البجة (البجاة) مواطنهم وأقسامهم

البجة والنوبة كلاهما معرق في القدم، ولكن البجة بحكم بيئتهم، وانقطاعهم عن طرق المهاجرة، أصفى جوهراً من النوبة، لم يتعرضوا للاختلاط بعناصر غريبة عنهم كما تعرض النوبة. وقد لاحظ غير واحد من الكتاب شبهاً قوياً بين البجة وبين المصريين القدماء، مما يدل على قدم عنصر البجة وأنه قد استوطن البلاد التي يسكنها اليوم منذ آلاف السنين.

إذا تناولنا دراسة الجماعات القوقازية بالترتيب التاريخي وجب علينا أن نبدأ بغير العرب من سكان السودان، الذين استقروا في ربوعه منذ عهود معرقة في القدم.. ليس معنى هذا أن الجماعات العربية كلها حديثة الهجرة إلى السودان، ولكن معناه أنها جميعاً - وإن اشتملت على عناصر قديمة - قد تشربت الثقافة العربية في عصر متأخر نسبياً، واكتسبت سمتها العربية بفضل هجرات قبائل عربية، دخلت السودان من أطرافه الشمالية والشرقية بعد أن ظهر الإسلام في جزيرة العرب وأخذ ينتشر في قارة أفريقيا.
والبجة والنوبة كلاهما معرق في القدم، ولكن البجة بحكم بيئتهم، وانقطاعهم عن طرق المهاجرة، أصفى جوهراً من النوبة، لم يتعرضوا للاختلاط بعناصر غريبة عنهم كما تعرض النوبة. وقد لاحظ غير واحد من الكتاب شبهاً قوياً بين البجة وبين المصريين القدماء، مما يدل على قدم عنصر البجة وأنه قد استوطن البلاد التي يسكنها اليوم منذ آلاف السنين.
لا شك أن موطن البجة في الوقت الحاضر أضيق مساحة، مما كانت عليه في الأزمنة الغابرة. ومواطنهم اليوم تتألف من الأراضي الواقعة بين البحر الأحمر شرقاً، ونهر عطبرة، ثم نهر النيل غرباً، وتمتد من المنحدرات الشمالية للهضبة الحبشية في الجنوب إلى نهاية محافظة أسوان في الشمال.
أراض فسيحة شاسعة - وإن كانت أقل من أوطانهم القديمة. وبيئة فيها تنوع كثير وإن غلبت على معظمها صفة الشدة والجهد.. وهذا التنوع يشمل التضاريس، وسقوط المطر، وما يترتب على ذلك من تنوع النبات والحيوان.
ولعل اختلاف التضاريس هو أكبر عامل طبيعي يؤثر في الظاهرات الطبيعية الأخرى. ولذلك يجدر بنا أن نتأمل فيه لحظة؛ وأكبر مظهر لاختلاف التضاريس هو وجود تلك السلاسل الجبلية الممتدة من الجنوب إلى الشمال موازية وملاصقة للبحر الأحمر، مرتفعات متصلة الحلقات، اللهم إلا في مكان واحد حيث يشقها خور بركة، ذلك المجرى الذي ينحدر من الركن الشمالي للهضبة الحبشية من ارتفاع 2000 متر فوق سطح البحر، ثم يجري نحو الشمال، وسط فجوة واسعة بين جبال البحر الأحمر، حتى تنتهي مياهه إلى الأرض الفضاء بقري طوكر؛ إذا لم يستطع لقلة مائه أن يبلغ البحر الأحمر.
وفيما عدا هذه نرى مرتفعات البحر الأحمر ممتدة بمحاذاته تلتصق به أحياناً، حتى لا يكاد يفصلها عنه شيء، وتبتعد أحياناً عنه فتترك بينها وبينه سهلاً ساحلياً ضيقاً، عرضه يتراوح بين 20 و 30 كيلومتراً..
فتضاريس الوطن البجاوي إذن ذات اتجاهات شمالية جنوبية، أولها من ناحية البحر ذلك الشريط الساحلي المنخفض، وهو ليس سهلاً ساحلياً بالمعنى الصحيح، بل عبارة عن أرض منحدرة نحو البحر، وقليلة الاتفاع عن سطحه. وهذا الشريط الساحلي ضيق في القسم الأعظم من الجهات الداخلة في السودان، ولكنه أكثر اتساعاً، في الجزء الداخل في حدود مصر.
كذلك جبال البحر الأحمر، ليست كلها متساوية في الارتفاع والوعورة، وهي تزيد على الألف وخمسمائة متر، في الكتلة الوقعة جنوب فجوة طوكر، والوقعة شمالها مباشرة. ولكن أكثرها ارتفاعاً ووعورة الكتلة الواقعة بين خط العرض العشرين والثاني والعشرين؛ والراجح أنها تبلغ أكثر من 2000 متر في مواضع؛ وعلى الساحل في شرق الكتلة بلدة دنجوناب على خليج دخانة، وفي هذه الكتلة بعض مرتفعات توصف بأنها جبال، مثل جبل شلال، وجبل علبة، وجبل إربة.
هذه المرتفعات الساحلية هي أهم ظاهرة تضاريسية في الوطن البجاوي، ولها آثار مناخية خطيرة. ومن الأماكن المرتفعة فيها بلدة أركويت (1093 متراً) وسنكات (871 متراً) وتهاميم (647 متراً) وتِلْجَوَارِب (539 متراً) وكلها متقاربة.
أما البلاد الساحلية أو شبه الساحلية فيمثلها عقيق في أقصى الجنوب ثم طوكر (غلى الداخل قليلاً) وسواكن وبورتسودان ودنجوناب وعيذاب وبرنيس (وهما بلدتان بائدتان) "بالقرب من موقع عيذاب القديم يوجد مرسى حلايب"
يلي الجبال من الغرب انحدار فجائي أو تدريجي، وهو على كل حال اسهل من الانحدار الشرقي نحو البحر الأحمر. ثم نصل بعد ذلك إلى منطقة أدنى إلى السهولة وتنحدر بالتدريج نحو نهر النيل، وفي كثير من المواضع تختطها أودية قلما تجري فيها المياه في الوقت الحاضر، مثل وادي العلاقي ورافده وادي قبقبة.
وهناك إلى جانب الانحدار من الشرق إلى الغرب ذلك الانحدار التدريجي من الجنوب إلى الشمال، الذي يشترك فيه سائر حوض النيل، وإن لم يكن ذلك الانحدار مطرداً ولا منتظماً.
وبعض الجهات في هذا الجزء المنخفض لها أسماء اشتهرت بها، مثل سهل البطانة بين النيل الأزرق والعطبرة، وتمثله بلدة القضارف في الجنوب وأبودليق في الوسط. ثم يليه من جهة الشمال صحراء العتمور والعتباي الممتدة إلى مصر. وقد أثرت الجبال من غير شك في سقوط امطار، وبذلك أصبح لبلدة مثل دنجوناب مطر يبلغ 40م م، وهي محاذية لوادي حلفا التي لا يسقط عليها مطر قط. وفي عقيق نحو 140 م م وفي كرورا 283 م م وفي بورتسودان 110 م م وسواكن 180 م م.
أما الجهات المرتفعة مثل سنكات وتهاميم فمطرها 134م م، 113 م م على التوالي.
ومن الدراسات المناخية الممتعة في هذا الإقليم مقارنة مواسم المطر، غذا نرى أن بعضها صيفي وهو الواقع على مرتفعات تنحدر نحو الغرب، والبعض شتوي، وهو الواقع على المرتفعات التي تنحدر نحو الشرق، والجهات الساحلية مطرها شتوي، وإن شذت بعض الجهات لأسباب خاصة، كما هي الحال في سواكن وطوكر، إذ ينالهما بعض المطر الصيفي أيضاً،. ولعل هذا بسبب موقعها من الفجوة التي يجري فيها خور بركة إذ تتسرب في الصيف بعض التيارات الجنوبية عن هذا الطريق، ومطر الصيف على كل حال أغزر من مطر الشتاء.
أما سهل البطانة فمطره أغزر، وفي الجنوب نرى القضارف. ومطرها يبلغ 676م م (ومطرها صيفي) وأبودليق (’55 15ْ) ومطرها 208م م (أكثر من الخرطوم وهي على نفس خط العرض ومطرها 160م م).
ولهذه الأمطار أثر في السهول مختلف عن أثرها في الجبال لأن المطر في المرتفعات ذات الحرارة المنخفضة أعظم أثراً وأطول. وما يفقد بالتبخر منه أقل بكثير مما يفقد في السهول. لذلك نرى المرتفعات يكسوها مقدار محترم من الشجر والخضرة في جبل علبة وشلال وإربة وحول أركويت، ولشدة قرب هذه المرتفعات من البحر الأحمر. يغشاها زمناً طويلاً غطاء كثيف من الضباب والندى له أثر كبير في غزارة الحياة النباتية، بل لعله السبب الأكبر فيما تمتاز به تلك المرتفعات من وفرة النبات، وفرة لا يبررها مقدار ما يتساقط عليها من الأمطار. أما الإقليم الجنوبي، في مثل كسلا والقضارف على حدود ارتريا، فإنه يمتاز بمطر أغزر من الأقطار التي تحاذيه على نهر النيل.
وهكذا نرى في مواطن البجة تنوعاً ملحوظاً في التضاريس والمناخ والنبات. ولئن كانت تغلب عليها قلة المطر عامة. والطبيعة الصحراوية تسودها في الشمال، فإنها لا تخلو من جهات يغزر نباتها في بعض فصول السنة، ويتنوع فيها سقوط المطر بين الصيف والشتاء، هذا عدا الأنهار التي تجري المياه في بعض أجزاء منها مثل خور بركة وخور القاشن والأنهار التي تجري بالقرب منها مثل نهر عطبرة.
فالبيئة قاسية في جملتها، ولكنها أقل قسوة مما يتوهمه الإنسان لأول وهلة.
ومع التسليم بأن النصف الشمالي شديد الجدب، لكن يخفف من جدبه انتشار الآبار في مختلف أنحائه وإن كانت المسافات بين الآبار تزداد كلما اتجهنا شمالاً أو غرباً. ولذلك كان امتلاك الآبار من أهم العناصر في حياة البجة الشماليين وعلى الأخص البشاريين والعبابدة.

بقلم د عمر فضل الله



hgf[m (hgf[hm) l,h'kil ,Hrshlil hgfd[hm