياً غاندي الذي كان لسنين طويلة يتنقل مترجلاً، وكان يغزل قماش ثوبه الذي كان يلتحفه وهو شبه عارٍ، ويعيش على لبن شاة له ويستخدم ملح الطعام الذي يستخرجه بنفسه من البحر، وقد حذت جماهير الهند حذوه. في ذلك المساق، قال شوقي:
      بني مصر ارفعوا الغار ** وحيُّوا بطلَ الهند
      .........................
      سلام النيل يا غندي ** وهذا الزهر من عندي
      ســلامٌ حالبُ الشاة ** ســلامٌ غازلُ البرد
      ومن صدَّ عن الملح ** ولم يُقْبِلْ على الشهد
      ومن تركَّب ساقَيْه ** من الهند إلى السند
      سـلام كلما صليت ** عرياناً وفي اللِّبد
      وفي زاوية السجن ** وفي سلسلة القيد
      من «المائدة الخضراء» ** خذ حذرك يا غاندي
      ولاحظ ورق «السير» ** وما في ورق «اللورد»
      وكن أبرع من يلعب ** بالشطرنج والنرد
      ولاقى العبقريين ** لقاء الــند للــند
      وقل: هاتوا أفاعيكم ** أتى الحاوي من الهند!
      وفي عام 1948، ولما تمضي أشهر قلائل على استقلال الهند، اغتال أحد المتطرفين الهندوس غاندي رمياً بالرصاص احتجاجاً على ما كان يدعو إليه من تسامح ديني وتعايش سلمي بين كل أبناء الهند على اختلاف طوائفهم الدينية والإثنية. وقد عجل ذلك الحدث بانفصال كل من باكستان وبنغلاديش عن الهند الكبرى التي نالت استقلالها بسبب كفاح غاندي السلمي الطويل إلا أن حلمه بتماسكها لم يتحقق.
      وقد استهوتني تلك الأبيات لشوقي والتي كانت في الكتاب، وكنا في سني الدراسة تلك نعشق الشعر ونحفظه ونلقي أبياتاً منه في المطارحات الشعرية التي كانت تقيمها جمعيتنا الأدبية في المدرسة. ومن شدة إعجابي بالكتاب أن أهْدَانِيَهُ الأستاذ أحمد مختار. وكانت تلك بداية القصة.
      قرات كتب «المهاتما غاندي» أكثر من مرة وفي المدرسة أتاحت لي الجمعية الأدبية الفرصة أن ألقي محاضرة عن ذلك المناضل العظيم. وقد أعجبت بشخصيته لدرجة أني بدأت أتقمص صفاته فحلقت رأسي أصلعاً وتركت أكل اللحوم حتى أطلق عليَّ الطلبة في المدرسة اسم «غاندي».
      وكان من بين زملائنا في فصل الدراسة الدكتور الشيخ محجوب جعفر وزير الصحة على عهد الرئيس نميري، والدكتور عبد الرحمن التوم زياد الرئيس الأسبق للمجلس الطبي، والدكتور الجراح ميرغني سنهوري، واختصاصي الباطنية الدكتور بشير أرباب محمد عثمان، وكلهم كانوا أساتذة بكلية الطب بجامعة الخرطوم، أمد الله في أيامهم. وقد تزاملنا معاً خلال الدراسة الثانوية بوادي سيدنا ثم بجامعة الخرطوم. وكما ذكرنا في حلقة سابقة كان هؤلاء الأطباء في أول دفعة قبلت بجامعة الخرطوم بعد الاستقلال، ووصل من تلك الدفعة إلى كلية الطب حوالي عشرة طلاب، منهم من ذكرنا أسماءهم آنفاً والآخرون منهم بروفيسور محمد يوسف سكر الذي كان أول السودان في الشهادة الثانوية «شهادة كمبردج الثانوية، وكانت تلك آخر دفعة تمتحن تلك الشهادة في عام 1955» وهو مؤلف كتاب الفيزيولوجي القيم الذي يدرس في كليات الطب بالجامعات السودانية. ومنهم دكتور عبد الرحمن محمد موسى الذي رأس المجلس الطبي، ودكتورالصادق الأمين حاج أحمد «ابن عم د. بابكر عبد السلام وقد تقدم ذكره في حلفة سابقة» ودكتور عاصم زكي مصطفى، ودكتور عثمان محمود حسنين «شقيق المحامي الأستاذ علي محمود حسنين»، ودكتور عبد الرحمن الحاج موسى «شقيق اللواء عمر والأستاذ إسماعيل الحاج موسى»، أمد الله في أيامهم.
      بدأت مدرسة شندي الريفية الوسطى عام 1944م، وكانت هي المدرسة الوسطى الثالثة في عموم المديرية الشمالية سابقاً «حالياً ولايتي نهر النيل والشمالية»، إذ لم يكن الإنجليز فى ذلك الزمان حريصين على فتح المدارس إلا لضرورة مد الخدمة المدنية بالموظفين. وكانت كل دفعتنا تتكون من ثلاثين تلميذاً كانوا أوائل المدارس الأولية من البسابير جنوباً وحتى وادي حلفا شمالاً.
      وفي سياق ما ذكرنا في حلقة سابقة عن الود والعلاقات مع آل المهدي، كان للدكتور الشيخ محجوب جعفر تاريخ طريف فيما جرت به الأقدار. كان والده عليه رحمة الله سر تجار كريمة، وكان حلو المعشر ومن القلة، إن لم يكن الوحيد، من الموالين للأنصار في منطقة الشايقية التي كل سكانها من الختمية، وكان محل تقدير السيد عبد الرحمن المهدي. وفي زيارة للسيد محجوب جعفر لشندي، ونحن والشيخ آنذاك تلاميذ في المدرسة الوسطى، التقى عمنا الناظر حاج محمد إبراهيم بالمتمة وسمعته يقول له في جلسة أنس أنه يتمنى لإبنه الشيخ يوماً ما أن يتزوج بنتاً من بنات السيد عبد الرحمن المهدي. وتمضي السنون ويكمل الشيخ المدرسة الوسطى والمدرسة الثانوية ثم يدخل جامعة الخرطوم ويلتقي بالسيدة الفضلى إنعام بنت السيد عبد الرحمن ويتزوجها ويرزقهما الله بنين قرة أعين نابهين.
      وسنتابع في الحلقة القادمة ونذكر أسماء آخرين من أفذاذ الجعليين الذين ساهموا في كل مجالات السياسة والأدب والعلم والاجتماع في تاريخ السودان الحديث.

  3. #3
    كاتب و محقق أنساب الصورة الرمزية القلقشندي
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    المشاركات
    1,968

    افتراضي

    • مساهمة الجعليين في نهضة السودان الحديثة (3)
      ومن أعلام الجعليين في قمة التفوق في الأدب وعلم اللغة العربية البروفسير عبد الله الطيب الذي اشتهر بعلمه الغزير وكتبه الشهيرة في العالم العربي، والتي أشهرها «المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها» من خمس مجلدات. ومن أشهر وأجل إنجازاته ما تركه من علم ينتفع به وهو تفسير القرآن الكريم الذي ما زالت الإذاعة السودانية تبثه على الهواء منذ عام «1954».
      ولد البروفسير عبد الله الطيب بقرية التميراب غرب الدامر وجده الأكبر هو الشيخ محمد المجذوب صاحب المقام الشهير بمدينة الدامر (دامر الجذوب).
      ومن طريف ما أذكره ما كان من زيارة البروفسير عبد الله الطيب لنا في الكويت قبيل الغزو العراقي للكويت ببضعة أشهر (1990) وكنت وقتها أعمل خبيراً بالصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي.
      ألقى الكتور عبد الله الطيب كعادته عدة محاضرات في الكويت في ضروب شتى من الأدب واللغة العربية، وفي لقاء له ممتع مع نخبة من العاملين بالمنظمات والمؤسسات العلمية بالكويت بمنزل الدكتور مامون الحاج علي إبراهيم، ذكرنا له أننا أنشأنا جمعية خيرية لمساعدة المرضى القادمين للعلاج بالكويت، وأن الجمعية لها بجانب ذلك اهتمام بالمساعدة في نشر أعمال بعض الأدباء والشعراء السودانيين. فطلب منا أن ننشر له كتيب «ذكري صديقين» ـ وهما الأديبين معاوية محمد نور وجمال محمد أحمد. وفي أثناء إعداد الكتيب للطباعة والنشر راسلته بالبريد أستأذنه في أن نخصص جزءًا من عائدات بيع كتيب «ذكرى صديقين» للمساعدة في نشر أعمال لأدباء سودانيين آخرين لم تنشر من قبل.
      فرد عليّ بخطاب لطيف قال فيه إن الفكرة جيدة وأنه لا يمانع في ذلك ولكنه، من باب الطرف الأدبية، سيكون مثله:
      كمفردة جناحها على بيض أخرى ** وتاركة بيضها في العراء
      وقد قمنا بطباعة كتيب «ذكرى صديقين» وساعدنا بعض الشباب في توزيعه على بعض المكتبات بالكويت التي يرتادها كثير من السودانيين لشراء الصحف والكتب، وبعدها بعدة أيام غادرت الكويت للسودان لمناسبة زواج ابني، وبعد ساعة من وصولي الخرطوم استغرقت في نوم عميق، وقبيل منتصف الليل أفاقوني من النوم ليخبرونني بأن الأخبار بالتلفزيون تتواتر بأن الجيش العراقي قد اجتاح الكويت، ولم تكن قد مضت بضع ساعات منذ أن غادرتها!! ولما عدت للكويت بعد شهرين، جوًا عن طريق بغداد ومن هناك برًا عن طريق البصرة، لأخذ متاعي وجدت كثيرًا من أغراضي قد إنْتُهِبَ كحال الكثيرين غيري، ومن بين تلك الأغراض حقيبة كان فيها عدة نسخ من كتيب «ذكرى صديقين» وخطاب دكتور عبد الله الطيب. وفي رحاب ذكرى الدكتور عبد الله الطيب وكتيِّبه الرائع نتنقل مع ركب أدباء الجعليين لنصل إلى سيرة النابغة السوداني الأديب معاوية محمد نور (1909ـ 1941) الذي بدأ وكأنه كوكب لاح ضياؤه في الأفق ثم اختفى.
      نشأ معاوية في أمدرمان في كنف ورعاية جده لأمه الدرديري محمد عثمان الذي تقدم ذكره، وأكمل تعليمه في الجامعة الأمريكية ببيروت، ويقول الدرديري في مذكراته:
      «إنه اعتنى عناية خاصة بابن اخته الناقد والأديب معاوية محمد نور بعد أن توسم فيه نبوغاً مبكراً واستعداداً أدبياً ممتازاً، وحصل على بكالريوس آداب في جامعة بيروت الأمريكية (عام 1928) وكانت كتاباته الرائعة القوية تنشر بالعربية في السياسة الأسبوعية وبالإنجليزية في الاجيشيات غازيت، وما أكثر ما هزت مقالاته دار المعتمد البريطاني في مصر ودوائر حكومة السودان، ولمع اسمه ونال الإعجاب والتقدير من رجال الأدب والسياسة في مصر وفي مقدمتهم الأستاذ العظيم عباس محمود العقاد.
      كانت الآمال فيه كبيرة، ولقد كان كثير القراءة دائب الاطلاع جيد الإنتاج، يشكو من أنه يفهم أسرع مما يجب وكان، لو أمهله القدر، مرجواً أن يؤدي خدمات جليلة لهذا البلد، لولا أن عاجله الموت في عمر الزهور فذهب مبكياً على شبابه ونبوغه وطموحه ولم يتجاوز الثلاثين من العمر، فقد جاء قبل أوانه وذهب قبل أوانه... أسكنه الله فسيح جناته. وقد كتب المعلق على مذكرات الدرديري:
      «.... خرجت أعمال معاوية بعد كتابة الدرديري هذه المذكرات ولكن المقالات الإنجليزية من جيشيان غازيت والتي أشار إليها السيِّد الدرديري لم تنشر بعد.... أما كتاباته في الأدب العربي والإنجليزي فتملأ مجلداً لعل الظروف تتيح جمعها وإصدارها في كتاب خاص». انتهى. وقد علمت مؤخرًا من الدكتور متوكل محمود متوكل، حفيد الدرديري محمد عثمان، أن الأسرة تسعي لجمع ونشر هذا التراث الأدبي الرائع الذي تركه النابغة معاوية محمد نور خلال عمره القصير.
      والجعليون في وسط وشمال السودان هم أكثر القبائل اهتماماً، ومنذ عهد بعيد، على تنشئة أبنائهم على حفظ ما تيسر من القرآن الكريم وإحياء شعائر الدين. وليس أدل على ذلك من كثرة دور القرآن (الخلاوي) التي لا تكاد تخلو منها قرية واحدة في مناطقهم. وكثير من هذه الخلاوي كان يفد إليها الطلبة من أقاصي بقاع السودان وعبر مئات السنين لحفظ القرآن. ومن أشهر هذه الدور خلاوي الشيخ الجعلي في كدباس وهي التي لم تنطفئ فيها أبدًا نار القرآن منذ قرون، وخلاوي الشيخ حامد أبو عصا في المكنية والتي يقوم حالياً على إحيائها أبناء الشيخ سليمان الخليفة وعلى رأسهم الأستاذ عبد المنعم وأخوه الطيب سليمان الخليفة، أمد الله في أيامهم، ومنها خلاوي الشيخ جابر الشهيرة، وخلاوي الشيخ محمد صغيرون في بلدة «قوز المطرق» جنوب شندي، وهي من أقدم الخلاوي في السودان وممن تلقى العلم فيها عن الشيخ صغيرون، الشيخ فرح ود تكتوك وهو «
      من البطاحين العبادلة والعالم الزاهد المتواضع صاحب الامثال والحكم تلميذ الخطيب عبد اللطيف البغدادي والذي من حكمه يحض على طلب العلم:
      العلم نور لا يماثله ضياء ** والجهل أسود مثل الفحم
      وهو صاحب القصيدة المشهورة التي مطلعها
      يا واقفاً عند أبواب السلاطين**أرفق بنفسك من هم وتحزين
      واطن ينتمون إلى جدهم د دد اب اط وهو من ولد طــن وــد ــر وــد اــر ــارر وــد اــطن ــن ــردم اــوار الذي ينتهي نسبه إلى إبراهيم جعل. وسنتابع في الحلقة القادمة ونتحدث عن واحد من العظماء الذي ولد بالمتمة وكان له دور كبير في نهضة السودان الحديث.

  4. #4
    كاتب و محقق أنساب الصورة الرمزية القلقشندي
    تاريخ التسجيل
    01-10-2009
    المشاركات
    1,968

    افتراضي

    • أفذاذ الجعليين ومساهماتهم في نهضة السودان الحديثة.
      السيد ميرغني حمزة ــ أحد عظماء نهضة السودان:
      أوردنا في حلقة سابقة توثيقاً لميلاد السيد ميرغني حمزة البلة تحت شجرة تنضب يوم خرجت والدته السيدة فاطمة بنت الفقيه الشيخ إبراهيم سوار الذهب من المتمة فى ذهول من هول المذبحة. والسادة السواراب هم أشراف دهمشية بديرية جمعتهم المصاهرة مع العمراب، آل حاج خالد، وآل موسى جد عبد الله بك حمزة ود موسى الذى ولد بـ «أبو حليمة» شمال الخرطوم وهم عبدلاب، وكانت مهنتهم التجارة التى كانوا يديرونها بين مصر والسودان، وكانت المتمة مقرهم من قبل العهد التركي ومازالت أطلال مساكنهم فيها، وكانت مدينة الخندق معبراً مهماً لتجارتهم، وقد أُطْلِقَ عليهم، من أجل ذلك، خطأً اسم «الخنادقة». وفي قديم الأدب العربي طرفة عن شجرة التنضب، وهي شجرة معروفة تنبت في المناطق شبه الصحراوية، ليس لها صفق ولكن لها سوق «فروع» كثيرة مخضرة ومتشابكة وثمرها لونه أحمر يانع أشبه بالكرز إلا أنه باهت الطعم. وهي كثيراً ما توجد فيها السحالي. وكانت العرب، حينما تصف المرء بشدة الحذر، تقول ».... كسحل تُنْضُبَةٍ لا يطلق الساق إلا مُمْسِكاً على ساق». والسوق جمع ساق كما جاء في قوله تعالى في وصف النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه «... سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ...» الفتح «29». وأما «السوق»، مكان التجارة، فمفرد جمعه أسواق كما ورد في القرآن الكريم. الفرقان «7 و 20».وذكرنا أن ميرغني حمزة نشأ في أم درمان وتخرج مهندساً من كلية غردون التذكارية وتدرج فى الخدمة المدنية إلى أن ارتقى إلى منصب وكيل وزارة الأشغال ثم انخرط في العمل السياسي في بداية عهد الإستقلال وتقلد، في أول حكومة وطنية، منصب وزير «الأشغال والمعارف والري». وأنه كان سياسياً بارعاً تميز بالفكر الثاقب وبعد النظر في شؤون تنمية البلاد. وكانت له مساهمات كبرى في تنمية السودان الحديث، من أهمها إنشاء المعهد الفني «حالياً جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا» إيماناً منه بأن التعليم المهني هو قوام نهضة الأمم، ومن المؤسف أن المعهد الفني تحول إلى مؤسسة أكاديمية من غير أن ينشأ له بديل. وإهمال التعليم المهني كان من أكبر الكوارث التى عطلت مسيرة التنمية في البلاد، وذاك مبحث طويل لا مجال للخوض فيه في هذه المقالات.
      من أكبر إنجازاته التى دلت على بعد نظره، فكرة إنشاء مشروع المناقل الزراعي وإنشاء خزان الروصيرص لريِّه مما زاد مساحة مشروع الجزيرة بحوالى 67%، اي بتوسعة قدرها مليونا فدان. وفي مراحل التصميم الهندسي لخزان الروصيرص «والمعروف بسد الدمازين» طلب ميرغني حمزة من الشركة الاستشارية أن تشمل تصاميم السد تركيب توربينات مائية لتوليد الطاقة الكهربائية. فأشار الاستشاريون إلى أن ذلك سيزيد من تكلفة السد وأنه لا توجد أحمال كهربائية في المنطقة تبرر هذه الزيادة في التكلفة، فأشار إليهم إلى نقل الكهرباء الى الخرطوم فوافقوا على ذلك، وأدرجوا في التصاميم كذلك الخط الناقل للكهرباء من الروصيرص إلى الخرطوم مروراً بمارنجان وطوله «525» كيلومتراً. وتم تنفيذ المشروع في أوائل ستينيات القرن الماضي على عهد الفريق إبراهيم عبود. وكان سد الدمازين أكبر مصدر للطاقة الكهربائية التي ظلت البلاد تنعم بها على مدى سبعين عاماً، وبفضله عمت الكهرباء مدن وقرى الجزيرة، وتم ري مشروع الرهد الزراعي والفاو بالمضخات الكهربائية، ووصلت إمدادات الكهرباء غرباً المناقل والنيل الأبيض، وكل ذلك بجانب توافرها في العاصمة القومية وامتداداتها. وبعد إنشاء سد مروي أصبح التوليد الكهرومائي من سد خزان الروصيرص ثانِيَ أكبر مصدر للطاقة في البلاد خاصة بعد تعلية السد بنهاية عام 2013م، ومن إنجازات ميرغني حمزة إنشاء مصنع أسمنت ربك بشركة مساهمة عامة.
      وكانت تلك الحلقات الموجزة لمحات من تاريخ نصرة الجعليين لدينهم وعروضهم غير مفاخرين بقبلية منبوذة أو عرقية بغيضة، وذكرنا فيها لمحات عن عطائهم في تاريخ السودان قديماً ونهضته حديثاً. وغطت الحلقات المسيرة وقائع الجعليين بدءاً بالمساهمة في إسقاط مملكة علوة الصليبية ومروراً بالعهد التركي وأحداثه الدامية ثم مذبحة المتمة وتحطيم الخليفة وجنوده مناطق الجعليين وهم عامدون.
      تسامح الجعليين
      ورغماً عن كل تلك المأسي التاريخية فالجعليون من صفاتهم التسامح عما مضى وعدم أخذ أحد بجريرة غيره. ونوثق لذلك بقصة يرويها الإداري السيد عبد الله علي جاد الله، الذي سبق ذكره، وهو حفيد الأمير حاج ود سعد، والوزير سابقاً علي عهد الرئيس نميري، أمد الله فى أيامه، قال إنه في سبعينيات القرن الماضي ذهب لعزاء السيد عبد السلام الخليفة «ابن الخليفة عبد الله» فى وفاة ابن أخ له. ويذكر أن السيد عبد السلام كان رجلاً غاية في التهذيب ودماثة الخلق. وأنه حكى له أنه عندما كان في السلك الإداري في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي، أنه نُقِلَ مأموراً لمركز ود حامد «حالياً محلية ود حامد جنوب معتمدية المتمة ــ وكانت توجد فى تلك الأيام فى كثير من أنحاء السودان مراكز صغيرة مساعدة للمراكز الرئيسة كمركز شندي، وقد أغلقت جميعها بسبب تداعيات الأزمة العالمية الكبرى على أوروبا وباقي دول العالم عقب «الكساد الكبير أو الانهيار الكبير» الذي ضرب أمريكا في عام 1929 والذي كان يعتبر أكبر وأشهر الأزمات الاقتصادية في القرن العشرين». وقال له السيد عبد السلام إنه عند ذهابه للمنطقة كان متخوفاً من ردود فعل الجعليين تجاهه، وأحداث المنطقة وبخاصة واقعة المتمة لم تكن بعيدة عن أذهانهم وكثير منهم كانوا ممن حضروا أهوالها وأصابهم منها ما أصابهم من قروح. ولكنه ذهل، رغماً عن تلك الذكريات المؤلمة، من الحفاوة والإكرام الذي لقيه من عامة الجعليين، ليس في بلدة ود حامد وحدها بل في كل المنطقة. وهل هنالك أصدق من مثل هذه الشهادة فيما ذهبنا إليه في القول عن تسامح الجعليين؟. وبنهاية هذه الحلقات نقول للأخ الكاتب طارق فتح الرحمن وغيره من الإخوان على لسان أبناء «قبائل البحر» والجعليين بصفة خاصة، إن «السيل قد بلغ الزبى وجاوز الحزام الطبيين» في ما يتعلق بتلك الافتراءات الجزافية والدفاع عن أباطيل تلك الحقبة المظلمة من تاريخ السودان وأحداثها التي تركت جروحاً غائرة في وجدان الكثيرين، وأنه لا مخرج ولا مستقبل لهذه الأمة إلا عن طريق نسيان الماضي، إذ لا ارتجاع له، وعن طريق التسامح والتعايش المسالم. وأهل السودان، في هذا المنعطف التاريخي الخطير، أحوج ما يكونون للتعاون والتعاضد، وهم اليوم يتكالب عليهم الرافضة وكثير من الأعداء والعملاء المندسين. فنسأل الله أن يطهر قلوبنا من الظلم والفساد ويوحد صفوفنا ويقينا الفتن وهو ولي ذلك والقادر عليه.

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. أصول سكان السودان القديمة و الحديثة
    بواسطة القلقشندي في المنتدى مجلس قبائل السودان العام
    مشاركات: 30
    آخر مشاركة: 07-07-2019, 04:33 PM
  2. ارض البجة والحداربة و مواردها . أصول سكان السودان القديمة و الحديثة
    بواسطة القلقشندي في المنتدى مجلس قبائل السودان العام
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 04-06-2019, 01:14 PM
  3. السعداب ملوك الجعليين وبقية الجعليين
    بواسطة ابن حزم في المنتدى مجلس قبائل الجعليين
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 26-05-2019, 08:30 PM
  4. الجعليين السودان
    بواسطة لؤي محمد خير في المنتدى البحث عن الاصول.. اصول و انساب العائلات و القبائل
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 14-08-2016, 03:28 PM
  5. نسب الجعليين في السودان ومادار من لغط حوله
    بواسطة الطيب الإدريسي في المنتدى ملتقى القبائل العربية . مجلس القلقشندي لبحوث الانساب .
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 11-09-2014, 07:17 PM

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
MidPostAds By Yankee Fashion Forum