ألقواعد التطبيقية لنظرية النظم
.......
القواعد التطبيقية التي ذكرها لشرح نظريته كثيرة , عقد لها فصولاً مثل التقديم والتأخير , والحذف والذكر , والتعريف والتنكير , والفروق بين الخبر والقصر , والفصل والوصل , إلى غير ذلك من فصول , وفي هذه الفصول كلها يذكر تطبيقات عملية من آي القرآن الكريم , ومن الشعر الجيد ليبرهن على أن النظم هو الذي يرجع إليه فضل الكلام .
ففي التقديم والتأخير مثلاً : يشير إلى قوله تعالى {
قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم } " الانبياء : 62 " , حيث قدم الضمير " أنت " على الفعل " قالوا أأنت فعلت " حيث جاء نظم الآية هكذا ولم يقدم الفعل فيقال " أفعلت هذا " وسر ذلك كم يرى عبد القاهر أننا نقدم ما هو مشكوك فيه , أما الأمر المتيقن فلا يجوز أن نقدمه , فإذا كان الشك في الاسم قدمناه , وإذا كان الشك في الفعل قدمناه , فإذا سمعــــــت قصيدة من أحد الناس وأنا لا أعرف أهي من شعره أم شعر غيره , فلا يجوز أن أقول له " أقلت هــــذه القصيدة ؟ " , لأن القول مفروغ منه , وإنما يجب أن أقول " أأنت قلت هذه القصيدة ؟ " لأن هذا هــــو الأمر المشكوك فيه أقالها هو أم غيره ؟.
وإذا جلست في بيت أحد الناس فلا يجوز أن أقول " أبنيت هذا البيت ؟ " لأن البناء تم , وإنما أقول له " أأنت بنيت هذا البيت ؟" .
ونستطيع أن نفهم الآية الكريمة على هذا النحو , فالأصنام قد حطمت , ولكنهم يريدون أن يقرروا إبراهيم عليه الصلاة والسلام بتحطيمها , فجاء نظم الآية هكذا { أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم } .
وأما التعريف والتنكير , فيمثل عبد القاهر بقول الله تعالى حديثاً عن اليهود {
ولتجدنهم أحرص الناس على حياة } " البقرة : 96 " , ولم يقل الحياة , يفيد التنكير أن اليهود يحرصون على الحيـــاة أيّاً كانـــت ذليلة حقيرة , فيها هوان وصغار .
وفي الفروق بين الخبر يفرق بين قولنا " زيد منطلق " و " زيد المنطلق " و " المنطلق زيد " فإن كلاً من هذه العبارات لها معنى غير صاحبتها , وهذا هو النظم , ويطبق كل هذا على آيات من القرآن الكريم .
وفي الفصل والوصل يبين عبد القاهر أنه إذا كان هناك جملتان , وكانت الثانية متصلة بالأولى اتصالاً وثيقاً , كأن تكون تأكيداً أو بدلاً وجب فصلها عن الثانية , ومعنى الفصل ترك العطف بالواو ويمثل لذلك بقوله سبحانه {
بسم الله الرحمن الرحيم : ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه , هدى للمتقين } " البقرة 1 , 2 " , حيث جاءت كل جملة من هذه الجمل غير معطوفة على سابقتها , لأن بينها اتحاداً في المعنى .
وكذلك قوله سبحانه {
ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم } " يوسف : 31 " حيـــث جــاءت الجملـــة الثانية " إن هذا إلا ملك كريم " مفصولة غير معطوفة , لأن كونه ليس بشراً , ليس له معنى غير أنه ملك , ألا ترى أننا إذا قلنا " إنها تقية إنها تؤدي الصلوات , إنها تلبس جلباب " لا يجوز أن نعطف هذه الجمل بعضها على بعض , لأن العطف يقتضي التغاير , وكونها تؤدي الصلاة , وكونها تلبس الجلباب لا يختلف هذا أو ذاك عن كونها تقيّة , ولو قيل " إنها تقية وإنها تحسن الطهي , وإنها تجيد الخياطة " فلا بد من العطف بين هذه الجمل , لأن كلاً منها مختلفة عن صاحبتها .
وفي أسلوب القصر يبين سر النظم في آيات كثيرة مثل قوله سبحانه {
إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر } " التوبة : 18 " و {
فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب } " الرعد : 40 " و {
إنما المؤمنون إخوة } " الحجرات : 10 " فمعنى " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر " أي إن المؤمنين وحدهم هم الذين يعمرون مساجد الله لا غيرهم , ولو قيل " إنما يعمر المؤمنون مساجد الله " لكان المعنى أن المؤمنين يعمرون المساجد ولا يعمرون شيئاً آخر , وهذا غير صحيح .
وقوله سبحانه " إنما عليك البلاغ " معناه عليك البلاغ فحسب , أما غيره من الحساب فهو لله وحده , ولو قال إنما البلاغ عليك , لكان معناه أنك تبلغ دعوة الله وحدك , ولا يجوز لأحد غيرك أن يبلغ هــــذه الدعوة , وهذا ليس صحيحاً لأن المؤمنين جميعاً عليه واجب التبليغ .
وهكذا قوله " إنما المؤمنون إخوة " معناه أن أعظم علامات الإيمان الأخوّة , فالمؤمنون إخوة لا متقاطعون ولا متدابرون , ولو قيل إنما الإخوة المؤمنون , لكان المعنى رابطة الأخوة لا تكون إلا بين المؤمنين وحدهم وهذا غير صحيح , فإن الأخوة رابطة قد تكون بين المؤمنين وقد تكون بين غيرهم .
وهكذا نجد عبد القاهر يبذل قصارى جهده , وهو يحرص كل الحرص على شرح نظرية النظم , مبيناً أن إعجاز القرآن الكريم إنما هو لهذا النظم البديع الذي بهر العرب وعجزوا أن يأتوا بمثله , وها هو عبد القاهر يبين لنا الغاية من هذه النظرية – نظرية النظم – وهي إدراك الإعجاز وتذوق حلاوته .
النظم – إذن – هو سر الإعجاز , أما أنواع المجاز والاستعارة والكناية , فمع ما لها من شأن إلا أن الفضل يرجع فيها إلى النظم , ويمثل لذلك بقوله سبحانـــه {
واشتعـــل الـــرأس شيبـــاً } " مريم : 4 " فالاستعارة في قوله سبحانه " اشتعل " فالاشتعال كما نعلم للنار , ولكن شبه الشيب بالاشتعال .
يرى عبد القاهر أن الفضل للنظم , لا للإستعارة وحدها , فلو أننا أبقينا الإستعارة وغيرنا النظم فقيل شيب الرأس , لم يكن للكلام هذا الفضل وتلك المزية , وإنما المزية والفضل أن أسندنا الاشتعـــال إلــى الرأس , وجعلت كلمة شيباً تمييز , وهو تمييز محول عـن الفاعـل كمـا يقــول النحويـــون , لأن الأصـــل " اشتعل الرأس شيباً " .
وإذا أردت أن تدرك الفرق بين النظم في الجملتين , أعني النظم القرآني " اشتعل الرأس شيباً " وقولنا " اشتعل شيب الرأس " , فانظر إلى هاتين الجملتين " اشتعلت النار في البيت " و " اشتعل البيت ناراً " , ولا شك أنك مدرك ما بين الجملتين من فرقٍ شاسع , فالأولى تفيد اشتعال النار في جزء من البيت وقد يكون صغيراً , أما الثانية فتفيد التعميم أي اشتعال النار في البيت كله .
وجه إعجاز القرآن عنده :
وأخيراً يصل عبد القاهر إلى الحديث عن إعجاز القرآن , أي ما الذي أعجز العرب , ويضع احتمالات متعددة , فقد يكون إعجاز القرآن في مفرداته , أو معانيه , أو حركاته , أو فواصله , أو غريبه , ولكنه يرد كل هذه الوجوه , يقول : - لا يجوز أن يكون – الإعجاز – في الكلم المفردة التي هي أوضاع اللغة , قد حدث في مذاقة حروفها وأصدائها أوصاف لم تكن لتكون تلك الأوصاف فيها قبل نزول القرآن , وتكون قد اختصت في أنفسها بهيئات وصفات يسمعها السامعون عليها إذا كانت متلوة في القرآن , لا يجدون لها تلك الهيئات والصفات خارج القرآن .
ولا يجوز أن تكون في " معاني الكلم المفردة " التي هي لها بوضع اللغة , لأنه يؤدي إلى أن يكون قد تجدد في معنى – الحمد – و – الرب – ومعنى العالمين والملك واليوم والدين وهكذا , وصف لم يكن قبل نزول القرآن , وهذا ما لو كان ههنا شيء أبعد من المحال وأشنع , لكان إيّاه .
ولا يجوز أن يكون هذا الوصف في " ترتيب الحركات والسكنات " حتى كأنهم تحدوا أن يأتوا بكلام تكون كلماته على تواليه في زنة لكلمات القرآن , وحتى كأن الذي بان به القرآن من الوصف في سبيل بينونة بحور الشعر من بعض , لأنه يخرج إلى ما تعاطاه مسيلمة من الحماقة في " إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وجاهر " و " والطاحنات طحناً " .
وكذلك الحكم إن زعم زاعم أن الوصف الذي تحدوا إليه هو أن يأتوا بكلام يجعلون له مقاطع , وفواصل كالذي تراه في القرآن , لأنه أيضاً ليس بأكثر من التعديل على مراعاة وزن , وإنما الفواصل في الآي كالقوافي في الشعر , وقد علمنا اقتدارهم على القوافي كيف هو , فلو لم يكن التحدي إلا إلى فصول من الكلام يكون لها أواخر أشباه القوافي , لم يعوزهم ذلك ,ولم يتعذر عليهم .
ولا يجوز أن يكون الإعجاز بأن لم يلتق في حروفه ما يثقل على اللسان , فإذا بطل أن يكون الوصف الذي أعجزهم من القرآن في شيء مما عددناه , لم يبق إلا أن يكون في " النظم " لأنه ليس – من بعدما أبطلنا أن يكون فيه – إلا النظم والاستعارة , ولا يمكن أن تجعل الاستعارة الأصل في الإعجاز , وأن يقصر عليها , لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون الإعجاز في آي معدودة في مواضع من السور الطوال مخصوصة , وإذا امتنع ذلك فيها , ثبت أن النظم مكانه الذي ينبغي أن يكون فيه .. ومن المفيد أن نشرح هذه الجملة من القول بإيجاز :
يبين عبد القاهر – رحمه الله – الأمر الذي كان به إعجاز القرآن الكريم , وتحدوا به فعجزوا أن يأتوا بمثله , وهو في هذا يطرح بين يدي القارىء عدة أمور , يحتمل كل واحد منها أن يكون وجهاً من وجوه الإعجاز .
الاحتمال الأول : من الممكن أن يكون الذي أعجزهم كلمات القرآن وألفاظه المفردة , ولكن عبد القاهر يرد هذا القول , وحق له أن يرد , لأن معنى كون هذه الألفاظ معجزة جهل العرب بها قبل نزول القرآن , وأنهم لم يسمعوها إلا بعد أن نزل بها القرآن الكريم وهذا غير مقبول , لأن ألفاظ القرآن الكريم لا يجهلها العرب , ولهذا لم تكن غريبة عليهم .
الاحتمال الثاني : أن يكون الذي أعجز العرب معاني الكلمات , وهذا مردود أيضاً , لأنه يلزم منه أن يكون للكلمة معنى قبل نزول القرآن , وأن يكون لها معنى آخر تجدد بنزول القرآن الكريم , وهذا غير مقبول لأن معنى الحمد , والكتاب , والريب , والفلاح , والخداع , والفساد , والاستهزاء , والعبادة , والفراش , والأرض , والسماء , وغيرها من ألفاظ , إن معنى هذه قبل نزول القرآن وبعد نزول القرآن شيء واحد .
الاحتمال الثالث : أن يكون سبب عجز العرب القالب الشكلي الذي جاءت عليه الكلمات القرآنية , بيان ذلك أن كلام العرب ليس نوعاً واحداً , فمنه الشعر ومنه الرجز , ومن السجع , منه كلام موزون وكلام غير موزون , والبنية الشكلية التي جاء عليها القرآن الكريم تختلف عن كل ما ألفه العرب وعرفوه , فليس شعرأ وليس سجعاً , وليس شيئاً آخر من هذه الأشكال التي نطق بها العرب , ويرد عبد القاهر هذا الاحتمال , لأن من ركب جملاً تشبه الجمل القرآنية حري أن يكون كلامه معجزاً , ومنه هذه الحماقات التي قيل إنها عورض بها القرآن مثل " والطاحنات طحناً " و " والعاجنات عجناً " و " والفيل وما أدراك ما الفيل " ومثل " إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وجاهر " و " ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى , أخرج منها نسمة تسعى " , ولا يشك أصحاب هذه الكلمات بأنها حماقات ركيكة .
الاحتمال الرابع : أن يكون وجه الإعجاز الفواصل القرآنية , ويرد عبد القاهر هذا الاحتمال , لأن الفاصلة مثل القافية في الشعر , ولقد برع القوم في الشعر – كما نعلم – ومن برع في الشعر وقوافيه لا يعجز أن يجعل للكلام خاتمة تشبه القافية .
ولا بد أن نعلق هنا بكلمة قصيرة , وهي أن عبد القاهر ينفي أن يكون وزن الفاصلة وجهاً من وجوه الإعجاز , أما اختيار الكلمة في الفاصلة كأن تختار كلمة يفقهون في آية ويعلمون في آية أخرى , وسميع بصير في آية , وغفور رحيم في أخرى , ولقوم يتفكرون في آية , وقوم يعقلون في أخرى , فهذا يدخل في النظم الذي هو لُب الإعجاز .
الاحتمال الخامس : أن تكون خفة الكلمات وعدم ثقلها وتنافرها هو وجه الإعجاز , ويرد عبد القاهر هذا القول بأن للعرب كلاماً مثيراً خالياً من الثقل والتنافر , متلائمة حروفه في كلماته , وكلماته في جمله , ولم يقل أحد إن ذلك من الإعجاز .
الاحتمال السادس : أن يكون وجه الإعجاز ما في القرآن الكريم من استعارات , ويرد عبد القاهر هذا القول بأن الاستعارات ليست في جميع الآيات القرآنية , فكثير من الآيات , أو أكثرها ليس فيه استعارة , ويلزم على هذا القول أن تكون الآيات الخالية من الاستعارة غير معجزة وهذا أمر مجمع على ردّه .
وإذا بطلت هذه الاحتمالات كلها لم يبق إلا وجه واحد , وهو النظم , فنظم القرآن هو الذي كان به القرآن معجزاً , وهو الذي أعجز العرب , ولذا لما قالوا إن القرآن مفترى , قال لهم : هاتوا أنتم عشر سور مفتريات , افتروا معانيها كما تشاءون , ولكن لتكن في نظم يشبه نظم القرآن , فعجزوا .
والحق أن عبد القاهر قد سلك لإثبات ما يريد طرقاً فجاجاً , ولم يترك منفذاً يرى فيه ثغرة لمعترض إلا سدّه , ولقد اشتمل كتاب الدلائل كما عرفنا من قبل على جانبين , الجانب النظري يناقش فيه الذين جعلوا الفضل للفظ ويرد عليهم ويقسو أحياناً , والجانب العملي الذي كان تطبيقاً لقواعد النظم .
وبعد فهذه نظرية عبد القاهر امتازت بعمق التحليل , وحسن السبك , وصحة الترتيب ودقة الموضوع , ولقد برز فيها جانبان اثنان : الجانب النفسي أولاً والجانب الفكري ثانياً .
أما الجانب النفسي , فيظهر في عمق التأثير الذي يحس به القارىء وهو يتأمل ويتدبر الكلام البليغ وفي مقدمته الآيات القرآنية , وأما الجانب الفكري , فنجده في العلاقة بين المعاني بعضها مع بعض من جهة , وبينها وبين الألفاظ لا من حيث الوضع فحسب , بل من حيث الوضع والترتيب كلاهما .
هذه خلاصة عجلى لتلكم النظرية العظيمة التي كانت نتاج فكر لأحد عظماء هذه الأمة – رحمهم الله , رحم الله عبد القاهر وجزاه عن العربية , وكتابها المبين , ودينها الخالد خير الجزاء .
يتبع –
الفصل الثاني .. المحدثون والإعجاز !
.......
مواقع النشر (المفضلة)