النتائج 1 إلى 16 من 16

الموضوع: ألإعجاز في القرآن الكريم !

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على النبي وآله وصحبه أجمعين ....... شاء الله تعالى أن نقع على كتاب لأحد أساتذة الجامعات .. وعالم جليل من علماء

  1. #1
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي ألإعجاز في القرآن الكريم !


    بسم الله الرحمن الرحيم
    والصلاة والسلام على النبي وآله وصحبه أجمعين
    .......


    شاء الله تعالى أن نقع على كتاب لأحد أساتذة الجامعات .. وعالم جليل من علماء الأمة في العصر الحالي ! وهو بعنوان ( ألإعجاز في القرآن ) .. ومع أنه ليس الأول في هذا المجال , إلا أننا وجدنا فيه الشيء الجديد من الفكر الذي فتح الله به على مؤلفه الذي عاش فاقداً للبصر " كفيفاً " ! لكن الله حباه من نعمه ما أغناه عما فقده .. وقد قدر الله لنا معرفته عن قرب في ديار الغربة لسنوات طويلة , ثم عاد الى أرض الوطن أستاذاً في الجامعة الاردنية .. وعرف على مستوى العالم الاسلامي لبلاغة لغته وقوتها , وكذا قوته في مجابهة كل من ادعى علماً عن غير تأصيل ودراسة .. حتى أنه كان يحفظ فقه الأئمة الأربعة عن ظهر قلب , وكان حاداً مع أولائك المدعين رحمه الله .. إنه الدكتور " فضل حسن عباس " الغني عن التعريف .
    ولما أن كان هذا الكتاب يدرس في الجامعات .. إلا أنه لا يوجد في متناول ايدي الناس .. فرأينا من المناسب والمفيد أن ننقل عنه هذه الجواهر لعلها تفيد القارىء الكريم ونسأل الله أن يتقبلها صدقة جارية عن والدينا ووالدي كل من اطلع عليها ونشرها بين الناس .. والله ولي التوفيق .



    إعجاز القرآن الكريم
    بســـم الله الرحمـــن الرحيـــم

    مقدمـــة :
    ..... { الحمد لله رب العالمين , مالك يوم الدين , إياك نعبد وإياك نستعين , إهدنا الصراط المستقيم , صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ... آميــــــــــن } .
    ..... { ألحمد لله الذي خلق السموات والأرض , الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا .. قيماً } , { الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة , وهو الحكيم الخبير } , { الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ويزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير , ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها , وما يمسك فلا مرسل له من بعده , وهو العزيز الحكيم } .
    ..... وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد رسول الله , الرحمة المهداة والنعمة المسداة , وعلى آله وصحبه الطيبين الأبرار ومن تبعهم بإحسان ... اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أبداً ... أفضل صلاة صليتها على أحد من خلقك , صلاة وسلاماً تامّين دائمين متلازمين إلى الدين ... اللهم صلّ على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا ابراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم , في العالمين إنك حميد مجيد وسلّم تسليماً كثيراً يا رب العالمين .
    أمـــا بعـــد :
    ..... فأن من نعم الله علينا أن وفقنا لإخراج هذا الكتاب " إعجاز القرآن الكريم " , راجين أن يجد فيه طلاب الحق بعامة , وطلاب كليات المجتمع , والمعاهد والجامعات بخاصة بغيتهم وغُنيتهم , ولقد توخينا – ما استطعنا – حسن العرض , ويُسر الأسلوب , وجدة المادة , وسهولة العبارة ... لم نأل جهداً في إخراجه بالصيغة العلمية التي تليق بمثل هذا الموضوع , وموضوع الإعجاز من أعظم الموضوعات شأناً وأجلها خطراً .
    ..... ولقد حرصنا فيه كل الحرص مع ما نقدم على أمانة النقل حيث اجتهدنا أن ننسب كل قول إلى قائله أيّاً كان , وإن فاتنا شيء من هذا – ونرجوا أن لا يكون – فإنه من السهو الذي نرجوا الله أن يغفره .
    ..... أما ما ذكرنا دون أن ننسبه لأحد فهو مما فتح الله لنا فيه أبواباً من الفهم , راجين أن يوفقنا الله لشكر نعمه , وننبه كذلك على أن ما ناقشنا فيه بعض الكاتبين الفضلاء , لم نقصد فيه سوى غاية نبيلة هي أمانة العلم , نرجوا أن يجد فيها القارىء الكريم ما يقنع ويمتع .
    ..... ومن نعم الله نرجوا الله أن يوفقنا لشكرها , أنني كتبت هذا الكتاب أنا وابنتي - سناء - , وقد زاولت دراسة هذه المادة في كليات في أكثر من كلية من كليات المجتمع , فصولا عديدة , وأعترف هنا أنني عولت عليها في كتابة كل ما أخرجت للمكتبة , ربي أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والديَّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين , واجعلنا اللهم من الذين تتقبل عنهم أحسن ما عملوا , وتتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة , وعد الصدق الذي كانوا يوعدون .
    ..... وقد جاء الكتاب في تمهيد وبابين :
    ألتمهيد : وفيه أمور عامة حاجة الناس إلى الرسل عليهم الصلاة والسلام , وتعريف المعجزة في اللغة والاصطلاح , وشروط المعجزة , والمقصود من إعجاز القرآن , والتحدّي ومراحله .
    ألباب الأول : تاريخ الإعجاز وفيه فصلان :
    - الفصل الأول : جهود الأقدمين والأدوار التي مرّت بها كتابة الإعجاز .
    - الفصل الثاني : دراسات المحدثين في الإعجاز .
    ألباب الثاني : وجوه الإعجاز وهو في ستة فصول :
    - الفصل الأول : ألإعجاز البياني .
    - الفصل الثاني : ألإعجاز العلمي .
    - الفصل الثالث : ألإعجاز التشريعي .
    - الفصل الرابع : ألإخبار عن الأمور الغيبية .
    - الفصل الخامس : ألإعجاز النفسي والروحي .
    - الفصل السادس : ما يسمى بالإعجاز العددي .
    والله نسأل أن ينفع به ويأجرنا عليه , إنه سميع قريب , وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
    د . فضل حسن عباس
    سناء فضل عباس

    ------------------



    HgYu[h. td hgrvNk hg;vdl !


  2. #2
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي المعجزة !


    ألمعجـــزة !
    أصل مادة معجزة .. العجز , يقول الراغب الأصفهاني – رحمه الله - : عجز " عجز الانسان مؤخره , وبه شُبه مؤخر غيره , قال ( كأنهم أعجاز نخل خاوية ) " القمر : 20 " ... والعجز أصله التأخر عن الشيء وحصوله عند عجز الأمر , أي مؤخره , كما ذكر في الدبر , وصار في التعارف إسماً للقصور عن فعل الشيء , وهو ضد القدرة , قال ( أعجزت أن أكون ) " المائدة : 31 " , وأعجزت فلاناً وعجّزته وعاجزته جعلته عاجزاً ... والعجوز سميت لعجزها في كثير من الأمور , قال ( إلا عجوزاً في الغابرين ) " الشعراء : 171 " وقال ( أألد وأنا عجوز ) " هود : 72 " .
    والراغب الأصفهاني إمام ألمعي , وكتابه " المفردات " من خير المعاجم القرآنية حقيقة , ونتمنى أن يقيّض الله من ينسج على منواله .
    وذكر ابن فارس في " معجم مقاييس اللغة " أن العين والجيم والزاي تدل على أصلين : أحدهما الضعف والآخر مؤخر الشيء , وجاء في بعض المعاجم أن معنى العجز الضعف .
    وأمام هذه الآراء الثلاثة , نرى أن أولاها قول الراغب الأصفهاني , فأصل العجز في اللغة مؤخر الإنسان , واستُعير لغيره , وهناك صلة وثيقة بين هذا المعنى وبين القصور عن الشيء , فإن القصور والتأخر متلازمان , لأن من تأخر عن غيره إنما يرجع ذلك إلى تقصيره , ولسنا مع ابن فارس – إذن – بأن هذه المادة تدل على أصلين اثنين , بل تدل على أصل واحد , وهو مؤخر الشيء , والتقصير إنما هو ناتج عن هذا المعنى .
    والمتدبر لآي القرآن الكريم يدرك هذه القضية , واللغويون والمفسرون مجمعون على أن ليس للعجز إلا هذا المعنى .
    ألمعجزة إصطلاحاً !
    ألمعجزة في الاصطلاح هي ما يدل على تصديق الله تعالى للمدعي في دعواه الرسالة , أو هي تأييد الله مدعي النبوة بما يؤيد دعواه ليصدقه المرسل إليهم .
    شروط المعجـــزة !
    ومن هذا التعريف نستنتج أن للمعجزة شروطاً لا بد أن تتحقق ..
    ألأول : أن تكون المعجزة فعلاً لله تبارك وتعالى , ذلكم لأن المعجزة تصديق للرسول الذي أرسله الله , فلا بد أن تكون المعجزة آية من الله , وهذه الآية قد تكون قولاً كالقرآن الكريم , وقد تكون فعلاً كفلق البحر لسيدنا موسى عليه الصلاة والسلام , وقد تكون تركاً كعدم إحراق النار لسيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام .
    ألثاني : أن يكون هذا الأمر خارقاً للعادة , بيان ذلك : أن الحياة كما نعلم ارتبطت فيها الحوادث بأسبابها , وهذا ما اعتاده الناس وألفوه , والمعجزة لا بد أن تكون خارجة عن هذا المألوف , وهذا شأن معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام , فلم يألف الناس أن تتحول العصا إلى حيّة , أو أن النار لا تحرق , أو أن البلغاء يعجزون عن أن يأتوا بمثل كلام بليغ .
    ألثالث : أن تكون معارضتها غير ممكنة , بمعنى أن الناس لا يقدرون أن يأتوا بمثلها , إذ لو أمكن الإتيان بمثلها لم تصلح أن تكون معجزة .
    ألرابع : أن تكون هذه المعجزة ظهرت على يد من ادعى النبوة , فلو أتى غير من ادعى النبوة بما هو خارق للعادة , فإن ما أتى به لا يسمى معجزة , ومن هنا يجب أن نتجنب هذا الخطأ الشائع بين الناس وهو إطلاق المعجزات على ما يفعله بعض الناس في أيامنا هذه , فالمعجزات إنما هي للأنبياء عليهم الصلاة والسلام , ولا يصح أن نصف أي عمل جاء به غيرهم بأنه معجزة .
    ألخامس : أن يكون موافقاً لما ادعاه النبي , فلو قال معجزتي إحياء الموتى ولكن الذي حصل على يديه نطق الحجر مثلاً لم تكن هذه معجزة .
    ألسادس : أن لا يكون هذا الأمر مكذباً لصاحبه , فلو قال مثلاً معجزتي نطق الجبل , ونطق الجبل فقال : أنت كاذب , لا تكون هذه معجزة .
    ألسابع : أن تكون المعجزة بعد ادعاء النبوة , أما إذا كانت قبل دعوى النبوة فلا تكون معجزة وإنما يسمى ذلك إرهاصاً , ومثال ذلك كلام سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام في المهد .
    هذه شروط المعجزة التي ذكرها العلماء رحمهم الله , ومن هذه الشروط ندرك أن المعجزة تفترق كثيراً عن كل ما يراه الناس غريباً عما ألفوه وعرفوه كالكرامة والسحر والمخترعات الغريبة .
    ألفرق بين المعجزة والكرامة !
    فالفرق بين المعجزة والكرامة , أن الكرامة فعل لله سبحانه يكرم به من يشاء من عباده الصالحين , وذلك مثل ما أكرم الله به مريم رضي الله عنها , قال تعالى { كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً , قال يا مريم أنّى لك هذا قالت هو من عند الله } " ال عمران : 37 " .. ومن هذا القبيل ما أكرم الله به الفتية الذين آمنوا بربهم وهم أهل الكهف , على أن من أظهر الله الكرامة على يديه ينبغي أن لا تزهو نفسه بها , ولا تكون سبباً لفتنته , ولا يجب نشرها وإذاعتها بين الناس , لأن هذا لا يتفق مع الصلاح والورع والتقوى .
    ألفرق بين المعجزة والسحر !
    وتفترق المعجزة عن السحر بما يلي :
    1 – أن المعجزة تظهر على يد نبي , والنبي من صفوة خلق الله , أما السحر فهو من ساحر , والساحر من أخبث الناس نفساً .
    2 – أن المعجزة فعل لله تعالى , لا يستطيعه أحد من الناس , أما السحر فهو من فعل الساحر وهو أمر يمكن تعلمه .
    3 – إن المعجزة فيها خير الناس وصلاحهم , أما السحر فليس فيه إلا الأذى والشر والشحناء , هذا إذا قلنا إن للسحر حقيقة .
    وبعد هذا يمكنكم أن تفرقوا بين المعجزات وبين المخترعات الحديثة , لأن هذه خاضعة لقواعد يمكن أن تتعلّم .
    يتبع – توخي الحكمة في المعجزة
    .......

  3. #3
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي


    توخّي الحكمة في المعجزة
    .......
    إن من حكمة الله سبحانه أن تكون هذه المعجزة منسجمة مع أحوال الناس الذين ظهرت فيهم , ذلك لأن الناس يختلفون باختلاف أزمنتهم وأمكنتهم , فإذا كانت غاية المعجزة أن يرى الناس فيها صدق الرسول , وقيام الدليل على صحة دعواه , كان لا بد أن تكون المعجزة جارية مع تفكيرهم , ومع طبيعة بيئتهم .
    فمعجزة صالح عليه الصلاة والسلام كانت الناقة , ذلك لأن ثمود وهي إحدى القبائل كانوا يعنون بشأن الإبل ويعيشون في مكان هم في أمس الحاجة فيه إلى الماء , فكانت معجزته عليه الصلاة والسلام الناقة آية , لها شرب ولهم شرب يوم معلوم .
    كذلك معجزة موسى عليه الصلاة والسلام العصا الجافة التي ألقاها باسم الله فإذا هي حية تسعى , وهي تشبه السحر , والأمة التي تحداها تفوقت في السحر وحذقته .
    ومعجزة عيسى عليه الصلاة والسلام منسجمة مع البيئة , ذلك لأن العهد الذي أرسل فيه عليه الصلاة والسلام كان عهداً قد طغت عليه المادة وبخاصة على بني إسرائيل , حيث قطعوا كل صلة بينهم وبين شريعة موسى , فكانت معجزته – إذن – تقويضاً للمادة رأساً على عقب , وصفعة للماديين , وليس الأمر كما قيل من أن القوم قد برعوا في الطب فكانت معجزته عليه الصلاة والسلام مما برعوا فيه , ذلك أنه لم يثبت أن القوم برعوا في الطب أولاً , وأما ثانياً فلأن معجزاته عليه الصلاة والسلام ليست مما للطب فيه حيلة ومعرفة , فإحياء الموتى أمر ليس للطب فيه مجال , كذلك إبراء الأكمه والأبرص , لأن الأكمه من وُلد ممسوح مكان العينين , وهذا من الأمور التي لا يستطيعها الطب أبداً , ولا يزال الطب عاجزاً عن مداواة البرص , وكذلك إخباره عليه الصلاة والسلام عما يأكلونه ويدخرونه في بيوتهم بعيد عن مجال الطب .
    إذن هذه المعجزات نجدها جميعها معجزات مادية , كما نجدها معجزات غير دائمة , بل تنتهي بإنتهاء النبي الذي جاء بها , بل ربما تنتهي في حياته , ونجدها من جهة ثالثة ملتئمة متناسبة مع العصر .
    أما معجزة النبي – صلى الله عليه وسلم – فقد كانت بدعاً من المعجزات السابقة , فهي معجزة بعيدة عن أن تشوبها شوائب المادة , بل هي معجزة عقلية إنسانية , ثم هي بعد ذلك ليست محددة بزمان معيّن , وإنما هي باقية على مدى الدهر { إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون } " الحجر : 9 " , وهي من جهة ثالثة تتفق مع حال أولائك الذين أرسل فيهم النبي عليه وآله الصلاة والسلام , حيث كانوا أئمة القول , وفرسان حلبة الكلام شعره ونثره .
    يتبع – بقاء معجزة النبي صلى الله عليه وسلم
    .......

  4. #4
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي


    بقاء معجزة النبي صلى الله عليه وسلم
    .......
    أرسل الله نبيه عليه الصلاة والسلام إلى الناس كافة , قال سبحانه { وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً } " سبأ : 28 " , وقال { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً } " ألأعراف : 158 " , ويقول النبي عليه وآله الصلاة والسلام ( كان كل نبي يُبعث إلى قومه خاصة , وبُعثت إلى كل أحمر وأسود ..... وختم بي النبيون ) .
    ولما كانت رسالته عليه وآله الصلاة والسلام عامة للناس جميعاً , كانت باقية كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها , قال تعالى { وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ } " ألأنعام : 19 " , ومن هنا فلابد أن تكون معجزة النبي عليه وآله الصلاة والسلام تختلف عن غيرها من المعجزات , لذا كانت المعجزات السابقة تختلف عن الكتب التي يوحيها الله إلى الأنبياء , فكتاب موسى عليه الصلاة والسلام التوراة , أما معجزته فاليد والعصا وغيرها , وكتاب عيسى عليه الصلاة والسلام الإنجيل , أما معجزته فكما حدثنا القرآن الكريم كانت إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص .
    أما القرآن الكريم , فكان الكتاب والمعجزة في آن واحد , فهو يقوم مقام آيات كثيرة , وهذا معنى قوله تعالى { وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين , أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون } " العنكبوت : 51 " , إنه رحمة في هدايته , وذكرى في إعجازه .
    ومع أن النبي عليه الصلاة والسلام , أكرمه الله بكثير من المعجزات الحسية , كنبع الماء من أصابعه الشريفة , وتسبيح الحصى في يديه , وحنين الجذع إليه , وغير هذا مما صح في كتب السنة , فإن المعجزة الباقية , كانت هذا الكتاب الكريم المعجزة الباقية على مدى الدهر .
    أخرج الإمام مسلم رضي الله عنه عن النبي عليه وآله الصلاة والسلام ( ما من نبي من الأنبياء إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر , وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحى الله إليَّ , فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة ) أخرجه في كتاب الإيمان .
    عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ودوامها يتطلبان أن تكون المعجزة باقية , تخاطب أسمى ما في الإنسان قلبه وعقله , وقد جاء القرآن الكريم ليكون تربية للنوع الإنساني في مجالات حياته كلها , من هنا كان رحمة , كما جاء يتحدى الخلق جميعاً على أن يأتوا بمثله , ومن هنا كان ذكرى , وإن كل الفلسفات وجميع القوانين التي كانت قبل هذا القرآن لشاهد صدق على سمو القرآن الكريم وعظمته ورفعة شأنه .
    هذه هي الأسباب التي من أجلها كانت معجزة النبي عليه وآله الصلاة والسلام معجزة عقلية خالدة , تامّة الهداية , لا تقتصر على مجال دون آخر , واضحة ليس فيها غموض , عامة لا تقتصر على مكان دون آخر , أو شعب دون شعب , باقية لا تخص زمناً دون آخر , فهي لا تخص أمة دون أمة , ولا زماناً دون زمان , ولا مكاناً دون مكان .
    على أن بعض الكاتبين علل بقاء معجزة النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرها من المعجزات تعليلاً غريباً , حيث ذكر أن معجزة الأنبياء عليم الصلاة والسلام كانت فعلاً من أفعال الله , والفعل له بداية ونهاية , ولكن القرآن الكريم كان صفة من صفات الله , والصفة باقية ببقاء الموصوف , وهذه حذلقة بعيدة عن منطق العلم .
    وعلل بعضهم كون معجزة النبي صلى الله عليه وسلم عقلية , بأن الناس في عصر البعثة قد اتجهوا إلى التجريد العقلي , والتعامل مع الأمور المعنوية العقلية , حيث ظهر الفلاسفة العقلانيون التجريديون مثل سقراط وأرسطو وفيثاغورس , وكان العرب أيضاً متأثرين بذلك التوجه , يميلون إلى التجريد العقلي .
    وهذا قول لابد له من إعادة النظر , لأن هناك أموراً خطيرة تترتب عليه , ففيثاغورس كان في القرن السادس قبل الميلاد , وسقراط كان في القرن الرابع , وأرسطو كان في القرن الثالث قبل الميلاد , وعلى هذا فهم أقرب إلى سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام , فلا يجوز – إذن – أن نعلل معجزة القرآن بظهور هؤلاء الفلاسفة , لبُعد ما بينهم وبين ظهور النبي صلى الله عليه وسلم .
    الله أعلم حيث يجعل رسالته , وربك يخلق ما يشاء ويختار , فالله تبارك وتعالى هو الذي اختار الزمان والمكان لرسالة نبيه صلى الله عليه وسلم , لتكون عامة خالدة .
    يتبع إعجاز القرآن
    .......

  5. #5
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي


    إعجاز القرآن ...
    .......
    إن معنى إعجاز القرآن عجز الناس عن أن يأتوا بمثله , فكلمة إعجاز مصدر وإضافتها إلى القرآن من إضافة المصدر لفاعله , فكأن التقدير أعجز القرآن الناس أن يأتوا بمثله , ومعنى ذلك أن هذا القرآن الكريم دلَّ بما فيه من بيان على أنه من عند الله , وثبت عجز الناس أن يأتوا بمثله .
    متى ظهرت كلمة إعجاز ؟ : -
    من المفيد أن ننبه هنا على أن هذا المصطلح لم يكن معروفاً في عهد النبوة والصحابة والتابعين , إنما عُرف فيما بعد , دليل ذلك كتاب الله تبارك وتعالى , فالكلمة التي كانت تقوم مقام المعجزة في الآية , وهذا ما ورد كثيراً في كتاب الله تبارك وتعالى , قال تعالى { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون , وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً } " الاسراء : 59 " , وقال تعالى { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } " الاسراء : 101 " , وقال { وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين , أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون } " العنكبوت : 50 , 51 " .
    فالآية والآيات هي التي عبّر عنها بالمعجزات فيما بعد , ولكن متى ظهر هذا المصطلح ؟
    يغلب على ظننا أن مصطلح الإعجاز والمعجزة لم يظهر قبل القرن الثاني الهجري , ولقد نشأ في بيئة المتكلمين الذين كانوا يدافعون عن القرآن الكريم , ويردون أباطيل الملاحدة والزنادقة وأهل الزيغ , والأهواء , وهو مصطلح له ما يؤيده من اللغة .
    وجـــــوه الإعجـــــاز
    وإذا كان المسلمون والمنصفون من غيرهم مجمعين على أن القرآن الكريم كتاب مُعجز , وهو المعجزة العظمى لسيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أقول إذا كان هؤلاء وأولئك متفقين على هذا , ومتفقين كذلك على أن بيان القرآن وبلاغته ونظمه من أعظم ومن أهم وجوه إعجازه , فلقد اختلفوا فيما وراء ذلك !
    رأى بعضهم أن القرآن معجز ببيانه فحسب , وذهب أكثر العلماء إلى أن وجوه الإعجاز كثيرة ومتعددة فهناك الإعجاز البياني , وهناك الإعجاز التشريعي والخلقي , وهناك الإعجاز العلمي .. إلى غير ما هنالك من وجوه , سنحدثك عنها فيما بعد إن شاء الله .
    والقائلون بتعدد هذه الوجوه مجمعون على أن الإعجاز البياني هو أعظم هذه الوجوه وأهمها وأعمها , ذلك لأنه لا تخلو منه آية من كتاب الله تعالى , أما الوجوه الأخرى فليست كذلك فهي مفرقة فيه .
    وقبل أن نصدر حكماً , وننتصر لأحد هذين الرأيين , يجمل بنا أن نتحدث عن التحدي ومراحله , لأن لها أثراً كبيراً في ترجيح أحد هذين الرأيين .
    يتبع – التحـــــــدي !
    .......

  6. #6
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي


    ألتحـــــــدي !
    .......
    امتاز العرب بسلامة السليقة , وسرعة البديهة , فقد عرفوا كثيراً من أصول النقل الأدبي معرفة ناتجة عن ذوق , وقد يكون ذوقاً معللاً في كثير من الأحيان , لذلك لما سمعوا القرآن الكريم يُتلى عليهم – وقد بلغت اللغة عند نزوله أشدها – استولى على مسامعهم , وسار حديث مجامعهم ونواديهم , تهتز له ألبابهم وأفئدتهم , وكان حريّاً بهم وقد تذوقوا حلاوته أن يؤمنوا به كتاباً منزلاً , وبالذي جاء به نبياً مرسلاً , ولكنهم كانوا أشد عناداً , فتحداهم القرآن , وأرخى لهم العنان في التحدي , ولكنهم وقفوا أمام القرآن موقف العاجز فلم يستطيعوا معارضته , مع أن الأسباب الباعثة على المعارضة كانت موفورة متضافرة , وأي شيء أقوى في استثارة حميّة خصمك من ذلك التقريع البليغ المتكرر الذي توجهه إليه , معلناً فيه عجزه عن مضاهاة عملك !
    إن هذا التحدي وحده كافٍ في إثارة حفيظة الجبان وإشعال همته للدفاع عن نفسه بما تبلغه طاقته , فكيف لو كان الذي تتحداه مجبولاً على الأنفة والحميّة , وكيف لو كان العمل الذي تتحداه به هو صناعته التي بها يفاخر , والتي هو فيها المدرب الماهر , وكيف لو كنت مع ذلك ترميه بسفاهة الرأي وضلال الطريق , وكيف لو كنت تبتغي من وراء هذه الحرب الجدلية هدم عقائده , ومحو عوائده , وقطع الصلة بين ماضيه ومستقبله !
    ولذا كان القرآن الكريم شغلهم الشاغل , فلجأوا إلى وسائل كثيرة لمقاومته باللطف أو بالعنف , فأغروا النبي – صلى الله عليه وسلم – بالمال ليكف عن دعوته , وتواصوا على مقاطعته وحبسه , ومنعوا صوت القرآن أن يخرج من دور المسلمين خشية أن يسمعه أحد من أبنائهم , وألقوا فيه الشبهات والمطاعن , فقالوا كاهن أو مجنون أو ساحر ليصدوا عنه الآخرين , وكل هذا لأنهم أحسّوا في قرآنه قوة غلاّبة وتياراً جارفاً يريد أن يبسط سلطاته حيث يصل , وإنهم لم يجدوا سبيلاً لمقاومته من طريق المعارضة الكلامية , فكان الطريق الوحيد لمقاومته هو الحيلولة بين هذا القرآن وبين الناس , فخاضوا مع النبي – صلى الله عليه وسلم – الحروب الطويلة وضحوا في سبيل ذلك بالغالي والنفيس , وهذه أحوالهم كلها تدل على عجزهم .
    ومما يدل على عجزهم كذلك أقوالهم , وهي كثيرة منها : أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فلما قرأ عليه القرآن كأنه رقّ له , فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال له : يا عم إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالاً ليعطوكه , فإنك أتيت محمداً لتتعرض لما قِبَلَه , قال الوليد : لقد علمت قريش أني من أكثرها مالاً , قال : فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له وكاره , قال : وماذا أقول ؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم مني بالشعر ولا برجزه , ولا بقصيده ولا بأشعار الجن , والله ما يشبه الذي يقوله شيئاً من هذا , ووالله إن لقوله لحلاوة ,وإن عليه لطلاوة , وإنه لمنير أعلاه , مُشرق أسفله , وإنه ليعلو ولا يُعلى , وإنه ليحطم ما تحته .
    ومنه قول أنيس أخي أبي ذر – رضي الله عنه – حينما سمع القرآن الكريم , والله لقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد , ولقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم , والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون .
    يتبع – مراحل التحدي !
    .......

  7. #7
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي


    مراحـــل التحـــدّي !
    .......
    إن تحدي القرآن كان في أكثر من آية , وفي أكثر من وقت واحد , وفي أكثر من مكان كذلك , لقد تعددت آيات التحدي , وتعددت مراحله كذلك :
    أولاً : تحدوأ أن يأتوا بمثل القرآن من غير تعيين قدر معيّن , قال تعالى { فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين } , " الطور : 34 " .
    ثانياً : ولما عجزوا أن يأتوا بمثله , أرخى لهم العنان مرة أخرى , قال تعالى { أم يقولون افتراه , قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات , وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم , فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون } , " هود : 13 , 14 " .
    ثالثاً : فلما عجزوا ولم يستطيعوا , أرخى لهم العنان , وخفف عنهم المؤنة فاكتفى منهم بسورة واحدة , قال تعالى { أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله , وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين } , " يونس : 38 " .
    رابعاً : ولكن القوم لم يراوحوا مكانهم , فتحداهم وكانت المرة الأخيرة أن يأتوا بسورة تشبه القرآن , ولو من وجه من الوجوه , فقال سبحانه { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين , فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدّت للكافرين } , " البقرة : 23 , 24 " .
    دراسة هذه المراحل !
    وإذا أردنا دراسة هذه المراحل لنرى ما بينها من وجوه الاتفاق والاختلاف , فإننا نجد ما يلي : -
    أولاً : إن هذه المراحل كلها جاءت تعلن التحدي بكل قوة وثقة .
    ثانياً : إن المراحل الثلاث الأولى كلها مكية التنزيل , فإن الآية الأولى من سورة الطور , والثانية من سورة هود , والثالثة من سورة يونس عليهما الصلاة والسلام , وهذه السور مكية اتفاقاً , أما الآية الرابعة فهي مدنية اتفاقاً وهي من سورة البقرة .
    ثالثاً : إن المراحل الثلاث الأولى خوطب بها العرب , لأنهم هم المتحدّون في هذه السور الثلاث , أما المرحلة الرابعة , فقد خوطب بها الناس جميعاً , يدل لذلك سياق الآيات الكريمة , وهي قوله { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون , الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءً وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون , وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ... } , " البقرة : 21 – 23 " .
    رابعاً : إن المراحل الثلاث الأولى مختلفة من حيث الأسلوب عن المرحلة الرابعة , وإليكم بيان ذلك :
    ألمرحلة الأولى " فليأتوا بحديث مثله " والثانية " قل فأتوا بعشر سور مثله " والثالثة " فأتوا بسورة مثله " , أما الرابعة فجاء الأسلوب فيها " فأتوا بسورة من مثله " فكلمة " من " لم تذكر إلا في المرحلة الرابعة .
    هناك اختلاف – إذن – بين المراحل الثلاث والمرحلة الرابعة من حيث التنزيل , ومن حيث السياق , ومن حيث الأسلوب , ولهذه الفروق دلالاتها في تعيين أو ترجيح أحد القولين السابقين في بيان وجوه الإعجاز .
    فإذا كان التحدي في المراحل الثلاث الأولى المخاطب به العرب , والعرب كان البيان بضاعتهم والبلاغة سجيتهم , فإن المرحلة الرابعة المخاطب بها الناس جميعاً عربهم وعجمهم , وإذا كانت المراحل الثلاث الأولى خالية من كلمة " من " , فلقد جاءت المرحلة الرابعة مشتملة على هذا الحرف الدّال على التبعيض ومعنى هذا أن المرحلة الأخيرة , كان التحدي فيها للناس جميعاً , ولا يعقل أن يتحدى الناس جميعاً بالبيان وحده , وإنما هو تحدٍّ عام عموم المخاطبين به .
    وبعد هذه الدراسة لمراحل التحدي نقرر مطمئنين أن وجوه الإعجاز متعددة , وأن القرآن الكريم معجز من حيث بيانه , ومن حيث تشريعه , ومن حيث ما فيه من حقائق علمية وكونية , ومن حيث ما فيه من أخبار الأمم السابقة , ومن أخبار الغيب المستقبل , ومن حيث تأثيره في النفوس , من هذه الحيثيات وغيرها مما ستعلم نبأه بعد حين إن شاء الله , فلا تعجل , فقبل أن نحدثك عن هذه الوجوه , سنسير معاً في رحلة تاريخية , نتعرف من خلالها على جهود السابقين من العلماء , وما نظمته أفكارهم , وسطرته أقلامهم قديماً وحديثاً , وهذا هو الباب الأول وسنجعله في فصلين : ألأول : ونتحدث فيه عن جهود الأقدمين , والثاني : نتحدث فيه عن جهود المحدثين من العلماء .
    يتبع – الباب الأول – تاريخ الإعجاز " الفصل الأول " بحول الله
    .......

  8. #8
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي


    ألباب الأول
    تاريخ الإعجـــــاز
    ألفصل الأول
    جهـــود الأقدميـــن
    .......

    كانت الكتابة في الإعجاز حصيلة جهود متعاونة متعددة , أسهم فيها علماء اللغة والنحو والبيان والكلام والأصول , كل هؤلاء وغيرهم بذلوا مشكورين , وكانت لهم لبنات في بناء صرح الإعجاز الشامخ , فالخليل بن أحمد , وسيبويه , وأبو عبيدة معمر بن المثنى , وأبو زكريا يحيى الفراء , والشافعي , والأصمعي , والجاحظ , وابن المعتز , وابن قتيبة , وكثير غيرهم كانت لهم لفتات طيبة , ولمحات مفيدة ’ وشذرات جيدة في إرساء قواعد هذا العلم وتشييد بنيانه , وتوطيد أركانه , ويمكننا أن نقرر هنا أن الكتابة في إعجاز القرآن مرّت بأدوار ثلاثة :
    - ألأول : اللمحات والإشارات .
    - الثاني : مرحلة الرسائــــــل .
    - الثالث : مرحلــة الكتــــــــب .

    ألدور الأول : دور الإشارات
    -------------
    من أقدم الكتب التي ألّفت عن القرآن الكريم , تلك التي كانت تتحدث عن معاني القرآن , وبين أيدينا كثير من هذه الكتب ومن أوائلها كتابان اثنان أحدهما " مجاز القرآن " لأبي عبيدة , والثاني " معاني القرآن " للفراء , ونرجح أن هذين الكتابين كتبا في القرن الثاني الهجري , لأن مؤلفيهما توفيا في أول القرن الثالث , وفي هذين الكتابين نجد البذور الأولى التي تتحدث عن أسلوب القرآن ونظمه وبخاصة الأول منهما , أعني مجاز القرآن , فهناك حديث عن التشبيه , والكناية ’ والإشارة , والتأكيد .. إلى غير ذلك مما كان الأساس الذي بنى عليه العلماء اللاحقون كثيراً من قضايا الإعجاز .
    ومن الخير أن نقرر هنا أن قضية الإعجاز لم تقرر تقريراً مباشراً , في هذين الكتابين , بل كان فيهما إشارات ولمحات لم تذكر فيها كلمة الإعجاز , وجاء القرن الثالث فوجدنا فيه ظهور هذه الكلمة – أعني لفظة الإعجاز – وكثيراً من الإشارات واللمحات في قضايا الإعجاز , كانت هذه الإشارات عند "النظام " المعتزلي , وتلميذه الجاحظ , وهما إمامان من أعظم وأشهر أئمة الاعتزال , كما وجدناها عند إمام من أئمة أهل السنة , وهو ابن قتيبة .
    ألنّظّـــــام
    .....
    أما النظّام فلقد تحدث عن القرآن , من حيث هو دليل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم , ولكنه يدل على صدق النبوّة من أخبار الغيب التي تضمنها , لا من حيث نظمه وأسلوبه ودقّة ألفاظه وجودة معانيه , وهذا ما جعل العلماء يردون عليه فيما بعد .
    ولقد عرف ما ذهب إليه النظّام بالقول بالصرفة , ومعناها أن الله صرف العرب عن أن يأتوا بمثل القرآن , وإن كان ذلك مقدوراً لهم ,لأنهم كانوا بلغاء بطبيعتهم , فصحاء بسليقتهم , فالنظام يرى أن القرآن دليل على النبوة , لأنه من عند الله , لكن وجه الدلالة ما فيه من أخبار الغيب , كقوله تعالى { بسم الله الرحمن الرحيم ألم غُلبت الروم } " الروم : 1 " , وقوله { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم } " ألأنفال : 7 " , وقوله { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم } " النور : 55 " .
    وليس غرضنا الآن أن نناقش القول بالصرفة , ولكن الذي نقرره هنا أن القول بالصرفة كان بعيداً عن البيئة الإسلامية قبل النظّام , وإن كان قد عرف من قبل عند بعض الأمم الشرقية كالهنود , مما يجعلنا نرجح مطمئنين أن القول بالصرفة كان محاكاة لأولئك , ولم يعرف قبل النظّام .
    وبعض الكاتبين المحدثين يحاول أن يعتذر عن النظّام , مفسراً الصرفة بغير التفسير الذي اشتهر عند العلماء , فهو يرى أن الصرفة التي قام عليها النظّام لا تعني قدرة العرب على الإتيان بالقرآن , وإنما تعني إنصرافهم عن ذلك حينما نظروا في القرآن , ونظروا في أنفسهم وإمكاناتهم , فوجدوا أنهم لا يمكنهم معارضته , فانصرفوا عن ذلك , فهو انصراف لا صرفة .
    ومع تقديرنا لهذا التعليل , وما بذله الكاتب في إثباته , إلا أننا لا نوافقه عليه , ذلك لأن الجاحظ نفسه , وهو من تلاميذ النظّام الذين كانوا يجلونه كل الإجلال , قد ردّ عليه في كتابه نظم القرآن , والجاحظ أقدر على فهم أستاذه ممن جاءوا بعده , ومهما يكن من أمر فلقد كان للنظّام كلمات في الإعجاز , بقطع النظر عن الوجه المعجز للكتاب الكريم .
    ألجاحـــــظ : -
    لا يكاد يخلو كتاب من كتب الجاحظ على كثرتها من حديث عن القرآن الكريم , فتارة يحدثنا عن صحة أخباره ,وتارة عن جودة سبكه وبديع نظمه , وثالثة عن قوة حججه , وأخرى عن دحض الشبهات التي يوجهها الملاحدة والحاقدون , وهو مع ذلك كله شديد الإعجاب بالعربية , لغة القرآن , قوي العارضة في ملاحقة الشعوبيين , والجاحظ في ذلك كله " إمامٌ لَسِن " , يصدر عن سعة في الاطلاع , بتفكير سوِيّ , وغوص عن المعاني , ولذلك كله لابد أن تكون هناك إشارات وشذرات يعرض فيها لقضية الإعجاز , ولكن هذه الشذرات مبثوثة في ثنايا كتبه , فقد حدثنا عن حجج القرآن , وحجج النبوة , كما حدثنا عن الرد على النصارى وغيرهم , في رسائله الكثيرة المتعددة .
    أما عن بلاغة القرآن ونظمه , فنجد ذلك في كتبه " البيان والتبيين , وكتاب الحيوان " ويذكر أنه ألّف كتاباً في نظم القرآن , تحدث فيه عن مفردات القرآن , وبعض أساليب البيان التي اصطلح عليها فيما بعد بعلم البلاغة , وهذا الكتاب قد حرمنا منه ولم تسعد به المكتبة الإسلامية , وكل ما وصلنا منه شذرات وبعض عبارات , ذكرها في كتبه المتفرقة .. ونستطيع أن نلخص نظرية الإعجاز عند الجاحظ بما يلي :
    1 – القرآن بليغ من حيث ألفاظه المختارة المنتقاة , ومن حيث نظمه ووصفه , التي تقوم على إبداع في الإيجاز والتشبيه والمجاز .
    2 – القرآن معجز من حيث الصرفة , ولكنها تختلف كثيراً عن تلك التي ذكرها أستاذه النظّام من قبل , ولذا فهو يرد عليه في كتابه نظم القرآن , فأساس نظرية الإعجاز , وعمود القول فيه بلاغته أولاً , أما القول بالصرفة فإنما تأتي في المرتبة الثانية , فهو دليل يضاف إلى دليل عن عجز العرب عنة محاكاة القرآن في أسلوبه ونظمه .
    لقد وضع الجاحظ بحقٍّ بذوراً لنظرية الإعجاز التي تطورت فيما بعد , وإن كانت هذه البذور جاءت موزعة في مواضع من كتبه ومؤلفاته .
    إبن قتيبـــــة
    .....
    وابن قتيبة إمام من أئمة أهل السنة , عرض في كتبه لكثير من أساليب القرآن , كما ردّ على الملاحدة والشعوبيين , ومن كتبه الخاصة بالقرآن الكريم " تأويل مشكل القرآن وغريب القرآن " ونجده يتحدث عن التشبيه والاستعارة والمجاز كما يتحدث عن قضيتي التكرار والزيادة , ويظهر على كتبه الطابع اللغوي , كما تظهر فيها بعض الإشارات البيانية , وبخاصة وهو يرد على اللغويين الذين أنكروا المجاز ,وعلى المعتزلة الذين أفرطوا في التأويل ر, وليس له بحث مستقل في إعجاز القرآن .
    ألواسطـــــي
    .....
    يجمع المؤلفون على أن الواسطي ألّف كتاباً في إعجاز القرآن , ويقال إن عبد القاهر – رحمه الله – قد وضع لهذا الكتاب شرحين , ولكن مع الأسف لم يصلنا الكتاب , كما لم يصلنا شيء مما وضعه عبد القاهر من شروح , ولذلك فنحن لا نملك الحديث عنه , بل ربما كان في النفس شيء مما نسب لعبد القاهر من وضع شرحين لهذا الكتاب , وقد وصلنا كتابان في الإعجاز لعبد القاهر هما " دلائل الإعجاز والرسالة الشافية " وليس فيهما إشارة ما لشرح إعجاز الواسطي فكيف اختفى الشرحان معاً ؟.
    ذلك هو الدور الأول , والطور المتقدم من الأدوار الثلاثة التي مرّ بها الإعجاز , والتي أشرنا إليها من قبل , طور الكلمات والإشارات .
    يتبع – الدور الثاني " دور الرسائل " .
    .......


  9. #9
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي


    ألدور الثاني : دور الرسائل
    .....
    أما الطور الثاني فهو طور الرسائل , ولحسن الحظ فلقد وصلت إلينا رسالتان لإمامين متعاصرين من علماء القرن الرابع , أحدهما من أئمة أهل السنة , وهو " ابو سليمان الخطابي " , والآخر من أئمة المعتزلة وهو " أبو عيسى الرماني " , وهاتان الرسالتان كانتا الأساس لما كُتب في الإعجاز فيما بعد , وسنتحدث عن هاتين الرسالتين كلٍّ على حدة .
    ألنكت في إعجاز القرآن للرماني
    .....
    ألإمام علي بن عيسى الرماني أبو الحسن , إمام من أئمة المعتزلة , لم تقتصر إمامته على نوع خاص من أنواع المعرفة , بل كان أحوذيّاً جمع إلى العلوم العقلية كثيراً من العلوم النقلية , فهو إمام في النحو واللغة والتفسير , توفي عام 386 هجرية .
    وما كتبه الرماني كان إجابة لبعض طلبة العلم – كما يظهر في مقدمته الموجزة – ولقد التزم الرماني القول الموجز في هذه الرسالة وهجم على الموضوع دون مقدمات .
    وجوه الإعجاز عند الرماني
    بيّن الرماني أن إعجاز القرآن إنما يظهر من وجوه سبعة
    1 – ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة ,
    2 – التحدي للكافّة ’
    3 – الصرفة .
    4 – البلاغة .
    5 – ألأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة .
    6 – نقض العادة .
    7 – قياسه بكل معجزة .

    وقد أطنب في الحديث عن البلاغة حيث استوعبت أكثر صفحات الرسالة , أما الوجوه الستة الباقية , فقد كان حديثه عنها مقتضباً موجزاً , فرسالة الرماني تقع في نحو أربعين صفحة , أخذت البلاغة منها نحو خمس وثلاثين , بينما لم تأخذ الوجوه الأخرى إلا أربع صفحات فقط .
    شرح موجز لوجوه الإعجاز :
    أولاً : أما ترك المعارضة مع توفر الدواعي وشدة الحاجة فمعناه أن العرب تركوا معارضة القرآن مع أن دواعيهم كانت متوفرة ,وكانت حاجتهم لهذه المعارضة شديدة قوية , وبيان ذلك : -
    أن العرب كان لهم حظ وافر ونصيب وافٍ من القول , ولقد كانت البلاغة طبعاً فيهم والفصاحة سليقة لهم , وأعطوا من ذلك ما لم تعطه أمّة من الأمم , هذا معنى قول الرماني مع توفر الدواعي .
    أما شدة الحاجة , فلأن القرآن سفّه أحلامهم وقوّض عباداتهم وكثيراً من عاداتهم ولم يبق لهم منفذاً يخرجون منه ومع ذلك لم يعارضوه , ولو أن إنساناً كان شديد العطش والماء قريب منه وهلك دون أن يشرب الماء فما ذلك إلا لعجزه .
    ثانياً : وأما التحدي للكافة فلأن القرآن الكريم قد تحداهم في غير موضع ولكنهم جبنوا عن منازلته وقعدوا عن مصاولته ومجاولته .
    وهذان الوجهان بعد التحقيق يرجعان إلى بلاغة الكتاب العزيز , فإن تحديه لهم , وتركهم لمعارضته , دليل على أنه في أعلى درجات البلاغة .
    ثالثاً : وأما الصرفة فمعناها أن هممهم انصرفت عن معارضة القرآن , ونلاحظ أن الرماني لا يتفق مع النظام الذي جعل الصرفة وجهاً من وجوه الإعجاز دون البلاغة , إنما يتفق مع الجاحظ , يقول الرماني " وهذا عندنا أحد وجوه الإعجاز التي تظهر منها للعقول " .
    رابعاً : وأما الأخبار الصادقة عن الأمور المستقبلة فإنه وجه من وجوه الإعجاز , لأن ما أخبر عنه وقع وتحقق , وهذا دليل على أنه من عند علام الغيوب , ويذكر الرماني بعض ما جاء في كتاب الله من ذلك " وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم " و " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام " و " غلبت الروم في أدنى الأرض " و " سيهزم الجمع ويولّون الدّبُر " إلى غير ذلك مما أخبر عنه القرآن الكريم , وتحققت هذه الأخبار , ولم يتخلف منها خبر واحد .
    خامساً : وأما نقض العادة فيعني به الرماني , مجيء القرآن على وضع لم يألفه العرب من قبل , فلقد عرف العرب الشعر والرجز والسجع , والكلام المرسل غير المسجوع ولا المقفّى , ولكن الشكل الذي جاء عليه القرآن يختلف عن ذلك كله .
    نقض العادة : - إذن – قضية تتعلق بالشكل والقالب , فمعاني القرآن وضعت في قوالب من اللفظ والنظم , لم يألفها العرب ولم يعرفوها من قبل لأنها ليست شعراً ولا نثراً , وهذا يرجع إلى بلاغة القرآن أيضاً كالوجهين الأولين .
    سادساً : وأما قياسه بكل معجزة فيشير به الرماني إلى أن معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كفلق البحر , وقلب العصا حيّة , وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص , كانت من الأمور الخارقة للعادة المعجزة للناس , وكذلك شأن القرآن الكريم .. هذه الأوجه الستة كما يراها الرماني .
    سابعاً : أما الوجه السابع وهو الحديث عن البلاغة , فقد أفاض الحديث فيه – رحمه الله - , فذكر أن الكلام البديع تختلف مراتبه , فمنه ما هو في أعلى طبقة وهو القرآن الكريم , ومنه ما يكون في الطبقة الوسطى وهو كلام البلغاء شعراً ونثراً ومنه دون ذلك .
    ويعرف البلاغة بأنها وصول المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ , ثم ذكر أقسام البلاغة , وهي عنده عشرة أقسام : ألإيجاز , والتشبيه , والاستعارة , والتلاؤم , والفواصل , والتجانس , والتصريف , والتضمين , والمبالغة , والبيان .
    وما ذكره الرماني من أقسام البلاغة كان الأساس الذي اعتمد عليه علماء البلاغة فيما بعد .
    يتبع – ثانياً : بيان إعجاز القرآن للخطابي !
    .......

  10. #10
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي


    بيان إعجاز القرآن للخطّابي
    .....
    أولاً : بدأ الخطابي رسالته " بيان إعجاز القرآن " بإثبات عجز العرب عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن , وبيَّن أن تلك القضية من مسلمات التاريخ , فالقرآن تحدى العرب أن يأتوا بسورة من مثله وهم أهل الفصاحة والبلاغة , وأصحاب الرياسة في الكلام والقول , وأصحاب القصائد والخطب , ولكنهم تركوا ذلك كله وهو الأيسر لهم والأسهل عليهم , وعمدوا إلى ما هو أشق وأصعب عليهم , وهو المنازلة والمحاربة , فلقد تركوا رصف الحروف إلى مقارعة السيوف , وليس ذلك إلا لعجزهم وقصور قرائحهم , فما مثلهم إلا كمثل من كان شديد الظمأ والماء بجانبه , ولكنه هلك من شدة العطش , ومن هذا حاله لا يكون كذلك إلا لعدم قدرته على تناول الماء .. تلك هي القصة الأولى التي عرض لها الخطابي .
    ثانياً " وجوه إعجاز القرآن : أما القضية الثانية التي عرض لها , فهي بيان وجه إعجاز القرآن , فلقد أشار إلى الوجوه التي كانت مشتهرة في زمنه , وعلّق على كلٍّ بما يناسبه ويلائمه .
    1 – ومن هذه الأوجه القول بالصرفة : لقد عرض الخطابي لهذا القول , وناقش القائلين به , ومن أدلّتهم التي ذكرها الخطابي : أن عجز العرب عن القرآن شبيه بقوم قال لهم نبيهم : معجزتي على صدق دعواي أن تعجزوا عن تحريك أيديكم ورؤوسكم وأنتم أصحّاء , وحاول القوم عبثاً أن يستطيعوا ذلك , فهؤلاء قوم أصحّاء سُلِبوا القدرة على تحريك جوارحهم , وكذلك العرب سُلِبوا القدرة على أن يأتوا بمثل القرآن .
    ويرد الخطابي هذا القول قائلاً : إن كل ما يفيده هذا الدليل الذي جاءوا به أنه يدل على صدق قائله , ولكن شتّان بين هذا وبين القرآن الكريم , كيف والله يقول { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } " الاسراء : 88 " , وهذه الآية الكريمة تثبت أن القوم قد أرخي لهم العنان , ووسّع عليهم في المعارضة , ومنحوا القدرة على التعاون فيما بينهم , فشتان بينهم وبين من سُلِبوا القدرة على الحركة في حال صحتهم وسلامتهم .
    2 – إلإخبار بالغيب : وبعد أن رد الخطابي كون القول بالصرفة وجهاً من وجوه إعجاز القرآن عرض لقول آخر , وهو أن القرآن معجز بما فيه من أخبار الغيب , وهذا الوجه وإن كان صحيحاً يدل على صدق النبي – صلى الله عليه وسلم – فإنه ليس عاماً في القرآن كله , لأن أخبار الغيب إنما توجد في بعض سور القرآن الكريم , والقرآن حينما تحداهم , تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله , سواء كانت السورة مشتملة على أنباء الغيب أم لم تكن كذلك , وعلى هذا لا يصلح هذا الوجه أن يكون عامّاً , ولا بد للباحث عن الإعجاز من وجه عام ينتظم القرآن الكريم كله .
    3 – وهناك وجه ثالث عرض له الخطابي , وهو أن القرآن معجز ببلاغته ولكن أصحاب هذا القول لم يحددوا معالم هذه البلاغة ولم يضعوا لها قواعدها وضابتها , بل أكتفوا بالقول إننا حينما نسمع القرآن نحس في أنفسنا أن له بلاغة لا توجد في غيره , وكثير من الناس يذوقون الكلام فيميز بين البليغ والأبلغ , ويستدلون لذلك بما كان من " ذي الرمة " حين نحله " جرير " بعض أبيات ضمنها قصيدته , فلما سمعها " الفرزدق " أنكرها عليه وقال له : مضيفها أشد لحيين منك .
    وإذن فأصحاب هذا القول يرجعون البلاغة إلى الذوق وحده , دون أن تكون له قواعد وضوابط وأسس , والخطابي يرد هذا القول كذلك , فالذوق وإن كان له شأنه وخطره , فإنه لا يصلح وحده لنبني عليه قضية الإعجاز , بل ما هو أقل منها شأناً , والحق أن الخطابي كان يصدر عن بصيرة ومعرفة وذوق , ذلك أن الذوق وحده ليس الناس فيه سواء , ولذا فلا بد من قواعد للنقد , يرجع إليها العلماء فيما يقبلون أو يرفضون .
    ثالثاً : الوجه المختار في إعجاز القرآن : -
    ولكن إذا كانت هذه الأوجه جميعها قد ردها الخطابي , فما هو القول عنده في إعجاز القرآن , تلكم هي القضية الثالثة في رسالته , يرى الخطابي أن ما للقرآن من أثر وبهجة ورونق , ومن عذوبة يجدها السامع في حسه , وتهش لها نفسه , فيكون له من الصنيع فيها ما لا يوجد لغيره من الكلام , لا بد له من سبب يبحث عنه الباحثون , وعلّة امتاز بها القرآن عن غيره , يقول الخطابي : بأنه استقرى جميع الأوصاف والأسباب الخارجة عن القرآن , فلم يجد سبباً صالحاً من أجله تبوّأ القرآن هذه الرتبة العليا , لذا لا بد أن يكون السبب كامناً في القرآن نفسه , مستمداً منه ويرجع إلى أجناس الكلام , وأجناس الكلام – كما يراها الخطابي – لا تخرج عن واحد من ثلاثة : -
    1 – البليغ الرصين الجزل .
    2 – الفصيح القريب السهل .
    3 – الجائز الطلق الرسل .

    فالمخاطبون ليسوا سواء , فمنهم الحضري الذي هذب لسانه , ومنهم سكان البادية الذين اكسبتهم البداوة قوة ورصانة , وإذا كان المخاطبون كذلك , فإن الموضوعات التي يقصد إليها المتكلم ليست ساء كذلك , فالحديث عن الوصف والنسيب يختلف عن الحديث عن الهجاء , وهذا يختلف عن الفخر , وأسلوب الرثاء يختلف عن أسلوب الهجاء , كما أن أسلوب التقريع والتبكيت يختلف عن أسلوب التحبب والمؤانسة , وأسلوب التخويف يختلف عن أسلوب الترجي , لذلك لا بد أن يوضع كل أسلوب في القالب الذي يناسبه ويلائمه .
    وعلى هذا فأسلوب التقريع لا بد له من كلمات قوية , كأنما هي الرعد القاصف , كلمات تقرع القلوب , وترتجف لها النفوس , وترتج من سماعها الأفئدة .
    أما أسلوب التأنيس والإطماع , فلا بد له من الكلمات الرقيقة التي تتدفق عذوبة وحيوية , وهناك مرتبة وسط بين هاتين , فالنوع الأول هو البليغ الرصين الجزل كما يسميه الخطابي , والجزالة هي القوة , وأصله من قولهم " حطب جزل " إذا كان قوياً لا تأكله النار بسهولة ويُسر , والنوع الثاني : هو الفصيح السهل – كما سماه الخطابي – والنوع الثالث هو الجائز الطلق الرّسل , وهو وسط بين القسمين , ولما كانت الفخامة ناشئة عن القوة , وكانت العذوبة ناشئة عن السهولة , كانا كالمتضادين , لأن الفخم القوي لا يتفق مع السهل السلس , وما أشبههما برجلين أحدهما شديد صُلب , قوي العريكة , والآخر سهل موطأ الأكناف .
    وبلاغة القرآن – كما يقول الخطابي – اشتملت على هذه الأنواع الثلاثة , وهذا صحيح فأنت حينما تقرأ في كتاب الله وهو يحدثك عن يوم القيامة , وعما يكون للمكذبين , فإنك تجد الكلمات الجزلة القوية , ونمثل لك بسورة الحاقة , وحينما تقرأ ما أعد للمؤمنين تجد الكلمات السلسة العذبة , استمع إلى سورة الإنسان , وفيما بين هذا وذاك تجد الوسط .
    وربما تقرأ الآيات من كتاب الله فتجدها اشتملت على الأجناس الثلاثة معاً , وليس بعض هذه الثلاثة أبلغ من بعض , بل إن كل واحد في مكانه وسياقه هو آية الحسن , هذا ما يفهم من كلام الخطابي .
    وبين الخطابي الأصل الذي من أجله تعذر على العرب أن يأتوا بمثل القرآن , وهو أنهم لم يحيطوا بجميع ألفاظ اللغة , مفردات وتراكيب هذا أولاً .
    أما ثانياً : فإن أفهامهم لا تدرك جميع المعاني التي تحمل عليها تلك الألفاظ .
    وأما ثالثاً : فليس لهم معرفة تامة بجميع أنواع النظم , وهو أي النظم " ترتيب الكلمات في الوضع بحيث تكون كل لفظة في محلها اللائق لها الخاص بها " , وهذه الأمور الثلاثة – أعني اللفظ والمعنى والنظم – هي التي يقوم بها الكلام , ويصير بها مستأهلاً للبحث حقيقاً بالعناية , هكذا يرى الخطابي أن الكلام لا بد له من عناصر ثلاثة : -
    1 – لفظ حامل .
    2 – معنى به قائم .
    3 – رباط لها ناظم .

    الكلام عند الخطابي إذن , ليس لفظاً ومعنى وحسب , وإنما لا بد لهما من نظم .
    وبهذا يكون الخطابي من أوائل الذين أشاروا وألمحوا إلى قضية النظم بمعناها الدقيق , وهو يرد بذلك على أنصار اللفظ , وأنصار المعنى , ويقيناً أن هذا الأصل الذي ذكره الخطابي قد بنى عليه من جاء بعده كالقاضي عبد الجبار , وعبد القاهر .
    رابعاً : يبين الخطابي أن عمود البلاغة وأساسها أن يوضع للمعنى اللفظ الخاص به , الذي يدل عليه دلالة تامة , لذا وجدناه يفرق بين الكلمات التي يظن كثير من الناس أنها سواء كالحمد والشكر والعلم والمعرفة , وقعد وجَلَس وغيرها .
    خامساً : يرد الخطابي بعض الشبهات ويجيب على بعض الاعتراضات التي وجهت إلى ألفاظ القرآن ونظمه , ومن هذه الاعتراضات أن ألفاظ القرآن الكريم ليست أفصح الألفاظ , فإن هناك ألفاظاً ردها أهل المعرفة باللغة , ومن ذلك قوله تعالى { فأكله الذئب } " يوسف : 17 " , فكلمة أكل كما يقولون ليست فصيحة والأفصح أن يقال افترس , لأن الافتراس خاص بالسباع والأكل عام فيها وفي غيرها .
    ويرد الخطابي هذا القول , فيبين أن الفرس أصله دق العنق , ومعناه القتل فحسب , أما الأكل فهو الإتيان على جميع أجزاء الفريسة وأعضائها , ولو أن إخوة يوسف قالوا لأبيهم افترسه , لطالبهم ببقية أجزائه .
    سادساً : ويذكر الخطابي وجهاً آخر من وجوه إعجاز القرآن غفل عنه كثير من الناس ولا يكاد يعرفه إلا الشاذ منهم , وذلك هو صنيعه في القلوب وتأثيره في النفوس , وهو ما عُرف بعد بالإعجاز الروحي , وأطلق عليه بعضهم الإعجاز النفسي .
    يتبع – الدور الثالث : دور الكتب !
    .......

  11. #11
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي


    ألدور الثالث – دور الكتب
    .......
    1 – كتاب إعجاز القرآن للباقلاني : -
    ألباقلاني إمام من أئمة المتكلمين , وشيخ من شيوخ الأشاعرة , ولقد جمع إلى هذا كثيراً من جوانب المعرفة , وكتابه يدل بحق على علوّ كعب الرجل , ورسوخ قدمه , وطول باعه , وسعة اطلاعه , ففضلاً عن أنه إمام من أئمة الكلام , فهو كذلك إمام من أئمة اللغة أدباً وشعراً وبلاغة ونقداً .
    كتب الباقلاني إعجاز القرآن , وغيره من الكتب الكثيرة , مدافعاً عن حرمة الدين , ذابّاً عن الكتاب والسنة , رادّاً كل ما يجده مما يلقيه خصوم الإسلام من شبهات ومما يوحون به من شكوك , ومما ينفثونه من ترهات وأباطيل , ومن كتبه ذات الشأن والقيمة غير كتاب إعجاز القرآن , التمهيد , والانتصار , ولقد كان الرجل مع سعة علمه لَسِناً , قوي العارضة في الحجاج , يدل على ذلك سيرته مع خصومه .
    ولن تعدو الحقيقة إذا قلنا إنه لم يشتهر كتاب في الإعجاز كإعجاز القرآن للباقلاني , فلقد ظل هذا الكتاب على مدى القرون السالفة المرجع الوحيد لهذه المادة , بل إن كثيراً من المختصين بالدراسات القرآنية لم يعرفوا غير هذا الكتاب .
    اشتمل كتاب الباقلاني على موضوعات متعددة , بعضها جوهري في قضية الإعجاز وذلك كوجوه إعجاز القرآن ,وكونه معجزة النبي – صلى الله عليه وسلم – والتحدي به , وبعضها بعيد عن قضية الإعجاز لا يتصل بها إلا من سبب بعيد كحديثه عن نقد الشعر وتحليله لكثير من القصائد الشعرية , وموازنته بين أسلوب القرآن الكريم , وبعض خطب النبي – صلى الله عليه وسلم – وللصحابة ولغيرهم رضوان الله عليهم .
    وبعضها وسط بين هذا وذاك يتصل بموضوع الإعجاز , وذلك كحديثه عن السجع ونفيه من كتاب الله تبارك وتعالى , كما أن حديثه عن الإعجاز نجده تارة ذا طابع بياني وتارة أخرى ذا صبغة كلامية تتصل بنظريات المتكلمين وأساليبهم .
    وجوه إعجاز القرآن عند الباقلاني : -
    يذكر الباقلاني بأن وجوه الإعجاز كما قال به أصحابه – يعني الأشاعرة – تظهر من جهات ثلاث : -
    1 – أخبار الغيب التي أخبر عنها القرآن قبل أن تحدث .
    2 – ألأخبار عن الأمم الماضية مع أمّية الرسول – صلى الله عليه وسلم - .
    3 – نظمه البديع .

    ويفصل الباقلاني فيما بعد هذه الوجوه , فالإخبار بالغيب جاء في آيات كثيرة ومواضع متعددة .
    وأما أنباء الأمم السابقة , مع أمّية النبي – صلى الله عليه وسلم – فإنه يدل على الإعجاز , لأن هذه الأخبار الصادقة لا تكون إلا ممن عرف التاريخ واستوعب أنباء الأمم , والنبي – صلى الله عليه وسلم – باتفاق لم يكن شأنه كذلك .
    والباقلاني كان أكثر تفصيلاً في الوجه الثالث , بل إن كتابه يكاد يكون مبنياً على هذا الوجه , وهو كون القرآن بديع النظم عجيب التأليف , متناهٍ في البلاغة , ولقد ذكر معاني عشرة يشرح بها هذا الوجه .
    فأولها : ما يرجع إلى جملة القرآن , بيان ذلك إن كلام العرب يدور بين الشعر والرجز والسجع والنثر المرسل , وبين كلام " موزون مقفّى " وكلام موزون غير مقفى , وكلام غير موزون , وحينما ننظر في القرآن الكريم , نجده جاء على طريقة مغايرة لكل ما عرفه القوم , والباقلاني يعني بهذا الشكل والقالب , فالقالب الذي صُبّت فيه معاني القرآن , والشكل الذي رُكّبَت فيه كلماته , وجه من وجوه الإعجاز , وهذا ما عبّر عنه " الرمّاني " من قبل بنقض العادة , ولذا كانت النتائج التي توصل إليها الرجلان نتائج واحدة , فكل منهما ينكر السجع في كتاب الله , لأن السجع مما عرفته العرب , ولذا عقد الباقلاني فصلاً لنفي السجع , وآخر لنفي الشعر عن كتاب الله .
    ثانياً : إنه ليس للعرب كلام مشتمل على مثل هذه الفصاحة والبراعة , وهذا المعنى يرجع إلى القضية البلاغية في القرآن من حيث أسلوبه وألفاظه وكونه نسقاً واحداً , فالباقلاني يرى أن القرآن نسق واحد في البلاغة , ليس بين آياته تفاوت واختلاف , وهذا هو ما ذهب إليه أكثر العلماء , فالقرآن على طوله متساوٍ في الفصاحة والبلاغة , وهذا ما لا نجده في كلام الفصحاء والبلغاء , فإذا أخذنا ديوان شعر لأكثر الشعراء إتقاناً , فسوف نجد قصائده متفاوتة من حيث بلاغتها , فقد يجود الشاعر في قصيدتين أو ثلاث , وكذلك إذا أخذنا القصيدة الواحدة فلن نجد أبياتها سواء , وإنما نجد بيتاً أو اثنين أو ثلاثة هي في القصيدة واسطة عقدها ودرة حلقتها , وقل ذلك في النثر , لكن القرآن أوله وآخره سواء في بديع النظم وعلو الأسلوب .
    ثالثاً : عجيب نظمه لا يتفاوت ولا يتباين , موضوعات القرآن جميعها على ما بينها من اختلاف لا نستطيع القول إن بعضها أفصح من بعض , فكما أن آيات القرآن لا تتفاوت فكذلك موضوعاته , وهذا أمر لم يعرفه العرب , فالشاعر لا يستطيع أن يجود في موضوعات متعددة , قد يجود أحدهم في المدح وآخر في الهجاء , وثالث في الفخر , كما رأينا ذلك عند الفرزدق جرير , وقد يجود شاعر في الهجاء وآخر في الغزل والنسيب , وثالث في الحكمة , وقد يجود أحدهم إذا خاف ورهب , وآخر إذا انتشى وطرب , وثالث إذا أعطي ورغب , ومن هنا قالوا أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب , والنابغة إذا رهب , وزهير إذا رغب .
    والقرآن الكريم ليس كذلك فرغم كثرة موضوعاته فهي في رفعة شأنها سواء من جهة , ومن جهة أخرى فرغم الأحوال المتعددة التي كان عليها سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو ينزل عليه الوحي , فإن ذلك لم يغير من أسلوب القرآن شيئاً .
    وهذا الوجه الثالث يختلف بالطبع عن سابقه , فقوام هذا الوجه أن القرآن الكريم على تعدد موضوعاته إلا أنه في أعلى درجات البلاغة , والذي عرف عن الشعراء والكتاب غير ذلك , فكما أن الشعراء يجود كلٌّ في موضوع , فإن الذين يتعاطون النثر كذلك يجود أحدهم في الخطبة وثانٍ في القصة وثالث في المقال , أما الوجه الثاني فقوامه أن القرآن على طوله هو في الصنعة البلاغية سواء , ولا كذلك الشعر والنثر .
    الرابع : كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتاً بيناً في الفصل والوصل والعلو والنزول , أما القرآن الكريم فمع كثرة موضوعاته التي هي نسق واحد فإن هناك وجه آخر يدل على إعجازه وهو ما فيه من جودة وإحكام الرصف , ذلك أن أي بليغ حين يتكلم في موضوع ويريد الانتقال إلى غيره نشعر أن هناك عجزاً في الانتقال , فمن تكلم في الشعر عن الغزل مثلاً يصعب عليه الانتقال إلى المدح , وقليل هم الذين لا يشعروننا بالنقلة والتكلّف , ولهذا عيب على البحتري مع جودة شعره , ورقّة طبعه , عدم تجويده في الانتقال من النسيب إلى المديح .
    ولكن القرآن يجمع بين المختلف فيجعله مؤتلفاً وينقلنا من الموضوع الواحد إلى آخر دون الشعور بهذا الانتقال , خذ سورة العلق فإنه لا يخطر في بالك عند قراءتها أنها نزلت مفرقة وذلك لما تجده بين آياتها من إحكام السبك وجودة الرصف والربط , مع أن الآيات الخمس الأولى هي التي نزلت أولاً , ونزل القسم الآخر بعد سنين , كذلك سورة البقرة التي نزلت في عشر سنين ومع ذلك نجدها من أول آية إلى آخر آية مترابطة متناسقة .
    الخامس : أن نظم القرآن وقع موقعاً من البلاغة يخرج عن عادة الجن , فهم يعجزون عن الإتيان بمثله كعجزنا { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } " ألإسراء : 88 " .
    السادس : كلام العرب فيه من فنون القول والإطناب والاستعارة والتشبيب وغيرها من الأساليب المتعددة كالتبكيت والوعظ والوعد والوعيد , وحينما ننظر في القرآن نجد فيه هذه الأساليب , لكن على وجه لم يستطعه العرب , فالقرآن تارة يعبر بالإيجاز وتارة بالإطناب , وتارة بالاستعارة وأخرى بالحقيقة , ولكن لكل أسلوب ما يناسبه ويتلاءم معه .
    سابعاً : هو يتعلق بمعاني القرآن , فالمعاني التي جاء بها القرآن لا يستطيع أحد من الناس الإتيان بها , ويعني الباقلاني بالمعاني هنا الموضوعات التي عرض لها القرآن الكريم , وهي الموضوعات الفكرية سواء كانت تلك الموضوعات تشريعية أم عقدية , وسواء كانت حجاجاً ورد شبهات أم حديثاً عن مبدأ خلقي وقضية تربوية وهذه المعاني القرآنية مبتكرة لأن كثيراً من موضوعات القرآن كانت بكراً لم تكن مما عرفه الناس من قبل , لا في الكتب السماوية ولا في نظريات الفلاسفة , ولا في التشريعات القانونية .
    يقول الباقلاني : واختيار اللفظ لمعنى متداول معروف بين الناس أمر سهل ميسر , لكن الأمر الذي فيه صعوبة ودقة وعسر على كثير من الناس هو اختيار الألفاظ لمعان جديدة غير معروفة ولا مألوفة , وكذلك كان القرآن الكريم فمعانيه جديدة اختيرت لها ألفاظ بارعة .
    وهي لفتة من الباقلاني تستحق التقدير , فاللفظ والمعنى في كتاب الله كلاهما فيه جدة وليس ذلك بمتيسر للكثير من الناس , فالبراعة في اللفظ من شأن الأدباء , والجدة في المعنى من شأن رجال التشريع والفلسفة والأخلاق .
    الثامن : الناظر في كلام الناس لا يجده سواء , فربما وجدنا في الجملة أو الفقرة أو الأبيات من الشعر كلمة رائعة رائقة تتوجه إليها الأنظار والآذان , وتجتلب الأذهان أكثر من غيرها , هذه الكلمة إنما هي درة العقد في الجملة أو الفقرة أو القصيدة , لكن القرآن الكريم ليس كذلك , بل كل كلمة منه إذا وضعت مع غيرها تجدها درة عقد وحلاوة شهد .
    يقول الباقلاني : لذلك إذا وضعت الكلمة القرآنية في كلام كانت هذه الكلمة منادية على نفسها بالروعة ممتازة على غيرها .
    التاسع : هذه الأحرف المقطعة في فواتح السور التي نجدها في ثمان وعشرين سورة ومجموع هذه الحروف أربعة عشر حرفاً , وهي نصف الحروف الهجائية ولكن لكل حرف صفات خاصة به , وصفات الحروف كثيرة , ذكر علماء التجويد منها سبع عشرة صفة , فإذا نظرت إلى الحروف المفتتحة بها السور القرآنية وجدت أنها اشتملت على جميع الصفات .
    خذ الحروف المهموسة مثلاً وهي مجتمعة في قولهم " فحثه شخص سكت " تجد أنه قد ذكر نصف هذه الأحرف في فواتح السور وهي .. الحاء والسين والصاد والكاف والهاء , وضد الهمس الجهر وستجد حروفها كذلك ذكرت في فواتح السور , وكذلك الشدة والرخاوة والذلاقة والقلقلة , فليست هناك مجموعة ذات صفة واحدة إلا وذكر نصفها في فواتح السور , فاكتفى بما ذكر عن غيره , وهذا ترتيب بديع يدل على الإحكام .
    عاشراً : أن القرآن مع ما له من بلاغة إلا أنه سهل ميسر , قريب ليس بالغريب الصعب , وليس فيه كلام وحشي مستكره , وليس فيه ما يصعب على النطق أو ما تنفر منه النفس وتمجّه , فالقرآن كله سهل ممتنع , سبيله ميسر , وصعبه مفسر , وهكذا القرآن نقرؤه ولا نشعر أنه بحاجة إلى تفسير .
    يتبع – القاضي عبد الجبار الهمذاني !
    .......

  12. #12
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي


    ألقاضي عبد الجبار الهمذاني
    .......

    وهو من أئمة االمعتزلة بخاصة , والمسلمين بعامة , تأثر القاضي بشيوخ الاعتزال وبخاصة الجبائيين " أبا علي وأبا هاشم " , وإن لم يتلق عنهما مباشرة ,وهو كثيراً ما ينقل عنهما وعن غيرهما " كأبي الهذيل العلاف " والذي يهمنا من آثاره الكثيرة القيمة حديثه عن إعجاز القرآن في سفره الضخم " المغني في أبواب التوحيد والعدل " , فأنت حينما تتصفح الجزء السادس عشر من هذا الكتاب , وهو مجلد يشتمل على مئات الصفحات تجد أن جُلّه في الحديث عن الإعجاز .
    عرض القاضي عبد الجبار في هذا الجزء لقضايا متعددة , فقد تحدث عن الخبر وما يتصل به , ثم تحدث عن الرسالة والرسول , وعن التواتر الذي ثبت به القرآن : -
    1 – وقد بين لنا المراد من كلمة " الإعجاز " حين قال : ومعنى قولنا في القرآن إنه معجز أنه يتعذر على المتقدمين في الفصاحة فعل مثله في القدر الذي قد اختص به .
    2 – ويتحدث عن الفصاحة , فيبين أن الكلام يكون بجزالة لفظه وحُسن معناه , ولا بد من اعتبار هذين الأمرين , لأنه لو كان جزل اللفظ ركيك المعنى لم يعد فصيحاً , والفصاحة لا تظهر في الكلمات المفردة , وإنما بضم هذه الكلمات بعضها إلى بعض , ويذكر جهات ثلاث لا رابع لها , تظهر فيها فصاحة الكلام :
    الجهة الأولى : اختيار الكلمة نفسها .
    الجهة الثانية : حركة هذه الكلمة من حيث الإعراب .
    الجهة الثالثة : موقـع هـذه الكلمـة تقديمـاً أو تأخيـراً , وتعريفـاً أو تنكيـراً , إلى غيـر مـا هنالـك مـن أساليب .

    أما الجهة الأولى : فلأن الكلمة التي تصلح في موضع يمكن أن لا تصلح في موضع آخر , وأما الجهة الثانية : فلأن إعراب الكلمة يلقي ضوءاً على المعنى المراد منها , ذلك لأن الإعراب فرع المعنى , وأما الجهة الثالثة : وهي موقع الكلمة , فلأن هذا الموقع يتغير به المعنى ويتبدل .
    ولنمثل الآن بعض الأمثلة التي توضح كلام القاضي عبد الجبار :
    قال الله تعالى { بسم الله الرحمن الرحيم , ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه } " البقرة : 1 " , فقوله سبحانه " لا ريب فيه " تظهر فيه الجهات الثلاث التي تحدث عنها القاضي عبد الجبار , أما الجهة الأولى فهي اختيار كلمة ريب , دون غيرها من الكلمات كالشك والمرية , وأما الجهة الثانية فمجيء كلمة ريب مبنية على الفتح , وهي اسم " لا " النافية للجنس , ولم تجيء مرفوعة , فلم يقل " لا ريبُ فيه " وأما الجهة الثالثة , فهي تقديم كلمة ريب على الجار والمجرور " فيه " ولا شك أن لكل واحدة من هذه الجهات الثلاثة حكمةٌ بيانية .
    فاختيار كلمة " ريب " لأنها تعطي ما لا تعطيه كلمة " شك " , فإن الشك تردد النفس بين شيئين , ولكن الريب شك مع تهمة وقلق واضطراب , ومجيئها مبنية على الفتح يدل على نفي الريب نفياً تاماً , وقد قرروا أنك إذا قلت " لا رجل في البيت " بالبناء على الفتح , فإنه نفي لوجود جنس الرجال في البيت , ولذا لا يجوز أن تقول " لا رجل في البيت بل رجلان " ولكنك إذا قلت " لا رجلٌ في البيت " بالضم , فهو نفي للوحدة , ولذا يمكنك أن تقول " بل رجلان " .
    وأما الجهة الثالثة فلأن تقديم كلمة " ريب " يعطي معنىً غير المعنى الذي تأخر فيه , فمعنى لا ريب فيه , نفي الريب عن القرآن دون التعرض لغيره من الكتب , ولكن لو قال " لا فيه ريب " لكان المعنى إثبات الريب في غيره من الكتب , ألا ترى إلى قوله سبحانه في وصف خمر الجنة { لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون } في أن المراد ليس نفي الغول عن خمر الجنة فحسب , وإنمـا المـراد مـع ذلـك إثباتـه في خمر الدنيا .
    وأرجوا أن يكون في هذا المثال توضيح لما قصده القاضي عبد الجبار , ومنه ندرك أن الفصاحة التي أشار إليها القاضي , ليست الفصاحة التي استقر عليها علماء البلاغة المتأخرون , وهي التي تكون وصفاً للكلمة أو الكلام , وذلك بخلوّه من العيوب كالغرابة والثقل ومخالفة قواعد اللغة , إنما الفصاحة التي عناها القاضي تشمل في مفهومنا نظم الكلمات بعضها مع بعض , وهي ملحوظة قيمة وخطوة ذات شأن خطاها في إبراز نظرية النظم .
    3 – ويرى الشيخ أن الإعجاز ليس في نظم الكلام , وهو يعني بالنظم ورود الكـــلام علــى طريقـــة مخصوصة , أي القالب الشكلي الذي جاء عليه القرآن الكريم , وليس النظم الذي تحدث عنه " الخطّابي " والذي سنتحدث عنه عند الجرجاني , وقد تحدثنا عن هذا من قبل , فهذا الذي أسماه " الرمّاني " نقص العادة , وجعله " الباقلاني " الوجه الأول من الوجوه العشرة التي ذكرها لبلاغة القرآن , يقول عبد الجبار أن ذلك ليس وجهاً مستقلاً من وجوه الإعجاز , لأنه لو كان كل قالب جديد معجزاً , لكان ينبغي أن يكون أول ما قيل من الشعر معجزاً , لأنه لم يعرف من قبل .
    4 – ويعرض للقول بالصرفة , ويذهب إلى أنها لا تصلح أن تكون وجهاً من وجوه الإعجاز وقد أطال الحديث عن هذه القضية , وأتى على الشبهات التي يمكن أن تعرض في هذا الأمر .
    5 – أما الإخبار عن الغيب فيرى الشيخ أنه لا يصلح وجهاً من وجوه الإعجاز , لأن التحدي كان لسورة من سور القرآن , وكثير من السور ليس شيء من أنباء الغيب .
    6 – ويقرر القاضي أن القرآن ليس معجزة العرب وحدهم , وإنما معجزة لسائر الناس كذلك , وإن العجم وإن لم يعرفوا مزايا الفصاحة , لكنهم عرفوا عجز العرب الذين هم أهل الفصاحة بسليقتهم وهذا كافٍ في إقامة الحجة عليهم .
    ومما تقدم ندرك أن القاضي عبد الجبار يتفق مع الخطابي والباقلاني الأشعري في أن الصرفة ليست من وجوه الإعجاز , وهو بذلك يخالف الرمّاني المعتزلي , كما أنه يتفق مع الخطّابي في أن الأخبار بالغيب لا يصلح وحده أن يكون وجهاً من وجوه الإعجاز , وهو بذلــك يخالــف الرمّانــي المعتزلــي والباقلانــي الأشعري .
    ويخالف الباقلاني والرمّاني , فلا يعد القالب اللفظي وجهاً من وجوه الإعجاز , وهو يتفق في ذلك مع الخطّابي , وإنما ذكرت هذه النتائج لأبين أن قضية الإعجاز ليس فيهــا اختــلاف يذكــر بيــن الأشاعــرة والمعتزلة – كما صوره كثير من الكاتبين – وإن كان هناك خلاف فليس في جوهر الأمر , وإنما هو في بعض القضايا الكلامية , فالفصاحة التي قال بها القاضي عبد الجبار لا تخرج عن النظــم الــذي قـال بـه الخطّابي وعبد القاهر .
    يتبع – عبد القاهر الجرجاني !
    .......

  13. #13
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي


    عبد القاهر الجرجاني
    .......

    اقتضت مشيئة الله سبحانه وتعالى أن يختلف الناس في مواهبهم وقدرهم , ففي مختلف العصور نجد من الناس من هيأ الله لهم وسائل الإبداع , فهم يسبقون غيرهم , مما يحمل أبناء عصر كل منهم على الاعتراف لهؤلاء , ولقد كان عبد القاهر - رحمه الله - من هذه الصفوة الذين برزوا , فكان ما أنتجه فكره وسطره يراعه إبداعاً , اعترف له به المنصفون , وما أبعد الفرق بين الذاكرة الحافظة التي تحفظ أقوال السابقين , وبين العقلية المبدعة المفكرة التي تفيد من السابقين , ولكنها تبرز جديداً يكون مثار الإعجاب , وشغل الباحثين يجدون فيه الجِدَّة والإبداع .
    لعل عبد القاهر كان أقل إنتاجاً من كثير من معاصريه وممن سبقوه , وممن جاءوا بعده وهذا إذا راعينا الجانب الكمّي , ولكن الجانب الكمّي وحده لا يغني كبير غناء في كثير من الأحيان .
    كان عبد القاهر – رحمه الله – متكلماً أشعرياً , وكان إماماً في اللغة والنحو والأدب والبيان والنقد , وهي معارف يتصل بعضها ببعض , وكان له نتاج جيد يعنينا منه ما يتصل بإعجاز القرآن الكريم ومن أبرزها " الرسالة الشافية " و " دلائل الإعجاز " .
    أما الرسالة الشافية فهي جزء صغير عرض فيها لبعض القضايا الأولى التي تتصل بالإعجاز , حيث أثبت عجز العرب عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بسورة منه , وناقش فيها القائلين بالصِّرفة , كل ذلك بأسلوب قوي متين , وقد أشار إلى ذلك في مقدمة رسالته , ولكنه لم يعرض في هذه الرسالة إلى ما يكون به الإعجاز , أما ما يكون به الإعجاز – كما يراه – فقد أفرد له كتابه دلائل الإعجاز , وهو الذي ضمنه نظريته في النظم .
    نظريـــــة النّظـــــم
    لا بد قبل شرح هذه النظرية من أن نعرفك أن الناس كانوا قبل عبد القاهر وفي عصره فريقين .. فريقاً شغف باللفظ ورأى أنه هو الأمر الذي يتفاضل به الكلام , فكان يجهد نفسه في اختيار الكلمات وتنقيتها .. والفريق الآخر رأى أن الفضيلة للمعنى , وأن الألفاظ هي القوالب التي توضع فيها المعاني .
    ويجيء عبد القاهر – رحمه الله – ويقف أمام هذين الفريقين أنصار المعنى وأنصار اللفظ , وبعد أن هضم كثيراً من أنواع المعارف التي كانت في عصره , وبخاصة النحو والأدب والبيان , وما كُتب في إعجاز القرآن , يبرز للناس نتيجة لهذه الدراسات كلها نظريته في النظم .
    قيمـــــة الفصاحـــــة
    بدأ عبد القاهر حديثه في كتاب دلائل الإعجاز عن أهمية علم البيان ورفعته ومنزلته بين العلوم , وعن أهمية الأدب والشعر , ناعياً على الذين لا يدركون ما لعلم البيان من فوائد , ولا يقدرون ما يحدثه الشعر من أثر في النفس , مكتفين بالوقوف عند ظواهر الأمور , ليس عندهم إلا التقليد لمن سبقهم , ويبين عبد القاهر لهؤلاء أنهم ما داموا على هذه الحال , فلن يستطيعوا أن يتذوقوا كتاب الله , ولن يدركوا إعجاز القرآن الكريم إدراكاً يقوم على أسس صحيحة وقواعد ثابتة .
    يقول في ذلك كله " أي في بيان أهمية الفصاحة والبيان " , لم أزل منذ خدمت العلم أنظر فيما قاله العلماء في معنى الفصاحة , والبلاغة , والبيان , والبراعة , وفي بيان المغزى من هذه العبارات , وتفسير المراد بها , فأجد ذلك كالرمز والإيماء والإشارة في خفاء , وبعضه كالتنبيه على مكان الخبيء ليُطلَب , وموضع الدفين ليُبحث عنه فيُخرج , وكما يفتح لك الطريق إلى المطلوب لتسلكه , وتوضع لك القاعدة لتبني عليها , ووجدت المعول على أن ههنا نظماً وترتيباً وتأليفاً وصياغةً وتصويراً ونسجاً وتحبيراً , وأن سبيل هذه المعاني الكلام الذي هي مجاز فيه , سبيلها في الأشياء التي هي حقيقة فيها .
    وإذا كان هذا هكذا علمت أنه لا يكفي في علم الفصاحة أن تنصب لها قياساً ما , وأن تصفها وصفاً مجملاً , وتقول فيها قولاً مرسلاً , بل لا تكون من معرفتها في شيء حتى تُفصّل القول وتُحصّل , وتضع اليد على الخصائص التي تعرض في نظم الكلم وتعدها واحدة واحدة وتسميها شيئاً شيئاً , وتكون معرفتك معرفة الصّنع الحاذق , الذي يعلم علم كل خيط من الإبريسم – ألإبرة – الذي في الديباج .
    وإذا نظرت إلى الفصاحة هذا النظر , وطلبتها هذا الطلب , احتجت إلى صبر على التأمّل ومواظبة على التدبّر , وإلى همّة تأبى لك أن تقنع إلا بالتمام وأن تربع إلا بعد بلوغ الغاية .
    وجملة ما أردت أن أبينه لك : أنه لا بد لكل كلام تستحسنه ولفظ تستجيده , من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة وعلّة معقولة , وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذاك سبيل , وعلى صحة ما ادعيناه من ذلك دليل , وهو باب من العلم إذا أنت فتحته اطلعت منه على فوائد جليلة , ومعان شريفة , ورأيت له أثراً في الدين عظيماً , وفائدة جسيمة , ووجدته سبباً إلى حسم كثير من الفساد فيما يعود إلى التنزيل , وإصلاح أنواع من الخلل فيما يتعلق بالتأويل .. وأنه ليؤمّنك من أن تغالط في دعواك , وتدافع عن مغزاك , ويربأ بك أن تستبين هدىً ثم لا تهدي إليه .
    وبعد هذا التمهيد في كتاب الدلائل يشرع – رحمه الله – في بيان فكرته وشرح نظريته , وسأحاول هنا أن ألخّص لك هذه النظرية في خلاصة ميسرة , لكني أريد منك أن توجه إليّ ذهنك وفكرك, وأن تعمل بنصيحة عبد القاهر التي نقلتها لك آنفاً .
    عناصـــــر الكـــــلام
    يرى عبد القاهر – رحمه الله – أن الكلام الذي يؤدى عند المتكلم , ويكون مقبولاً عند المخاطبين , لا بد له من ثلاثة عناصر " اللفظ والمعنى والنظم " أما اللفظ فهو هذه الحروف والكلمات التي تنطق بها ألسنتنا , وتسطرها أقلامنا , وأما المعنى فهي تلك الأمور التي نجدها في نفوسنا , ونوّد أن نعبّر عنها ليدركها المخاطبون , وعلى هذا فالألفاظ قوالب للمعاني , فالمعنى هو المعبَّر عنه , واللفظ هو المُعَبَّر به , فإذا رأيت زهرة فأعجبك منظرها , أو تأملت واقع أمتنا فساءك حالها , أو قرأت تاريخ الدول الاستعمارية قديماً وحديثاً , فاعترت نفسك الدهشة , هذه كلها معانٍ استقرت في نفسك , فهي تفعل في نفسك فعلها , فتجد لها آثارها المتعددة المختلفة , وتظل كامنة في نفسك معاني مجردة , فإذا أردت أن تبثها غيرك من الناس ’ وأن تخرجها من داخل جوانحك , وعميق خفاياك , وأرجاء نفسك , إذا أردت أن تخرجها لتسمع بها نفسك وغيرك , فإنك تنطق بها ألفاظاً مكونة من حروف وكلمات .
    هذه هي الصلة بين اللفظ والمعنى كما يجدها كل واحد منا من نفسه , وهذا الذي كان يعرفه الناس في عصر عبد القاهر ومن قبله كذلك , ومن هنا اختلف الناس بين من يشيد باللفظ , أو يشيد بالمعنى .
    ولكن عبد القاهر – رحمه الله لم يقف عند هذين العنصرين , بل رأى أن هناك عنصراً ثالثاً لا بد من مراعاته , ليؤدي الكلام غرضه صحيحاً مقبولاً , وهذا الذي أبرزه عبد القاهر , وجدنا من العلماء قبله من يشير إليه وينبه عليه , كما عرفت من قبل عند الخطابي والقاضي عبد الجبار , إلا أن عبد القاهر بلغ الغاية بما بيّن وفصّل .
    هذا العنصر الثالث الذي لا بد منه الذي يسمى النّظم , فما هو هذا النظم يا تُرى ؟
    معنـــــى النّظـــم
    يقول عبد القاهر : إن النظم هو توخي معاني النحو , وبيان ذلك .. أننا حينما ننطق بالكلمات والجُمل , فلا بد من أن تكون مرتبة ترتيباً مقبولاً معقولاً .
    الكلمة كما نعلم " اسم وفعل وحرف " ولا بد من ترتيب صحيح بين هذه الأجزاء , فلا يمكن أن يكون الترتيب بين حرف وحرف , لا يمكن أن نقول مثلاً " إن من " , فإن " إن " حرف شرط و " من " حرف جر , ولا نستطيع أن نقول كذلك " هل بل " فإن ذلك ليس له معنى , كذلك لا يجوز الترتيب بين الفعلين , فلا نستطيع أن نكوّن جملة من قولنا " أخذ مشى " , لأن مثل هذه لا تكون جملة مفيدة , وهي مرفوضة كما بينته قواعد النحو .
    الترتيب لا بد إذن أن يكون بين اسمين كقولنا " الوحدة قوة " , أو بين اسم وفعل مثل " ربح المجاهدون " أو أن يكون هناك حرف يربط بين الأسماء والأفعال , كما نقول " نصلي في الأقصى " , أو " نبيع لله أرواحنا " .
    هذه اللبنة الأولى في النظم , وهو أن يكون موافقاً لقواعد النحو , أما اللبنة الثانية وهي الأهم من سابقتها , فهي أن يكون هذا النظم دقيقاً , بحيث ترتب المعاني التي تريدها في نفسك أولاً , ثم تختار لها بعد ذلك الألفاظ التي تتفق مع هذه المعاني , وهذا ملحظ دقيق يحتاج منك إلى حضور نفس , وحضور فكر , وجدّيّة ويقظة , والله المستعان , اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً , وأنت تجعل الحزن سهلاً إذا شئت .
    كثيرة تلك المعاني التي نجدها في نفوسنا , ونجد أنفسنا مضطرين أن نعبّر عنها بألفاظ يفهمهـــا المخاطبون , قد يسألك أستاذك عن حفظ سورة البقرة وسورة آل عمران , وهما الزهراوان كما جاء في حديث سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فبماذا تجيبه يا ترى إذا كنت لا تحفظ إلا سورة البقرة ؟ يمكنك أن تقول " حفظت سورة البقرة " ويمكنك أن تقول " سورة البقرة حفظت " .
    وقد يسألك سائل آخر " هل حفظت سورة البقرة ؟ " يمكنك أن تجيبه كذلك بالجملتين السابقتين : " حفظت سورة البقرة " , " سورة البقرة حفظت " , ولكن أمعنى ذلك أن الجملتين سواء ؟ .
    قبل الإجابة عن هذا السؤال لا بد أن ننظر إلى المعْنّيين في أنفسنا , أهما سواء أم بينهما خلاف ؟ , وسنجد أن المعنيين مختلفان , لأن السؤال الأول كان عن حفظ السورتين معاً , والذي قررته في نفسي أنني لم أحفظ إلا سورة البقرة , وهذا الذي أريد أن أتلفّظ به , أما السؤال الثاني , فهو هل حفظت سورة البقرة ؟ , والجواب أنني حفظتها , وهذا الذي أريد أن أخبر به السائل .
    إذن هناك خلاف بين المعنيين في نفسي , وإن كان هناك اختلاف بين المعنيين , فلا بد أن ينتج عنه اختلاف بين اللفظين , وعلى هذا فالإجابة الصحيحة عن السؤال الأول " سورة البقرة حفظت " وعن السؤال الثاني " حفظت سورة البقرة " .
    نحن نرى أن اللفظ واحد في كلتا الجملتين , لكن الذي اختلف النظم , أعني ترتيب الكلمات , قلنا في الجواب الأول " سورة البقرة حفظت " فقدمنا المفعول على الفعل , فإن هذا التقديم يفيد القصر والاختصاص , ومعنى هذا أنني لم أحفظ إلا هذه السورة , فلم أحفظ سورة آل عمران , أما الجملة الثانية " حفظت سورة البقرة " , فإن هذا هو الذي يتسق مع السؤال , ولا يدل على أنني لم أحفظ غير هذه السورة .
    وهكذا ندرك أنه إذا اختلف المعنى الذي نريد أن نعبّر عنه , فلا بد أن يختلف اللفظ الذي نريد أن نعبّر به , واليكم مثالاً آخر : -
    قد تذهبين لزيارة صديقتك سعاد في أيام الامتحانات , فينكر عليك والداك هذه الزيارة فيقولان , " أتزورين سعاد ؟ " ويمكن أن يقال أيضاً " أسعاد تزورين ؟ " .
    الجملتان سواء من حيث اللفظ , ليس في أحداهما زيادة عن الأخرى , لكنهما اختلفتا من حيث النظم , التقديم والتأخير , وعلى هذا لا بد أن يكون لكل منهما معناها الخاص بها , فإذا كان إنكار والديك عليك زيارة سعاد , لأن الوقت غير مناسب , ولأن الظرف هو ظرف الامتحانات , لا يجوز أن تضيعي وقتك بالزيارات فيجب أن تكون الجملة هكذا " أتزورين سعاد ؟ " .
    أما إذا كان إنكارهم لزيارتك لأنهما يريدان أن تكون علاقة بينك وبين سعاد لسبب ما , فيجب أن يكون نظم الجملة هكذا " أسعاد تزورين ؟ " , فالإنكار في الجملة الأولى توجه إلى الزيارة نفسها , لأنها في وقت غير مناسب , أما في الجملة الثانية فقد توجه الإنكار لا للزيارة , بل للمفعول , كأنها ليست حرية بهذه الزيارة , وذلك بقطع النظر عن الوقت وملاءمته .
    وهكذا نرتب المعنى الذي نريد أن نتحدث عنه , ثم نرتب الألفاظ التي نريد أن نعبّر بها , وهكذا ندرك مما تقدم أن النظم لا بد له من عمليتين اثنتين :
    أولاً : ترتيب المعاني في النفس .
    ثانياً : ترتيب الألفاظ في النطق .

    وندرك كذلك أن النظم شيء غير اللفظ والمعنى .
    مما سبق ندرك أن هناك فرقاً كبيراً بين قولي " أعني فلاناً " وأن أقول " إياك أعني " , فإن معنى الجملة الأولى أنني أعنيه وقد أعني غيره , أما الجملة الثانية فمعناها أنني أوجه العناية له وحده .
    وبين قولي " لا ضجة في الحجرة المجاورة " و " ليس في الحجرة المجاورة ضجة " , فإن معنى الجملة الأولى نفي الضجة من الحجرة , أما الجملة الثانية فتفيد أمرين اثنين :
    أولاً : ما أفادته الجملة الأولى من نفي الضجة في الحجرة .
    ثانياً : إثبات الضجة في حجرتنا أو حجرة أخرى .

    هذا هو النظم الذي عناه عبد القاهر – رحمه الله – ترتيب الألفاظ في النطق حسب ترتيب المعاني في النفس .
    وقد حرص في كتاب الدلائل , على توضيح أمرين اثنين :
    أولاً : الرد على الذين يزعمون أن الفضيلة للألفاظ وحدها .
    ثانياً : الفصول التطبيقية الكثيرة التي ذكرها شرحاً لنظريته .

    ألجانب الأول : رده على أنصار اللفظ :
    1 – أنه لو كانت الفصاحة للفظ وحده , أي من حيث هو لفظ , لكان ينبغي أن لا تفارقه الفصاحة في أي موضع , والأمر ليس كذلك , فكم من كلمة تغني الأدباء بفصاحتها في موضع , ولكنهم استرذلوها في مواضع أخرى , كم من كلمة حسنت في بيت شعر , ولكنها قبحت في آخر .
    2 – الناس ليسوا سواء في تذوق فصاحة الكلمات , فلو كانت الفصاحة صفة الكلمة , لما جاز أن تفارقها أبداً , فهي صفة لا تدرك بالسمع , وإنما تدرك بالقلب , ونحن نعلم أن المعاني هي التي تدرك بالقلوب وليست الألفاظ , أما قولهم كلام فصيح , فإنما يقصدون به أنه متلائم مع المعنى الذي جيء به من أجله .
    3 – لو كانت الفصاحة للألفاظ وحدها لما كان هناك فرق بين الجمل المتفقة في الكلمات , المختلفة في النظم , مع أننا رأينا كثيراً من الفروق في الأمثلة التي ذكرناها من قبل , فما أعظم الفرق بين قولنا " سورة البقرة حفظت " و " حفظت سورة البقرة " , " أتزورين سعاد ؟ وأسعاد تزورين ؟ " , " لا ضجة في الحجرة المجاورة " و " ليس في الحجرة المجاورة ضجة " .
    تســــاؤل لا بد منه : -
    وقد تتساءلون هنا كيف ينكر عبد القاهر فصاحة الألفاظ , مع أننا ندرك بداهة أن هناك ألفاظاً نجد لها خفة على ألسنتنا متكلمين , وخفة على آذاننا مستمعين , ولا نجد هذه الخفة لما يشابهها من ألفاظ إننـــــا ندرك بداهة الفرق بين كلمتي " الغصن و العسلوج " و " السيف و الخنشليل " و " النفس و الجرشى " و " المزن و البعاق " ومعناهما واحد , فكيف ينكر عبد القاهر أن يكون للفظة ذاتها خفة في نفسها على اللسان أو في الأذن ؟ .
    والجواب أن هذا لا يخفى على أفراد الناس فكيف يمكن أن يخفى على عبد القاهر , إن عبد القاهر لا ينكر أن يكون للألفاظ المفردة فصاحة بمعنى أنها خفيفة في النطق أو على السمع , ولكن حديثه عن الكلمات المجموعة بعضها إلى بعض , حديثه ليس في الكلمات المفردة – إذن – فهو لا ينكر أن للكلمات المفردة خفة أو ثقلاً , وأن بعضها من هذه الحيثية خير من بعضها الآخر , وهذه قضية غلط فيها كثير من الكاتبين الذين ظنوا أن تركيز عبد القاهر على النظم أو على المعنى , وعدم إشادته بالألفاظ , ظنوا ذلك إغفالاً منه لأفضلية بعض الكلمات على بعض من حيث جرسها ووقعها في اللسان وعلى الأذن , وليس الأمر كما ذهبوا إليه , فالشيخ في أكثر من موضع من كتابه ينبه على هذه القضية ويشير إليها .
    ولنستمع إلى ما كتبه رداً على هذه الشبهة , وهي أننا لا نستطيع أن ننكر التفاضل بين الألفاظ , فلقد نجد المعنى يعبر عه بلفظتين , إحداهما أيسر نطقاً وأخف على السمع من صاحبتها , يقول : والجواب وبالله التوفيق أن يقال للمحتج بذلك , قولك إنه يصح أن يعبر عن المعنى الواحد بلفظين , يحتمل أمرين :
    أحدهما : أن تريد باللفظين كلمتين معناهما واحد في اللغة مثل " الليث و الأسد " ومثل " شحط " و " بعد " , وأشباه ذلك مما وضع اللفظان فيه لمعنى .
    والثاني : أن تريد كلامين , فإن أردت الأول خرجت من المسألة , لأن كلامنا نحن في فصاحة تحدث بعد التأليف , دون الفصاحة التي توصف بها اللفظة مفردة , ومن غير أن يعتبر حالها مع غيرها .
    وهذه إجابة من الشيخ حريّة بالفهم , لأنها تبدد كل وهم , فهو لا ينكر أن بعض الكلمات المفردة أفصح من بعض من حيث خفتها وجرسها , وهذا لا شأن له بالنظم , لأن النظم لا يكون في الكلمة الواحدة , وإنما النظم ضم بعض الكلمات إلى بعض , وفصاحة هذا النظم هي التي يتحدث عنها الشيخ ويرى أنها ترجع إلى المعنى .
    ونراه يؤكد هذه القضية في أكثر من موضع من كتابه الدلائل .
    والحق أننا بعد تتبع كتاب الدلائل وجدنا أن الشروط التي اشترطها علماء البلاغة لفصاحة الكلمة وهي خفتها , وكونها جارية على القياس الصرفي , موافقة قرره اللغويون , لم يهمله عبد القاهر , بل أشار إليه ونبه عليه .
    يتبع – الجانب الثاني : القواعد التطبيقية لنظرية النظم !
    .......

  14. #14
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي


    ألقواعد التطبيقية لنظرية النظم
    .......

    القواعد التطبيقية التي ذكرها لشرح نظريته كثيرة , عقد لها فصولاً مثل التقديم والتأخير , والحذف والذكر , والتعريف والتنكير , والفروق بين الخبر والقصر , والفصل والوصل , إلى غير ذلك من فصول , وفي هذه الفصول كلها يذكر تطبيقات عملية من آي القرآن الكريم , ومن الشعر الجيد ليبرهن على أن النظم هو الذي يرجع إليه فضل الكلام .
    ففي التقديم والتأخير مثلاً : يشير إلى قوله تعالى { قالوا أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم } " الانبياء : 62 " , حيث قدم الضمير " أنت " على الفعل " قالوا أأنت فعلت " حيث جاء نظم الآية هكذا ولم يقدم الفعل فيقال " أفعلت هذا " وسر ذلك كم يرى عبد القاهر أننا نقدم ما هو مشكوك فيه , أما الأمر المتيقن فلا يجوز أن نقدمه , فإذا كان الشك في الاسم قدمناه , وإذا كان الشك في الفعل قدمناه , فإذا سمعــــــت قصيدة من أحد الناس وأنا لا أعرف أهي من شعره أم شعر غيره , فلا يجوز أن أقول له " أقلت هــــذه القصيدة ؟ " , لأن القول مفروغ منه , وإنما يجب أن أقول " أأنت قلت هذه القصيدة ؟ " لأن هذا هــــو الأمر المشكوك فيه أقالها هو أم غيره ؟.
    وإذا جلست في بيت أحد الناس فلا يجوز أن أقول " أبنيت هذا البيت ؟ " لأن البناء تم , وإنما أقول له " أأنت بنيت هذا البيت ؟" .
    ونستطيع أن نفهم الآية الكريمة على هذا النحو , فالأصنام قد حطمت , ولكنهم يريدون أن يقرروا إبراهيم عليه الصلاة والسلام بتحطيمها , فجاء نظم الآية هكذا { أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم } .
    وأما التعريف والتنكير , فيمثل عبد القاهر بقول الله تعالى حديثاً عن اليهود { ولتجدنهم أحرص الناس على حياة } " البقرة : 96 " , ولم يقل الحياة , يفيد التنكير أن اليهود يحرصون على الحيـــاة أيّاً كانـــت ذليلة حقيرة , فيها هوان وصغار .
    وفي الفروق بين الخبر يفرق بين قولنا " زيد منطلق " و " زيد المنطلق " و " المنطلق زيد " فإن كلاً من هذه العبارات لها معنى غير صاحبتها , وهذا هو النظم , ويطبق كل هذا على آيات من القرآن الكريم .
    وفي الفصل والوصل يبين عبد القاهر أنه إذا كان هناك جملتان , وكانت الثانية متصلة بالأولى اتصالاً وثيقاً , كأن تكون تأكيداً أو بدلاً وجب فصلها عن الثانية , ومعنى الفصل ترك العطف بالواو ويمثل لذلك بقوله سبحانه { بسم الله الرحمن الرحيم : ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه , هدى للمتقين } " البقرة 1 , 2 " , حيث جاءت كل جملة من هذه الجمل غير معطوفة على سابقتها , لأن بينها اتحاداً في المعنى .
    وكذلك قوله سبحانه { ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم } " يوسف : 31 " حيـــث جــاءت الجملـــة الثانية " إن هذا إلا ملك كريم " مفصولة غير معطوفة , لأن كونه ليس بشراً , ليس له معنى غير أنه ملك , ألا ترى أننا إذا قلنا " إنها تقية إنها تؤدي الصلوات , إنها تلبس جلباب " لا يجوز أن نعطف هذه الجمل بعضها على بعض , لأن العطف يقتضي التغاير , وكونها تؤدي الصلاة , وكونها تلبس الجلباب لا يختلف هذا أو ذاك عن كونها تقيّة , ولو قيل " إنها تقية وإنها تحسن الطهي , وإنها تجيد الخياطة " فلا بد من العطف بين هذه الجمل , لأن كلاً منها مختلفة عن صاحبتها .
    وفي أسلوب القصر يبين سر النظم في آيات كثيرة مثل قوله سبحانه { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر } " التوبة : 18 " و { فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب } " الرعد : 40 " و { إنما المؤمنون إخوة } " الحجرات : 10 " فمعنى " إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر " أي إن المؤمنين وحدهم هم الذين يعمرون مساجد الله لا غيرهم , ولو قيل " إنما يعمر المؤمنون مساجد الله " لكان المعنى أن المؤمنين يعمرون المساجد ولا يعمرون شيئاً آخر , وهذا غير صحيح .
    وقوله سبحانه " إنما عليك البلاغ " معناه عليك البلاغ فحسب , أما غيره من الحساب فهو لله وحده , ولو قال إنما البلاغ عليك , لكان معناه أنك تبلغ دعوة الله وحدك , ولا يجوز لأحد غيرك أن يبلغ هــــذه الدعوة , وهذا ليس صحيحاً لأن المؤمنين جميعاً عليه واجب التبليغ .
    وهكذا قوله " إنما المؤمنون إخوة " معناه أن أعظم علامات الإيمان الأخوّة , فالمؤمنون إخوة لا متقاطعون ولا متدابرون , ولو قيل إنما الإخوة المؤمنون , لكان المعنى رابطة الأخوة لا تكون إلا بين المؤمنين وحدهم وهذا غير صحيح , فإن الأخوة رابطة قد تكون بين المؤمنين وقد تكون بين غيرهم .
    وهكذا نجد عبد القاهر يبذل قصارى جهده , وهو يحرص كل الحرص على شرح نظرية النظم , مبيناً أن إعجاز القرآن الكريم إنما هو لهذا النظم البديع الذي بهر العرب وعجزوا أن يأتوا بمثله , وها هو عبد القاهر يبين لنا الغاية من هذه النظرية – نظرية النظم – وهي إدراك الإعجاز وتذوق حلاوته .
    النظم – إذن – هو سر الإعجاز , أما أنواع المجاز والاستعارة والكناية , فمع ما لها من شأن إلا أن الفضل يرجع فيها إلى النظم , ويمثل لذلك بقوله سبحانـــه { واشتعـــل الـــرأس شيبـــاً } " مريم : 4 " فالاستعارة في قوله سبحانه " اشتعل " فالاشتعال كما نعلم للنار , ولكن شبه الشيب بالاشتعال .
    يرى عبد القاهر أن الفضل للنظم , لا للإستعارة وحدها , فلو أننا أبقينا الإستعارة وغيرنا النظم فقيل شيب الرأس , لم يكن للكلام هذا الفضل وتلك المزية , وإنما المزية والفضل أن أسندنا الاشتعـــال إلــى الرأس , وجعلت كلمة شيباً تمييز , وهو تمييز محول عـن الفاعـل كمـا يقــول النحويـــون , لأن الأصـــل " اشتعل الرأس شيباً " .
    وإذا أردت أن تدرك الفرق بين النظم في الجملتين , أعني النظم القرآني " اشتعل الرأس شيباً " وقولنا " اشتعل شيب الرأس " , فانظر إلى هاتين الجملتين " اشتعلت النار في البيت " و " اشتعل البيت ناراً " , ولا شك أنك مدرك ما بين الجملتين من فرقٍ شاسع , فالأولى تفيد اشتعال النار في جزء من البيت وقد يكون صغيراً , أما الثانية فتفيد التعميم أي اشتعال النار في البيت كله .
    وجه إعجاز القرآن عنده :
    وأخيراً يصل عبد القاهر إلى الحديث عن إعجاز القرآن , أي ما الذي أعجز العرب , ويضع احتمالات متعددة , فقد يكون إعجاز القرآن في مفرداته , أو معانيه , أو حركاته , أو فواصله , أو غريبه , ولكنه يرد كل هذه الوجوه , يقول : - لا يجوز أن يكون – الإعجاز – في الكلم المفردة التي هي أوضاع اللغة , قد حدث في مذاقة حروفها وأصدائها أوصاف لم تكن لتكون تلك الأوصاف فيها قبل نزول القرآن , وتكون قد اختصت في أنفسها بهيئات وصفات يسمعها السامعون عليها إذا كانت متلوة في القرآن , لا يجدون لها تلك الهيئات والصفات خارج القرآن .
    ولا يجوز أن تكون في " معاني الكلم المفردة " التي هي لها بوضع اللغة , لأنه يؤدي إلى أن يكون قد تجدد في معنى – الحمد – و – الرب – ومعنى العالمين والملك واليوم والدين وهكذا , وصف لم يكن قبل نزول القرآن , وهذا ما لو كان ههنا شيء أبعد من المحال وأشنع , لكان إيّاه .
    ولا يجوز أن يكون هذا الوصف في " ترتيب الحركات والسكنات " حتى كأنهم تحدوا أن يأتوا بكلام تكون كلماته على تواليه في زنة لكلمات القرآن , وحتى كأن الذي بان به القرآن من الوصف في سبيل بينونة بحور الشعر من بعض , لأنه يخرج إلى ما تعاطاه مسيلمة من الحماقة في " إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وجاهر " و " والطاحنات طحناً " .
    وكذلك الحكم إن زعم زاعم أن الوصف الذي تحدوا إليه هو أن يأتوا بكلام يجعلون له مقاطع , وفواصل كالذي تراه في القرآن , لأنه أيضاً ليس بأكثر من التعديل على مراعاة وزن , وإنما الفواصل في الآي كالقوافي في الشعر , وقد علمنا اقتدارهم على القوافي كيف هو , فلو لم يكن التحدي إلا إلى فصول من الكلام يكون لها أواخر أشباه القوافي , لم يعوزهم ذلك ,ولم يتعذر عليهم .
    ولا يجوز أن يكون الإعجاز بأن لم يلتق في حروفه ما يثقل على اللسان , فإذا بطل أن يكون الوصف الذي أعجزهم من القرآن في شيء مما عددناه , لم يبق إلا أن يكون في " النظم " لأنه ليس – من بعدما أبطلنا أن يكون فيه – إلا النظم والاستعارة , ولا يمكن أن تجعل الاستعارة الأصل في الإعجاز , وأن يقصر عليها , لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون الإعجاز في آي معدودة في مواضع من السور الطوال مخصوصة , وإذا امتنع ذلك فيها , ثبت أن النظم مكانه الذي ينبغي أن يكون فيه .. ومن المفيد أن نشرح هذه الجملة من القول بإيجاز :
    يبين عبد القاهر – رحمه الله – الأمر الذي كان به إعجاز القرآن الكريم , وتحدوا به فعجزوا أن يأتوا بمثله , وهو في هذا يطرح بين يدي القارىء عدة أمور , يحتمل كل واحد منها أن يكون وجهاً من وجوه الإعجاز .
    الاحتمال الأول : من الممكن أن يكون الذي أعجزهم كلمات القرآن وألفاظه المفردة , ولكن عبد القاهر يرد هذا القول , وحق له أن يرد , لأن معنى كون هذه الألفاظ معجزة جهل العرب بها قبل نزول القرآن , وأنهم لم يسمعوها إلا بعد أن نزل بها القرآن الكريم وهذا غير مقبول , لأن ألفاظ القرآن الكريم لا يجهلها العرب , ولهذا لم تكن غريبة عليهم .
    الاحتمال الثاني : أن يكون الذي أعجز العرب معاني الكلمات , وهذا مردود أيضاً , لأنه يلزم منه أن يكون للكلمة معنى قبل نزول القرآن , وأن يكون لها معنى آخر تجدد بنزول القرآن الكريم , وهذا غير مقبول لأن معنى الحمد , والكتاب , والريب , والفلاح , والخداع , والفساد , والاستهزاء , والعبادة , والفراش , والأرض , والسماء , وغيرها من ألفاظ , إن معنى هذه قبل نزول القرآن وبعد نزول القرآن شيء واحد .
    الاحتمال الثالث : أن يكون سبب عجز العرب القالب الشكلي الذي جاءت عليه الكلمات القرآنية , بيان ذلك أن كلام العرب ليس نوعاً واحداً , فمنه الشعر ومنه الرجز , ومن السجع , منه كلام موزون وكلام غير موزون , والبنية الشكلية التي جاء عليها القرآن الكريم تختلف عن كل ما ألفه العرب وعرفوه , فليس شعرأ وليس سجعاً , وليس شيئاً آخر من هذه الأشكال التي نطق بها العرب , ويرد عبد القاهر هذا الاحتمال , لأن من ركب جملاً تشبه الجمل القرآنية حري أن يكون كلامه معجزاً , ومنه هذه الحماقات التي قيل إنها عورض بها القرآن مثل " والطاحنات طحناً " و " والعاجنات عجناً " و " والفيل وما أدراك ما الفيل " ومثل " إنا أعطيناك الجماهر فصل لربك وجاهر " و " ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى , أخرج منها نسمة تسعى " , ولا يشك أصحاب هذه الكلمات بأنها حماقات ركيكة .
    الاحتمال الرابع : أن يكون وجه الإعجاز الفواصل القرآنية , ويرد عبد القاهر هذا الاحتمال , لأن الفاصلة مثل القافية في الشعر , ولقد برع القوم في الشعر – كما نعلم – ومن برع في الشعر وقوافيه لا يعجز أن يجعل للكلام خاتمة تشبه القافية .
    ولا بد أن نعلق هنا بكلمة قصيرة , وهي أن عبد القاهر ينفي أن يكون وزن الفاصلة وجهاً من وجوه الإعجاز , أما اختيار الكلمة في الفاصلة كأن تختار كلمة يفقهون في آية ويعلمون في آية أخرى , وسميع بصير في آية , وغفور رحيم في أخرى , ولقوم يتفكرون في آية , وقوم يعقلون في أخرى , فهذا يدخل في النظم الذي هو لُب الإعجاز .
    الاحتمال الخامس : أن تكون خفة الكلمات وعدم ثقلها وتنافرها هو وجه الإعجاز , ويرد عبد القاهر هذا القول بأن للعرب كلاماً مثيراً خالياً من الثقل والتنافر , متلائمة حروفه في كلماته , وكلماته في جمله , ولم يقل أحد إن ذلك من الإعجاز .
    الاحتمال السادس : أن يكون وجه الإعجاز ما في القرآن الكريم من استعارات , ويرد عبد القاهر هذا القول بأن الاستعارات ليست في جميع الآيات القرآنية , فكثير من الآيات , أو أكثرها ليس فيه استعارة , ويلزم على هذا القول أن تكون الآيات الخالية من الاستعارة غير معجزة وهذا أمر مجمع على ردّه .
    وإذا بطلت هذه الاحتمالات كلها لم يبق إلا وجه واحد , وهو النظم , فنظم القرآن هو الذي كان به القرآن معجزاً , وهو الذي أعجز العرب , ولذا لما قالوا إن القرآن مفترى , قال لهم : هاتوا أنتم عشر سور مفتريات , افتروا معانيها كما تشاءون , ولكن لتكن في نظم يشبه نظم القرآن , فعجزوا .
    والحق أن عبد القاهر قد سلك لإثبات ما يريد طرقاً فجاجاً , ولم يترك منفذاً يرى فيه ثغرة لمعترض إلا سدّه , ولقد اشتمل كتاب الدلائل كما عرفنا من قبل على جانبين , الجانب النظري يناقش فيه الذين جعلوا الفضل للفظ ويرد عليهم ويقسو أحياناً , والجانب العملي الذي كان تطبيقاً لقواعد النظم .
    وبعد فهذه نظرية عبد القاهر امتازت بعمق التحليل , وحسن السبك , وصحة الترتيب ودقة الموضوع , ولقد برز فيها جانبان اثنان : الجانب النفسي أولاً والجانب الفكري ثانياً .
    أما الجانب النفسي , فيظهر في عمق التأثير الذي يحس به القارىء وهو يتأمل ويتدبر الكلام البليغ وفي مقدمته الآيات القرآنية , وأما الجانب الفكري , فنجده في العلاقة بين المعاني بعضها مع بعض من جهة , وبينها وبين الألفاظ لا من حيث الوضع فحسب , بل من حيث الوضع والترتيب كلاهما .
    هذه خلاصة عجلى لتلكم النظرية العظيمة التي كانت نتاج فكر لأحد عظماء هذه الأمة – رحمهم الله , رحم الله عبد القاهر وجزاه عن العربية , وكتابها المبين , ودينها الخالد خير الجزاء .
    يتبع – الفصل الثاني .. المحدثون والإعجاز !
    .......

  15. #15
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي


    ألفصل الثاني
    ألمحدثون والإعجاز
    .......

    يحمل هذا العلم في كل زمن قوم ينفون عنه كل تحريف ,ويميطون عن طريقه كل أذى , لذا رأينا للمحدثين في هذا العصر جهوداً طيبة مشكورة في موضوع الإعجاز , وإن كانوا قد أفادوا كثيراً ممن تقدمهم من العلماء , فلقد كان لكثير منهم ملحوظات جديرة بالتقدير , حريّة بالتسجيل , ثم إن كان لكل عصر أسلوبه الذي يلائمه , وطريقته التي تناسبه , وسنطلعكم على نتاج هؤلاء لتقطفوا من جناهم , محاولين أن نذلل لكم هذه القطوف لتكون دانية إن شاء الله .
    إعجاز القرآن للرافعي

    كان أول كتاب ظهر في إعجاز القرآن الكريم للأستاذ مصطفى صادق الرافعي – رحمه الله – والرافعي منحة من منَح الله لهذه الأمة في عصر كان الناس في أمّسّ الحاجة إليه , فلقد وهبه الله قلماً ذابّاً عن القرآن ولغته , أمام هجمات شرسة , وحقاً كان الرافعي كاتب العربية المنافح عنها , جعل الله منه في الأواخر كما جعل من حسّان في الأوائل .
    وكانت كتابته تتصف بالعمق في الأسلوب , مع سعة في الاطّلاع , مع قوة في العرض , يزين ذلك كله عاطفة صادقة , وإحساس مرهف , وخيال خصب , وذهن ثاقب .
    كان يرقى مع قارئه في سلّم البيان , ليصل به إلى السموّ الأدبي , ولنستمع إليه في هذه الكلمة الحية الموجزة : ( عابوا السموّ الأدبي بأنه قليل , ولكن الخير كذلك , وبأنه مخالف , ولكن ... الحق كذلك , وبأنه مُحَيّر , ولكن ... الحُسْن كذلك , وبأنه كثير التكاليف , ولكن الحرية كذلك , إن لم يكن البحر فلا تنتظر الدُّر , وإن لم يكن السحاب فلا تنتظر المطر , وإن لم تكن شجرة الورد فلا تنتظر الورد , وإن لم يكن الكاتب البياني فلا تنتظر البيان ) .
    والرافعي أديب , لم يقتصر أدبه على النثر وحده , بل كان كاتباً وشاعراً , وناقداً كذلك , وقليل أولائك الذين اجتمعت لهم هذه الصفات كلها , وكما كان الرافعي شاعراً وكاتباً له طابعه المميز في الشعر , وأسلوبه الواضح في الكتابة , فقد كان أيضاً ناقداً له منهجه المستقل في نقده , ولم يخرج نقد الرافعي عن الهدف العام الذي دار في إطاره أدبه وهو " الذود عن حمى الدين واللغة العربية " ولقد أفاد الأدب العربي ولغته , وانتفعت حقول الفكر وميادين الثقافة من جهود الرافعي في النقد إفادة غير محدودة , ولعل أعظم كتبه من حيث القيمة العلمية " تاريخ آداب العرب " ويتكون من ثلاثة أجزاء , كان الجزء الثاني منه حديثاً عن القرآن الكريم , وهو أصل لكتاب الإعجاز , فقد وسّعه الرافعي وزاد ما شاء الله له , فكان كتابه ( إعجاز القرآن ) .
    يحتوي الكتاب على موضوعين كل منهما ذو شأن وخطر : أحدهما إعجاز القرآن والثاني البلاغة النبوية .
    بدأ هذا الكتاب بكلمة رصينة جزلة عن القرآن الكريم , ثم تحدث عن علوم القرآن الكريم " نزوله وجمعه وقراءاته " وغير ذلك من موضوعاته , وأخذت هذه ما يقرب من نصف الكتاب , ثم تحدث عن معنى الإعجاز , وذكر جهود السابقين وعلّق عليها , وبعد أن انتهى من ذلك كله أنشأ يتحدث عن الإعجاز كما يراه , فبيّن بادي بدء أن القرآن الكريم معجز من جهات ثلاث :
    1– من حيث تاريخه بين الكتب السماوية , فهو كتاب محفوظ , ولم يطرأ عليه تحريف ولا تبديل .
    2– من حيث آثاره , فلم يعرف في الدنيا كتاب كان أثره ولا يزال مثل هذا الكتاب المبين .
    3– من حيث حقائقه , وهي حقائق في مجالات متعددة , تعدد أنماط الحياة , ولكنها حقائق ليس فيها ثغرة يتسلل من خلالها زيغ أو زائغ , { وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد } .

    وبيّن الرافعي أنه ليس له غرض في الحديث عن هذه النواحي الثلاث , وإنما غرضه في هذا الكتاب أن يتحدث عن الإعجاز البياني , وهي الجهة الرابعة من جهات إعجاز هذا الكتاب .
    ويبيّن أن الفضل لهذا الكتاب في وحدة الأمّة , وبخاصة وحدتها اللغوية , ويتحدث في هذا الباب عن أسلوب القرآن ونظمه وغرابة أوضاعه التركيبية , وهو وإن كان يلتقي في كثير من الحقائق مع ما كتبه الأقدمون , فإنه والحق يقال , صبغ ذلك كله بصبغة جديدة ببراعة بيانه وقوة أسلوبه , وجميل تصويره ونفث أحاسيسه , وصادق عاطفته , وشدة غيرته الإيمانية , وسعة معرفته باللغة وأسرارها , فلقد هضم ما كتبه الأقدمون في موضوع اللغة على تعدد جهاته ونواحيه , ففي حديثه عن أسلوب القرآن يبين أنه لما كان الأسلوب , أسلوب كل كاتب إنما ينعكس عن مزاج صاحبه , وكان القرآن كتاب الله تبارك وتعالى , أدرك العرب لأول وهلة حينما سمعوه أنهم مهما أتوا من حظ في أفانين الأساليب نظمها ونثرها , فسيظل أسلوب القرآن بعيداً عن متناول ألسنتهم , ومن أن تطمع فيه عقولهم مهما بذلوا في ذلك من محاولات .
    أسلوب القرآن

    ويرى الرافعي أن سر التفاوت بين أسلوب القرآن وأسلوب البشر , مع أن المادة اللغوية واحدة لا تختلف , يرجع إلى أمور أهمها :
    أولاً : ما نجده في أسلوب القرآن من قوة نسج , وإحكام في السرد , بحيث لو قرأته كله من أوله إلى آخره , فإنك لا تحس بنَبْوة أو ثغرة , وأنت تنتقل من معنى إلى آخر , ومن الآية إلى الآية التي بعدها , أو من موضوع إلى موضوع .
    ثانياً : إن هذا الإحكام وتلك القوة في الأسلوب القرآني نجدها في القرآن مكّية ومدنيّة على السواء , وفي سُوَرِه الطويلة والقصيرة على السواء , فهو لا يختلف في تصويره اليوم الآخر , والحديث عــن الكـــون وآيات الوحدانية , لا يختلف في هذه عنه في آيات الأحكام على تعددها , وهذا ما لا نجده عنــد فصحـــاء العرب شعراء وخطباء .
    ثالثاً : وعلى هذا فأسلوب القرآن الكريم نسق واحد , وهذا ما يجعله يختلف عن أساليب البشر , حيث كانت أمزجتهم تنعكس على أساليبهم .
    وما قرره الرافعي في أسلوب القرآن نجده قريباً مما حدثناك عنه عند الباقلاني , لكن الرافعي أفرغه بقالب جديد , وأنشأ بناءً محكماً قوياً , وأضفى عليه مما منحه الله من قوة أسلوبه , وأضاف إليه ما يتفق مع روح العصر .
    يتبع – نظم القرآن !
    .......

  16. #16
    مراقب عام الموقع - عضو مجلس الادارة الصورة الرمزية الشريف ابوعمر الدويري
    تاريخ التسجيل
    12-01-2011
    الدولة
    الاردن - عمان
    المشاركات
    16,550

    افتراضي


    نظـــــم القـــــرآن
    .......

    أما نظم القرآن عند الرافعي , فهو يتمثل :
    أولاً : في الحروف وأصواتها .
    ثانياً : في الكلمات وحروفها .
    ثالثاً : في الجُمَل وكلماتها .

    وهذا ترتيب طبعي منطقي , فالحروف هي التي تتكون منها الكلمات , والكلمات هي التي تتكون منها الجُمل , ويرى الرافعي أن أصوات الحروف في القرآن الكريم منسجم بعضها مع بعض , بحيث يتكون فيها جرس صوتي خلاّب , أو ما يعبر عنه بلغة العصر " موسيقى صوتية جذابة " فقد نجد ثقلاً في ضم حرف لحرف , أو إتباع حركة لحركة , ولكن هذا الثقل يتلاشى في نظم القرآن الكريم , ويمثل لذلك بقول الله تبارك وتعالى { ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنُّذر } " القمر : 36 " , فرغم هاتين الضمتين الثقيلتين على النون والذال في كلام الناس , إلا أنهما جاءتا في القرآن الكريم بعيدتين عن الثقل , بل جاءتا بجرس أخّاذ .
    ويتفنن الرافعي في بيان هذه الحركات , وقد تجيء الكلمة على حروف كثيرة مما يدعو إلى ثقلها في النطق وعلى السمع , لكنها في القرآن يذهب منها كل هذا , ويمثل لذلك بقوله تعالى { فسيكفيكهم الله } " البقرة : 137 " وقوله " ليستخلفنّهم " وما ذلك إلا لاختيار الحروف والحركات .
    أما الكلمات فهي كلمات موحية معبرة فيها الانسجام بين الصوت والمعنى , وأما الجُمل فهي جُمل قُدّرت لها كلماتها تقديراً محكماً بحيث لا تجد كلمة زائدة , أو معنى فيه شيء من النقض , ولذا فإن الرافعي ينكر الزوائد في كتاب الله تعالى , كما أن التكرار إنما جاء لحكم بيانية .
    وقد تأتي الكلمة الغريبة في القرآن , لكننا إذا نظرنا لتأليف حروفها من جهة , وإلى غرابة المعنى الذي جاءت فيه من جهة أخرى نجدها قد فصلت تفصيلاً بحيث لا يصلح غيرهـا مكانها , وذلك مثـل كلمــــــــة " ضيزى " .
    يقول الدكتور فتحي عبد القادر : من أبرز الأساليب التي كتبت للرافعي الشهرة والمجد وعلو المنزلة بين دارسي الإعجاز – وجعلت لكتابه " إعجاز القرآن " نمطاً معيناً بين ما كتبه القدامى والمحدثون عن الإعجاز القرآني – ما كتبه عن انسجام الحروف وأثره في البلاغة القرآنية .
    فما كتبه الرافعي عن الموسيقى القرآنية التي نشأت عن توالي الحروف وانسجامها يعتبر من غير شك ميزة وسبقاً وتفرّداً له في ميدان البلاغة القرآنية .
    ألأصوات الثلاثة
    يرى الرافعي أنه ينتج من الكلمات في حروفها , والجُمل في كلماتها , أصوات ثلاثة هي : صوت النفس , وصوت العقل , وصوت الحِسْ .
    أما صوت النفس فإنما ينشأ من الكلمات ومعانيها , فكل لفظة تتساوق وتنسجم مع معناها الذي أعدّت له , وهذا ما يسمى في العصر الحديث بالإيحاء , أما صوت العقل فإنما ينشأ من تركيب الكلمات في الجُمل , ذلك لأن هذا التركيب أعني تركيب الكلمات في الجُمل لا بد فيه من عمليات فكرية , فنحن بداهة بحاجة ماسة إلى الفكر والعقل لندرك الصلة بين الكلمات في الجُمل , وهذان الصوتان قد عرفهما العرب من قبل .
    أما صوت الحِسْ فهو الذي لم يعرفه العرب قبل القرآن , وهو تقدير الكلمات تقديراً محكماً لمعانيها , بحيث لا تجد كلمة فضفاضة تزيد على المعنى الذي جيئت من أجله وأخرى لا تعبر عن المعنى تعبيراً تاماً , وهذا ما لا نجده في شعر أو نثر , فقد نجد البيت الواحد من القصيدة أو الجملة في الخطبة , ننعم النظر فيها , وإذ بنا يمكن أن نطرح بعضها ونستغني عنه , وليس كذلك القرآن الكريم , وهكذا يمضي الرافعي يحدثنا عن غرابة أوضاع القرآن التركيبية .
    موقف الرافعي من القول بالصِّرْفَة
    عرفت أن معنى الصرفة : صرف الله للعرب أن يأتوا بمثل القرآن , ومعنى ذلك أن الله سلبهم القدرة التي تمكنهم من المجيء بكلام يشبه القرآن الكريم في نظمه وأسلوبه , كما يسلب الإنسان السليم القدرة على تحريك يده , وهذا الذي روي عن " النّظّام " المعتزلي شيخ الجاحظ .
    وروي عن غيره ممن جاءوا بعده أن معنى الصرفة : أن الله سلب العرب العلوم التي تمكنهم من الإتيان بمثل ما في القرآن .
    ويترتب على هذا وذاك أن عجز العرب عن الإتيان بمثل القرآن ليس ناشئاً عن رفعة أسلوب القرآن وبديع نظمه , وعلو شأنه في البلاغة , بل هو راجع عند القائلين بالصرفة لأمر خارج عن القرآن الكريم وهو أن حال الله بينهم وبين ذلك , وإلا – أي لولا أن صرفهم الله – لكان بمقدورهم أن يأتوا بمثله , كيف لا ولهم الكلام البليغ شعراً ونثراً .
    عرض الرافعي – رحمه الله – للقول بالصرفة , ولشيء من سيرة النّظّام الذي اشتهر عنه هذا القول ... ثم قال بأسلوب ساخر :
    وهو عندنا رأي لو قال به صبية المكاتب , وكانوا هم الذين افتتحوه وابتدروه , لكان ذلك مذهباً من تخاليطهم في بعض ما يحاولونه إذا عمدوا إلى القول فيما لا يعرفون ليوهموا أنهم قد عرفوا .
    وإلا فإن من سُلِب القدرة على شيء بانصراف همته عنه , وهو بعد قادر عليه مقرن له , لا يكون تعجيزه بذلك في البرهان إلا كعجزه هو عن البرهان , إذ كان لم يعجزه عدم القدرة , ولكن أعجزه القدر وهو لا يغالب , والمرء ينسى ويذكر , وقد يتراجع طبعه فترة لا عجزاً , وقد يعتريه السأم ويتخوّنه الملال , فينصرف عن الشيء , وهو له مطيق , وذلك ليس أحق بأن يسمى عجزاً من أن يسمى تهاوناً ولا هو أدخل فيما يحمل عليه الضعف منه فيما يحمل عليه فضل الثقة .
    وعلى الجملة فإن القول بالصرفة لا يختلف عن قول العرب فيه " إن هو إلا سحرٌ يؤثر " وهذا زعمٌ رده الله على أهله وأكذبهم فيه وجعل القول به ضرباً من العمى " أفسحرٌ هذا أم أنتم لا تبصرون " , فاعتبر ذلك بعضه ببعضه فهو كالشيء الواحد .
    وتوضيحاً لكلام الرافعي نقول : أن القول بالصرفة لا يتفق مع الحكمة الالهية وبيان ذلك : أن الله قد تحداهم أن يأتوا بمثل القرآن , أو بسورة منه , فهل يليق بالحكيم الخبير والحكم العدل , أن يقول لهم : لتجتمعوا , ولتتعاونوا , ولتبذلوا ما عنكم من جهد وطاقة , ولتستعينوا بمن تشاءون , افعلوا كل ذلك من أجل الإتيان بسورة , ومع إرخاء العنان لهم يقول : سأمنعكم وأصرفكم عن هذا !.
    لتتصوّر مدرّساً وضع أسئلة الامتحان لطلابه , ولكنه عند لحظة الامتحان جمع الأقلام من الطلاب , أو أطفأ الكهرباء , ولنتصوّر أحد الناس يتحدى حامل الأثقال , ولكنه حينما جاء ليحمل قيّد يديه , ماذا يقول الناس عن هذا المدرّس وهذا المتحدّي , إن عملهما ليس فيه شيء من الحكمة ولا الجدّية , بل هو عبث , وإذا كان هذا لا يليق بالبشر , فكيف يتفق مع الحكمة الالهية ؟ كيف يتحدى الله الخلق إنساً وجنّاً بقوله : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } ثم بعد ذلك يصرفهم ويسلبهم القدرة , سبحان ربنا ذي الجلال والإكرام , أحكم الحاكمين .
    على أن الجديد في كلام الرافعي عن الصرفة الموازنة بين هذا القول وقول العرب عن القرآن الكريم " إن هذا إلا سحرٌ يؤثر " وقد رد الله هذا الافتراء وأبطله , وكذلك القول بالصرفة قول باطل يتنافى مع بدهيات العقل , ومسلمات المنطق , لأنه يتنافى مع الحكمة الالهية .
    إن كتاب إعجاز القرآن للرافعي , كتاب ينبض بالحياة والعاطفة الصادقة , ولكنه يغلب عليه الطابع النظري , وكنا نود أن يُكثر فيه الرافعي من التطبيقات العملية , ولكن عذره في ذلك أنه كان عازماً على أن يكتب كتاباً آخر , وهو سر الإعجاز يفرده بجعله خاصاً بالتطبيقات العملية , وقد كتب بعض فصول هذا الكتاب , ولكنه فاضت روحه إلى بارئها قبل أن يتمّه , هذه واحدة .
    أما الثانية فإن أسلوب الرافعي رصين قوي جزل , وقارئه لا بد له من مراس ومعرفة لغوية , لذا وجدناه يصعب فهمه على كثير من الناشئة اليوم , ثم إن الرافعي لم يلق أدبه عناية من المثقفين , وهذا أمر مقصود , لأن كثيراً من المثقفين تتلمذ لمدارس وكتّاب فُتنوا بآداب الغرب .
    رحم الله الرافعي رحمة واسعة , وجزاه عن العربية وكتابها خير الجزاء
    كان هذا ما تيسّر لنا .. نقلناه بأمانة طلباً لمعرفة القراء الكرام !
    وإلى مواضيع أخرى لاحقة بحول الله وتوفيقه !
    .......

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. نداءات القرآن الكريم ... أول نداء في القرآن جاء لكل الناس ,,,
    بواسطة حسن جبريل العباسي في المنتدى الاسلام باقلامنا
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 27-05-2019, 09:25 AM
  2. مصر في القرآن الكريم ,,,
    بواسطة حسن جبريل العباسي في المنتدى الصالون الفكري العربي
    مشاركات: 28
    آخر مشاركة: 15-11-2016, 03:15 PM
  3. (كلا)في القرآن الكريم
    بواسطة عبدالمنعم عبده الكناني في المنتدى الاسلام باقلامنا
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 07-01-2015, 06:08 PM
  4. لغة القرآن الكريم
    بواسطة الشريف أبو محمد الحسيني في المنتدى مجلس لغتنا الجميلة
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 09-07-2014, 02:07 AM
  5. فضل القرأن الكريم
    بواسطة كمال عبدالله محمد عج في المنتدى الاسلام باقلامنا
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 07-08-2012, 03:35 AM

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
MidPostAds By Yankee Fashion Forum