• المك نمر وشندي على عهده

    كانت الوقفة الغيورة الأولى لقبائل الجعليين في شندي في السنة الثانية للغزو التركي للبلاد «1822م» على عهد المك، نمر آخر ملوك السعداب «الذين بدأ حكمهم في 1578م»، وذلك بعد معركة كورتي «1820م» التي خاضها الشايقية ببسالة، وكانوا يحاربون في مهارة شديدة بالسيوف والحراب والدرق على غرار الفروسية، بينما كان الجيش الغازي مسلحاً بالأسلحة النارية الفتاكة، فما كان حظهم من تلك المعركة غير المتكافئة إلا مصرع أعداد كبيرة من القتلى والجرحى وحرق مدينة كورتي بكاملها، ثم تصالحوا من بعدها مع الجيش الغازي وانخرطوا معه في غزو أعالي السودان. ومن المراجع المهمة لهذه الحقبة التاريخية كتاب «النيل الأزرق» لمؤلفه المؤرخ «ألان مورهيد» وهو كتاب عن اكتشاف منابع النيل الأزرق في الثلث الأخير من القرن الثامن عشر «1768 ــ 1773م»، ومرجع تاريخي مهم وجيد التوثيق، وقد كُتِبَ بأسلوب قصصي ممتع وحوى كل ما جرى من أحداث مهمة ومثيرة في إثيوبيا والسودان ومصر خلال حوالى نصف قرن من الزمان، وروى المؤرخ الأحداث في نسق شيق وقد شملت القصة اكتشاف منابع الأزرق في رحلة استكشافية مثيرة بواسطة الرحالة البريطاني الشهير سير جيمس بروس «1710ــ 17969م»، وحملة بريطانيا الغريبة في إثيوبيا إبان عهد الإمبراطور ثيودور، وغزو نابليون مصر ثم ظهور محمد علي باشا واستيلائه على مصر والغزو التركي للسودان. واستقى مورهيد معلوماته عن أوروبيين ــ مؤرخين وعلماء آثار وعلماء طبيعة ومستكشفين أمثال دينو وكايو ــ رافقوا الحملات العسكرية منذ عهد نابليون، وعن آخرين قدموا إلى مجاهل شمال شرق القارة الإفريقية فى عهود سابقة. وقد ترجم الكتاب إلى اللغة العربية د. إبراهيم عباس أبو الريش «1910ــ 1974م» بأسلوب رائع مما جعل بعض الأدباء يعدونه إضافة جيدة لتحف الأدب العربي خلافاً لترجمة سابقة كانت ركيكة كما ذكر المترجم في مقدمة الكتاب.
    والدكتور إبراهيم الريش كان خامس أربعة أطباء تخرجوا في عام 1934م في مدرسة كتشنر الطبية «حالياً كلية الطب، جامعة الخرطوم» هم دكتور عبد الحميد بيومي ودكتور حبيب عبد الله، ودكتور أديب عبد الله، ودكتور سليمان بسيوني، ودكتور منصور على حسيب. وكانت سياسة الإنجليز آنذاك ألا يفتحوا مجال التعليم إلا لقلة ضئيلة جداً من السودانيين وفقط لقدر حاجتهم لتسيير الخدمة المدنية. وقد ظل الحال على ذلك حتى تاريخ استقلال السودان في عام 1956م، وكان كاتب هذا المقال واحداً من آخر دفعة دخلت جامعة الخرطوم في عام 1955م، وكان ذلك آخر عام للاستعمار البريطاني للبلاد، وكان مجموع الدفعة التي حظيت بالقبول بالجامعة حوالى «250» طالباً من كل المدارس الثانوية في السودان «وكان عددها ستة آنذاك» دخل منهم عشرة فقط كلية الطب، وسيأتي ذكرهم لاحقا.
    وهنا ندلف الى منعطف تاريخي مهم وهو ذكر الشاب الرحالة السويسري «جوهان لودفك بيركهارت» الذي زار شندي وسوقها العامر عام 1814م والتقى فيها بالمك نمر، ثم ساهم فيما بعد دون تعمد في استعجال المأساة التي حلت بالسودان بعد عام 1820م وقلبت أوضاعه رأساً على عقب.
    ونورد في هذا السياق لمحة من «كتاب النيل الأزرق مورهيد/ أبو الريش» عن الحياة الغريبة والطريفة لهذا الرحالة الفذ متوقد الذكاء والذي كان مُوْفَدَاً، وهو في السادسة والعشرين من عمره، من قبل جماعة في بريطانيا أطلقت على نفسها «جمعية تنمية اكتشاف أواسط افريقيا» لاستكشاف طبيعة النيل في السودان. وصل بيركهات شندي في قافلة في عام 1814م مسميا نفسه الشيخ إبراهيم بن عبد الله، وراكباً حماراً ولابساً زيَّاً تركياً ومدعياً أنه يبحث عن أخيه الذي اختفي في مجاهل النيل، وكان يتحدث اللغة العربية بطلاقة، وكان قد تعلمها خلال ثلاث سنوات قضاها من قبل في سوريا، حيث وصل هنالك متنكراً في زي تاجر هندي مسلم، وكان قد تمكن من اللغة لدرجة أنه ترجم قصة «روبنسون كروزو» وكان يعتبر حجة في الشريعة.
    كان بيركهارت يرسل بالبريد للجمعية في بريطانيا تقاريرَ متواترة حوت صوراً متكاملة عن الجزء الشمالي للسودان، «ولم يترك كبيرة أو صغيرة عن نواحي الحياة المختلفة على ضفاف النيل إلا وضمنها في مذكراته». وقد ترك، لجامعة كمبردج بعد وفاته ثمانية وثلاثين مجلداً من مخطوطاته عن الشرق.
    وصل بيركهات شندي وقضى بها شهراً ثم ارتحل إلى الجزيرة العربية ومن ثم للقاهرة حيث مات مصاباً بالدوسنتاريا في عام 1817م وهو في الثانية والثلاثين من عمره!! «أين شبابنا اليوم من مثل هذه الطموحات؟؟».
    وكتب مورهيد في خاتمة حديثه عن هذا الرحالة أن بيركهارت التقى في الجزيرة العربية بحمد علي باشا الذي كان يعمل على توسيع مملكته بحثاً عن الذهب والرقيق والريش والعاج، «ولا شك في أنه أخبره بكل ما رأى في السودان. وهكذا دون تعمد قد استعجل المأساة وهي في طريقها».
    وما يهمنا من رحلة بيركهارت الاستكشافية الطويلة ما علمه عن مملكة سنار من تدهور بسبب الفتن والثورات العظيمة ضد حكمٍ كان متداعياً، وأنها كانت في النزع الأخير من عمرها ولم تعد قادرة على صد أي غزو من الخارج. وعن اندهاشه ان «تظل بلاد كشندي، محافظة على كيانها طيلة هذه المدة «لأكثر من ألف عام» دون تعرض لغزوٍ من الخارج.. وأن كل هذه المنطقة الممتدة من بربر حتى ملتقى النيلين ــ الأبيض والأزرق ــ يمكن اخضاعها بقوة لا تتعدى الثلاثمائة من الأوروبيين. وبالاختصار فقد بات السودان مفتوحاً على مصراعيه لأي متطفل من الخارج» كبيت متداعٍ مات أهله وتركوه للصوص والأوباش ليتخذوه وكراً لهم.
    ويذكر بيركهارت أنه «كان لشندي مكَّها ــ أو ملكها الخاص ــ كغيرها من تلك المقاطعات الصغيرة التي كانت منتشرة على طوال النهر، وكان الجالس على العرش في سنة 1814 يدعى «المك نمر»، وأنه كان رجلاً مهاباً، طويل القامة متكبراً ومحافظاً في عاداته، وكان يرتدي في المواكب الرسمية فرواً من جلد النمر «وهو علامة الملك في وادي النيل».. وكان نمر رجلاً متعلماً بالنسبة لبيئته ووسطه، فهو يقرأ ويكتب ويحفظ القرآن عن ظهر قلب، إلا أنه قد عرف بقساوته البالغة. وعلى أي حال فقد قدّر له أن يكون آخر ملوك شندي» هو وعمه المساعد. وذلك بعد حادثة حرق إسماعيل باشا وحرسه الخاص وتشتيت عددٍ من جنوده على ضفاف النهر ومحاصرة عَمِّهِ المك المساعد للباقين منهم في المتمة والقضاء عليهم. وبنهاية حكم المك نمر والمك المساعد في سنة 1822 انتهي حكم السعداب الذي بدأه المك إدريس أبو دبوس في حوالي عام 1578م.
    ولسرد ما تتابع من أحداث نذكر خلفية تاريخية للمك نمر، فهو بن محمد بن نمر بن عبد السلام بن الفحل، وعمه «ابن عم أبيه» المك المساعد بن سعد بن إدريس بن الفحل. وكان نمر أول من شق زعامة السعداب على الجعليين في فترة ما قبل الغزو التركي، وذلك بمنازعته عمه المك المساعد على الزعامة، وجراء ذلك دارت بينهما عدة معارك انتهت بالصلح واقتسام الملك بينهما، فصار نمر والياً علي شندي والمساعد والياً على المتمة. ثم دارت حرب بين الجميعاب والمك المساعد انتهت بهزيمته وقتل ابنيه، وتحرك إثر ذلك المك نمر وخاض معركة ضارية ضد الجميعاب انتقاماً لأبناء عمه، المك المساعد، انتهت بهزيمة الجميعاب وانسحابهم، وأسر المك نمر عوائلهم ومتاعهم ثم ردها إليهم فضلاً منه، ورجع إلى شندي في مطلع سنة 1821م، ليجد رسول إسماعيل باشا في انتظاره!! «معروف ونمر 1947».
    مواصلة لمقالات الدكتور عثمان السيد ابراهيم فرح
    ونواصل في الحلقة القادمة لنسرد بإيجاز واقعة حرق إسماعيل باشا في شندي ونلقي نظرة تحليلية لتلك لواقعة.





    • واقعة شندي حادثة إسماعيل باشا:
      بداية لم يقاوم المك نمر والجعليون الجيش الغازي تقديراً لعدم تكافؤ السلاح والعتاد وحقناً للدماء وأملاً في التعايش السلمي مع الغزاة، ومآسي معركة كورتي لم تكن ببعيدة، وقد سار على هذا النهج معظم القبائل آنذاك في معظم أنحاء السودان خاصة القبائل المحيطة بمناطق الشايقية والتي أضعفتها وأنهكتها الغارات الكثيرة فيما بينها.
      سار المك نمر إلى بربر في مارس 1821م وبادر بتقديم فروض الولاء والطاعة قبل وصول إسماعيل باشا إلى شندي، إلا أن إسماعيل كان في منتهى الحماقة والغطرسة عندما أساء إليه، بأن استقبله في شيء من التعالي والتعاظم. فقد كان يعتقد أن شندي كان عليها أن تستسلم قبل ذلك بكثير «مورهيد/ أبو الريش النيل الأزرق ص 296».
      وعندما وصل الجيش الغازي شندي لم تكن الحرب خياراً للمك نمر، بدليل أنه هو وبعض أفراد حاشيته صحبوا إسماعيل باشا إلى سنار، التي استسلمت بدورها، ثم عادوا معه بعد ذلك حتى وصلوا شندي في ديسمبر من عام 1822م، وكان السبب المباشر لتلك الوقفة أن إسماعيل باشا، الذي كان بشهادة أبيه وإجماع المؤرخين شاباً غراً متهوراً في الخامسة والعشرين من عمره، أنه أهان المك نمر واتهمه، في غطرسة شديدة، بإثارة القلاقل وأراد أن يعاقبه بمطالب تعجيزية. وقد اتفق كل المؤرخين على صحة ذلك مع اختلاف في قدر المطالب التي تمثلت في دفع غرامة فادحة قدرها «ألف أوقية ذهباً وألفي عبد ذكر وأربعة آلاف من النساء والأطفال وألف جمل ومثل ذلك من البقر والضأن» على أن تدفع خلال يومين كما ورد في عدد من المصادر. وكانت تلك إهانة بالغة للمك نمر وسط قومه الذين كانوا لا يعرفون عنه غير العزة والأنفة والكبرياء. وكانت ردة الفعل عنيفة، إذ قرر المك محاربة إسماعيل باشا انتقاماً لكرامته وكرامة قومه، فباغت جنوده ليلاً جزءاً من جيش إسماعيل وأتباعه على شاطئ النهر في مراكبهم «الدهبيات» فانهزم الجند وتفرقوا، وحاصر المك المساعد باقي الجنود الذين كانوا معسكرين بالمتمة إلى أن قضي عليهم. وحاصر جنود المك نمر في شندي في الليلة ذاتها الدار التي كان يقيم فيها إسماعيل باشا وحرسه الخاص حفلاً ساهراً. فبادر الحرس بإطلاق النار من الأسطح والنوافذ، فما كان من أتباع المك النمر إلا أن أُحْرَقَوا عليهم الدار لعدم تكافؤ السلاح، واحترق بداخلها الحرس ومات إسماعيل باشا اختناقاً بسبب تكدس الحراس عليه لحمايته من النار، وقد أجهز أتباع المك نمر في الحال على كل من حاول الفرار. هذه هي الوقائع التي أجمع عليها المؤرخون «المراجع: النيل الأزرق ــ مورهيد/ أبو الريش، وكتاب «الجعليون» لمحمد سعيد معروف ومحمود محمد علي نمر ــ 1947، ومادة المرجع الأخير أوردها رواةٌ نقلوها عن أسلافهم ممن حضروا الواقعة ودَوَّنُوها».
      وقد قيل أن إسماعيل باشا سَبق وحُذِّر من أن محاولة من هذا القبيل قد تحدث «مورهيد/ أبو الريش كتاب النيل الأزرق ص 305» «ولكنه لم يصدق أن المك نمر سيتجرأ. ولم يكن نمر بالشخص الوحيد الذي اسْتُفِزَّ لدرجة الانتقام، وعلى حد تعبير «رتشارد هل» فقد انتشرت أعمال القتل والانتقام في جميع أرجاء النيل وأينما وجدت حامية تركية، ثار عليها السودانيون وحملوا السلاح، إلا أنها كانت محاولات يائسة منهم، إذ ليس من المعقول أن ينتصروا في وجه الأسلحة النارية، أو ينجوا من غضب محمد علي لاغتيال ابنه. وكان هذا هو فعلاً آخر عهد السودان بالحرّية، ونهاية عزلته المتفككة».
      وفي هذا الوقت كانت كراهية الشعب للأتراك قد بلغت قمتها، وأخذت تنتشر على طول مجرى النيل، وأصبح اسمهم نذيراً للشؤم والوحشية والقسوة. ولم يكن إسماعيل في الواقع، قد أنجز شيئاً يستحق الذكر، غير إشاعة الرعب والاضطراب في جميع أرجاء السودان.
      وكما قال المؤرخ الكبير الدكتور جعفر ميرغني: «إن حادثة المك نمر كانت الشرارة التي انطلقت منها الحركة الوطنية في جميع أنحاء السودان».
      واقعة شندي من منظور القيم والأخلاق:
      إذا نظرنا نظرة تحليلية لحادثة إسماعيل باشا في شندي، نرى أن المك نمر كان بين خيارين أحلاهما مر. فإما أن يرضخ لشروط الباشا وما يترتب على قبولها من ذل وخنا وعار مما هو ليس مقبولاً بأي حال لدى أية قبيلة عربية مسلمة وبخاصة قبائل الجعليين، وإما أن يحارب ليذود عن العرض والنفس والمال وهذا خيار المسلمين كما ذكرنا آنفاً. وبما أن الحرب خدعة ومكيدة ما كان للمك نمر إلا أن يستخدم ما ارتأى حينذاك من استراتيجية مكنته من الانتصار التام على إسماعيل باشا وجيشه الذي كان يفوقه بالأسلحة النارية والعدة والعتاد. ولا أعتقد أن محللاً عسكرياً يرى غير ذلك في ظل تلكم الأوضاع وفي ظل ما كان متاحاً للمك نمر من إمكانات عسكرية. وحتى لو قدر للمك نمر أن يتنبأ بالحملات الانتقامية التي ستأتي لاحقاً لما تراجع عما فعل، لأنه في تقاليد ومعتقدات قومه لا خيار إلا القتال ذوداً عن العرض، أو القبول بالذل والخنا والعار، وذلك ليس من أخلاقهم.
      ويرى بعض المحللين أنه كان يمكن تفادي المأساة وتداعياتها لو أن المك نمر وأتباعه تريثوا قليلاً ولجأوا إلى مهادنة إسماعيل باشا ودحضوا ما كان ينتهبه من شائعات من بعض الوشاة الطامعين في زعامة الجعليين، وقولهم له إن المك نمر لا يؤمن له جانب لأنه مهاب وسط قومه ولا يعصون له أمراً. بل كان يمكن لإسماعيل باشا أن يستغل هذه الخاصية للمك نمر لصالحه لولا افتقاره للحكمة بسبب صغر سنه وقلة تجربته، كما قال عنه والده أثناء زيارته للسودان، والتى سيأتي ذكرها فى الحلقة التالية.
      ومما يذكر عن القيم في صيانة العرض والأخلاق أنه بعد شهر من واقعة كورتي وأحداثها البشعة من قتل وحرق للمدينة، نشب صدام آخر مع الشايقية على الضفة الشرقية من النهر، بالقرب من جبل الدقر، والفتاة التي قامت بإثارة حماستهم في هذه المرة، على عادتهم في بداية المعركة كما فعلت مهيرة بنت عبود في بداية معركة كورتي، كانت تدعى صفية، وهي بنت لأحد زعماء الشايقية البارزين، فوقعت في الأسر بعد المعركة. إلا أن اسماعيل باشا أمر بأن تُغْسَل وتُعَطَّر وتُعاد لوالدها. ويصف لنا المؤرخ «وادنجتون» هذا الحادث فيقول: «وبمجرد أن رأى الزعيم كريمته تعاد اليه معززة مكرمة، سألها في شيء من القلق: كل هذا جميل، ولكن خبريني هل لا تزالين على بكارتك؟» فأكدت له ان أحداً لم يمسها بسوء. وعندما تحقق من صحة قولها، انسحب برجاله وأقسم ألا يقاتل رجلاً صان له عرضه، وابقى على عفة كريمته.. وكان لهذا الحدث الصغير صدى طيب في كلا المعسكرين.. «كتاب النيل الأزرق، مورهيد/أبو الريش».
      ونواصل في الحلقة التالية لنبين ما ترتب على واقعة شندي وحرق إسماعيل باشا من حملات الدفتردار الانتقامية البشعة التي أثارت الرعب والكراهية في سكان كل وسط السودان .




hgl; klv ,ak]d ugn ui]i