أوّل ما نرى ذكره في السيرة : أنّ عمرو بن معديكرب الزُبيدي كان صاحبه فقال له يوما : يا قيس قد ذُكر لنا أنّ رجلاً من قريش قد خرج بالحجاز يقول : انّه نبيّ ، يقال له محمد ، وأنت سيّد قومك ، فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه ، فان كان غير ذلك علمنا علمه ، وإن كان نبيّا كما يقول فإذا لقيناه اتّبعناه . فأبى عليه قيس وسفّه رأيه . وقدم عمرو عليه فأسلم ، فلما بلغ قيسا أوعده وتشدّد عليه
هذا كلّ ما رواه ابن اسحاق وعنه ابن هشام في السيرة ، والطبري في تاريخه ، ثم لم يذكر عنه إسلاما حتى روى عن فيروز الديلمي : أ نّه وثب ـ متزامنا مع الأسود العنسي ـ على فروة بن مسيك المرادي فأجلاه ونزل منزله(1) ولما توجّه العنْسي الى صنعاء أسند أمر جنده الى قيس بن عبد يغوث ، فكان قوّاده يومئذٍ هو ويزيد بن الافكل الأزدي ويزيد بن الحصين الحارثي ويزيد بن محرّم . فلما أثخن في الأرض واستغلظ أمره وثبت ملكه استخفّ بدادويه الاصطخري وفيروز الديلمي وقيس بن المكشوح المرادي وتغيّر له .
فلما بلغ كتاب النبيّ صلىاللهعليهوآله الى فيروز الديلمي ورأى أن الأسود العنسي قد تغيّر لقيس حتى أمسى يخاف على دمه ، أبلغوه عن النبي صلىاللهعليهوآله ودعوه فأجابهم إلى ذلك .
وكتب النبيّ صلىاللهعليهوآله الى ذي ظُليم وذي الكلاع وذي مُزان وعامر بن شهر ( بن بادان ) فتهيّجوا لذلك واعترضوا على العنسي وكاتبوا فيروز الديلمي وبذلوا له النصر ، وكاتبهم وأمرهم أن لا يحرّكوا شيئا حتى يبرموا الأمر .
وكتب النبي صلىاللهعليهوآله الى ساكني نجران من العرب وغيرهم من أبناء الفرس ، فانضمّ بعضهم الى بعض وتنحّوا عن غيرهم ناحية . وكاتب فيروز الناس ودعاهم . وارتاب العنسي من قيس وفيروز وهم منه في ارتياب وعلى خطر عظيم.
فيروز وابنة عمّه آزاد :
ودخل فيروز الديلمي على ابنة عمّه آزاد أرملة شهر بن بادان التي تملكها الأسود ، فقال لها : يا ابنة عمّ ، إنّ هذا لرجل قتل زوجك وأسرع القتل في قومك ،
واهان من بقي منهم وفضح نساءهم ، فهل عندك من ممالأة عليه ؟ ! فقالت : على أي أمر ؟ قال فيروز : على إخراجه . قالت : أو قتله ! قال فيروز : أو قتله . قالت : نعم ، واللّه ما خلق اللّه شخصا أبغض إليّ منه ، ما يقوم للّه على حق ولا ينتهي له عن حُرمة ، فإذا عزمتم فأعلموني اُخبركم بمنفذ هذا الأمر .
ثم أجمع ملأهم أن يعود الى المرأة فيخبرها بعزيمتهم لتخبرهم برأيها . فعاد إليها لذلك فقالت : هو متحرّز متحرّس ، وليس من القصر شيء إلاّ والحرس محيطون به غير هذا البيت فإنّ ظهره الى مكان كذا في الطريق ، فإذا أمسيتم فنقّبوا عليه فإنّكم من دون الحرس وليس دون قتله شيء ، وستجدون فيه سراجا وسلاحا .
وخرج فيروز من عند ابنة عمّه ورآه الأسود فوجأ رأسه وقال له : ما أدخلك منزلي ؟ ! فصاحت آزاد : ابن عمّي جاءني زائرا ، فوهبه لها .
فلما أمسوا واطؤوا أشياعهم وعجّلوا فلم يُراسلوا الحميريين والهمدانيين ، ونقّبوا خارج البيت حتى دخلوه فوجدوا جَفنة وتحتها سراج ، وهم قيس ودادويه الاصطخري وجُشيش ( = كشايش ) وفيروز الديلميان ، وفيروز أشدّهم وأنجدهم ، فقدّموه فخرج من ذلك البيت الى بيت الأسود ، فلما دنا من باب البيت سمع غطيطا شديدا وهو جالس والمرأة جالسة تنتظر ، فوضع فيروز ركبته في ظهر الأسود وأخذ برأسه فدقّ عنقه ، ثم أخبر أصحابه قيسا ودادويه وجشيش فقاموا معه ليحتزّوا رأسه فصاح فألجمه فيروز بثوب وأمرّ الشفرة على حلقه ، فخار خوار الثور ، فسمعه الحرس حول المقصورة فابتدروا الباب وسألوا : ما الخبر ؟ فقالت آزاد : النبيّ يُوحى اليه ! حتى خمد .
وكانوا قد اجتمعوا من قبل على شِعار بينهم وبين أشياعهم ، فلما طلع الفجر نادى دادويه بالشعار ، فتجمع الحرس وأحاطوا بهم ، فنادى جُشيش بالأذان فقال : أشهد أنّ محمدا رسول اللّه وان عَبهلة كذّاب ! وألقوا رأسه اليهم ، وتنادوا : يا أهل صنعاء ، من كان عنده منهم أحد فتعلّقوا به ، ومن دخل عليه داخل فتعلّقوا به . فانتهب الحرس ما انتهبوا ومضوا خارجين ما بين صنعاء ونجران ، وأسر أهل الدور والطرق منهم سبعين فارسا ، وهم اختطفوا معهم سبعمئة من الصبيان والعيال فتراسلوا أن يتبادلوا ما في أيديهم .
وأعزّ اللّه الإسلام وأهله ، وخلصت صنعاء والجنَد ، وتراجع أصحاب النبي صلىاللهعليهوآله ، فاصطلحوا على مُعاذ بن جبل يصلي بهم ، وكتبوا الى رسول اللّه بالخير .
وأتى النبي الخبر من السماء بقتل الأسود ليلة قُتل فقال صلىاللهعليهوآله في صبيحتها لأصحابه : قُتل العنسي البارحة ، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين . قيل : ومَن هو : قال : فيروز ، فاز فيروز إنّ اللّه قد قتل الأسود الكذّاب العنْسي ، قتله بيد رجل من إخوانكم من قوم أسلموا وصدّقوا
ونقل ابن حجر عن أبي عبيدة في مناقب الفرس : أنّ الفرس لما قتلوا الأسود العنسي بعثوا برأسه مع نفر منهم : زُرعة بن عُريب ، وعبداللّه بن الديلمي وغيرهما ، فأنذر النبي بقدومهم وأوصى بهم وبمن في اليمن منهم خيرا .
وفي تاريخ مقتله : روى الطبري عن الضحّاك بن فيروز الديلمي قال : كان العنسي مستسرا بأمره حتى خرج ، وكان ما بين خروجه في كهف خَبّان الى مقتله في صنعاء نحو من أربعة أشهر.
وفي اُخرى : كان من أوّل أمره إلى آخره ثلاثة أشهر.
وفي بدايته : روى عن أبي مويهبة مولى رسول اللّه صلى الله عليه وآله قال : لما قضى رسول اللّه حجة التمام ورجع الى المدينة تحلّل به السير ... فطارت الأخبار بتحلّل السير بالنبي وأ نّه قد اشتكى من المرض فجاء الخبر عن مسيلمة باليمامة والأسود باليمن .
وعليه فقد يستبعد ما نقله الطبري عن الواقدي : أنّ في النصف من المحرم من السنة الحادية عشرة قدم زرارة بن عمرو النخعي بوفد النخع من همدان اليمن على رسول اللّه صلى الله عليه وآله مقرّين بالإسلام وقد بايعوا من قبل مُعاذ بن جبل ، وهم مئتا رجل ثم لم يذكروا أ نّه صلى الله عليه وآله طلب منهم جهاد المرتدّين في اليمن .
اللهم إلاّ أن يقال بأ نّهم من همْدان التي أسلمت على يد علي عليه السلام ، فكانوا حديثي عهد بالاسلام .
مواقع النشر (المفضلة)