مصعب بن عمير

رضي الله عنه

نسبه ومكانته الاجتماعية :
هو مصعب بن عمير بن هشلم بن عبد مناف بن عبد الداربن قصي بن كلاب فهو قرشي الأصل إذ يتصل نسبه بأحد أهم فروعها : بني عبد الدار من أهم بطون قريش لأنهم حجّاب البيت الحرام والقائمون على دار الندوة التي يجتمع فيها زعماء قريش , ولهم اللواء في الحروب مما يجعلهم على رأس الحروب وقادتها وهي ميزة جعلتهم يعدون أبنائهم ليكونوا شجعانا ومن اصحاب الرأي والحكمة والحصافة , وعليه فهو من أسرة لها مكانتها الاجتماعية عند العرب في الجاهلية .


وأما والده عمير بن هشام فهو من أثرياء مكة وأمّه خناس بنت مالك المطرّف بن وهب بن عمرو بن حجير , وكانت قاسية شديدة لا تعاند وتُصر على ما تريد حتى يتحقق لها .

عاش مصعب بن عمير حياة النعيم الكامل , حياة كانت تحقق له كل ما يشتهيه ويتمناه , فكان جميل الطلعة لا يلبس إلا جديد الثياب وأرقها وبين يديه مال كثير ينفقه كيف يشاء , وكان رسول الله صلى الله عليه وسيلم يذكره ويقول : ( ما رأيت بمكة أحسن حلّة ولا أرق ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير ) .

إسلام مصعب بن عمير :
كان مصعب بن عمير يعرف عن محمد صلى الله عليه وسلم ما يعرفه عنه جميع أهل مكة من صدقه وأمانته وعفته ومكارم أخلاقه ولكنه أصبح يسمع من رجالات قريش كلاما جديدا بعدما صدع محمد صلى الله عليه وسلم برسالته ودعوته كلاما يمتلىء بالحقد والحسد والغيظ , فضمائر قريش مصدقة لمحمد صلى الله عليه وسلم وهي تأتمنه على أموالها وودائعها ولكنها تصر على عداوته وتكذيبه بما أكرمه الله تعالى به من النبوة والرسالة , فلما بلغه ان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الى الاسلام في دار الأرقم بن ابي الأرقم دخل عليه فأسلم وصدّق به وخرج يكتم اسلامه وكان يختلف الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان مصعب بن عمير من السابقين للدخول في الاسلام بدليل هجرته الى الحبشة في الهجرة الأولى والتي كانت في السنة الخامسة من البعثة النبوية .


إبتلاؤه لإسلامه :
أسلم مصعب بن عمير وكان من فضلاء الصحابة وخيارهم ومن السابقين الى الاسلام , وكان يكتم اسلامه ويختلف الى رسول الله صلى الله عليه وسلم سرّاً ,, فبصر به عثمان بن طلحة العبدري يصلي فأعلم أهله وأمّه فأخذوه وحبسوه فلم يزل محبوساً الى ان هرب الى ارض الحبشة , وكان مما لا قاه في سبيل دينه ما اخبرنا به الامام النووي رحمه الله حيث يقول : وكان قبل اسلامه أنعم فتى بمكة وأجوده حلّة , واكمل شباباً وجمالاً وجوداً وكان أبواه يحبانه حباً كثيراً وكانت أمّه تكسوه أحسن ما يكون من الثياب بمكة وكأن أعطر أهل مكة , ثم انتهى به الحال في الاسلام الى ان كان عليه " بردة مرقوعة بفروة " .

عن علي بن ابي طالب رضي الله عنه قال : إنا لجلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا مصعب بن عمير ما عليه إلا بردة له مرقوعة بفرو , فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى للذي كان فيه من النعمة والذي هو اليوم فيه ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كيف بكم إذا غدا أحدكم في حلّة وراح في حلّة , ووضعت بين يديه صحفة ورفعت أخرى وسترت بيوتكم كما تستر الكعبة ؟ قالوا : يا رسول الله يومئذ نحن خير منا اليوم ! نتفرغ للعبادة ونكفى المؤونة , فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا .. أنتم اليوم خير منكم يومئذ ) .

وفي وفاته رضي الله عنه لم يترك إلا ثوباً فكان إذا غطوا به رأسه خرجت رجلاه وإذا غطوا رجليه خرج رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( غطوا رأسه واجعلوا على رجليه الأذخر ) .

وفي محنة مصعب بن عمير رضي الله عنه أكبر دليل على أن الاسلام رسالة توجب على معتنقها النهوض بأعبائها وأن يوطن نفسه للبلاء والشدائد فليس الاسلام تجارة مادية قريبة الربح وهو ليس شعاراً يرفع ولا لباساً يلبس وإنما هو قول وعمل وتضحية وفداء وأعباء لا يتحملها إلا من صفت نفوسهم وقويت عزيمتهم ورغبوا بما عند الله من الرضوان والنعيم فضحّوا بالغالي والنفيس , ولقد لقي مصعب بن عمير رضي الله عنه من صور البلاء في محنته هذه ما يمكن إيجازه بالنقاط التالية :
1 – ألفقر بعد الغنى .
2 – تخلي الجاه والمكانة الاجتماعية عنه .
3 – عداوة الأهل والأقارب والعشيرة حتى وصمته أمّه بالعقوق وأصرّت على الوقوف في حر الشمس والامتناع عن الطعام والشراب حتى يعود عن دينه .
4 – الحبس والتجويع والتعذيب .
5 – الغربة بالهجرة والابتعاد عن الوطن .


فوزه بثواب هجرتي الحبشة الأولى والثانية :
لم يستقر أمر مهاجري الحبشة ومنهم مصعب بن عمير رضي الله عنه إلا أشهراً قليلة حتى بلغهم بأن المشركين هادنوا الاسلام وتركوا إيذاءهم للمسلمين فقرروا العودة الى مكة من جديد وقد زال السبب الذي دعاهم للهجرة من ديارهم , فلما عادوا وتبينت لهم الحقيقة وعرفوا ان المشركين ما زالوا على حالهم من العداوة لله ولرسوله وللمؤمنين زاد ذلك من مرارتهم وألمهم حتى انهم لم يستطيعوا دخول مكة إلا متخفّين أو بجوار , ونالت قريش من الكثيرين منهم ما تحب من الأذى والتنكيل , وسجن بعضهم واشتد عليهم قومهم حتى أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة الثانية الى الحبشة وكان مصعب بن عمير رضي الله عنه من أصحاب الهجرتين الى الحبشة ونال ثوابهما وأجرهما .


مصعب الداعية والمعلّم :
بعد بيعة أهل المدينة للنبي صلى الله عليه وسلم بمكة المكرمة وإرادتهم بالعودة الى بلدهم يثرب كان لا بد من معلّم يعلمهم الاسلام وداعية يرشدهم الى أموره وأحكامه ومُقرىء يقرؤهم القرآن ويعينهم على فهم أحكامه ليعرفوا من خلاله التطبيق العملي للإيمان الذي نور قلوبهم فكان مصعب بن عمير رضي الله عنه ذلك كله فقد وقع اختيار النبي صلى الله عليه وسلم على مصعب بن عمير لهذه المهمة الجليلة العظيمة معلّماً للأنصار وداعية في البلد الاسلامي الأول وكان لذلك أهلاً رضي الله عنه وأرضاه حيث أدّى المهمة التي أرسل من أجلها حتى دخل الاسلام كل بيت من بيوت الانصار ولم يكد موسم الحج ياتي بعد عام واحد حتى كان عدد المسلمين هناك يتزايد بشكل كبير وعجيب فقدموا مكة لمبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت بيعة العقبة الثانية ثمرة سنة غنيّة بالعمل الجاد والدعوة المستمرة بإخلاص لله تعالى وإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم , وكان الإذن بالهجرة الى المدينة فكان مصعب بن عمير أول المهاجرين وتبعه المسلمون واستقبلت المدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أروع استقبال وقامت دولة الاسلام دولة الإيمان والخير والفضيلة , وكانت المؤاخاة التي سطرها النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار فآخى صلى الله عليه وسلم بين كل رجل من المهاجرين ورجل من الانصار .. وكانت مؤاخاة مصعب بن عمير مع أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهما .


يوم الشهادة :
كان شيئاً طبيعياً تتويج جهود الصحابي الجليل مصعب بن عمير بجائزة يغبطه عليها أهل الإيمان وقد قدّر الله له ذلك يوم أحُد , وكان يومها يحمل اللواء في الجهاد شأنه شأن كل الشجعان من صفوة القوم والمقاتلين , فقاتل قتال المؤمنين الأبطال وكان ممن ثبت بعدما تحول أمر المعركة في أحُد لغير صالح المسلمين بعد نزول الرماة عن الجبل وإغارة فرسان قريش على المسلمين وأقبل ابن قمئة فشد على مصعب فضرب يده اليمنى فقطعها ومصعب يهتف " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " ثم أخذ اللواء بيده اليسرى حتى لا تقع فضرب اللعين يده اليسرى فقطعها فحنا على اللواء وضمه بعضديه الى صدره وهو يهتف " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " ... الآية , ثم حمل اللعين عليه الثالثة بالرمح فأنفذه واندق الرمح ووقع مصعب بن عمير على الارض وسقط اللواء فابتدره رجلان من بني عبد الدار – سويط بن سعد بن حرملة وأبو الروم بن عمير أخو مصعب – فأخذه أبو الروم بن عمير فلم يزل في يده حتى دخل به المدينة حين انصرف المسلمون .

رحمك الله رحمة واسعة يا حامل القرآن ويا حامل راية الاسلام , فقد هانت عليك الدنيا بزينتها وزخرفها وهان عليك الوطن فهاجرت منه مراراً في ؤسبيل الله ... فجزاك الله عن الاسلام والمسلمين خير الجزاء فقد ضحيت أحسن ما تكون التضحية فعليك من الله تعالى كامل الرضوان .

يتبع بحول الله إيجاز جديد لسيرة صحابي آخر !



lwuf fk uldv vqd hggi uki