• حملات الدفتردار الغاشمة وتراجع المك نمر:

    جاءت حملات ومجازر الدفتردار الانتقامية بالأسلحة النارية الفتاكة، بعد مقتل إسماعيل باشا وجاء في «كتاب النيل الأزرق مورهد/أبو الريش» «أما المجزرة، فقد عُهِدَ بتنفيذها إلى محمد بك الدفتردار، صهر محمد علي باشا، الذي كان في هذا الوقت يعيث خراباً في ربوع كردفان إلى أن بلغ الأبيض. ثم أغار على كل مناطق الجعليين المأهولة بين ملتقى النيلين والدامر وبربر ونهبها ومثل بأهلها، ثم أشعل النيران فيها تاركاً في كل مكان يحل به ما تقشعر منه الأبدان من الفظائع والتمثيل البشع بالقتلى مما ننأى عن ذكره. ولكيلا يموت الضحايا بسرعة من أثر النزيف، كان يصب القطران المغلي على الجروح... وقد بلغ ضحايا عملية الانتقام في نهاية الحملة نحواً من خمسين ألف نفس، وهكذا خيَّم سلام الموت على ربوع وادي النيل. ولما اقترب الدفتردار من شندي تراجع المك نمر بعائلته وجيشه إلى أرض البطانة بسبب عدم تكافؤ السلاح والعتاد. وما أن سمع به الدفتردار إلا وأخذ يجدُّ في أثره.
    معارك أرض البطانة ومعركة النصوب:
    تراجع المك عن شندي ليستعيد قوة جيشه وظل لفترة طويلة يناوش ويجالد جيوش الدفتردار التي كانت تتعقبه في أرض البطانة وشرق السودان، هو وعمه المك المساعد، الذي مات فيما بعد ودُفِنَ في منطقة الدندر على نهر عطبرة. «الجعليون، نمر ومعروف 1947، تاريخ أصول العرب بالسودان». و«الفحل، المك نمر والحركة الوطنية الأولي، جعفر ميرغني».
    خاض المك نمر وجيشه عدة معارك مع الدفتردار كان آخرها معركة ضارية في «النصوب» في وسط أرض البطانة مات فيها أحد ابنائه وأخواه وعدد كبير من أتباعه منهم محمد ود سعد فارس السعداب الشهير. ونذكر أن المك نمر كان قد غنم قدراً من الأسلحة النارية بعد واقعة شندي وكاد يقضي على الدفتردار في معركة «النصوب» لولا القتال الشرس من بعض القبائل السودانية التي انخرطت مع الجيش الغازي وحاربت معه، والدليل على ذلك أن الدفتردار تراجع بعد هذه المعركة وجيشه مثقل بالجراح ولم ير فيما بعد طائلاً من ملاحقة المك نمر. وبعد هذه المعركة توجه المك نمر نحو الحبشة حيث انتهي به المطاف. ولو قدر للمك نمر أن ينتصر في معركة «النصوب» فما كان لأحد أن يتنبأ بما كان سيؤول إليه مسار تاريخ السودان، إذ ربما تحالف وثار عدد كبير من القبائل السودانية وقضوا على الغزو التركي، أو لربما آلت الأحوال إلى أسوأ من ذلك بكثير إذ أن محمد علي باشا كان، على الأرجح، سيرسل جيشا أكبر عدة وعتاداً لاسترداد السودان، وهو الطاغية الجبار الذي لم يعرف من قبل أية هزيمة في تاريخ حكمه الدموي الطويل.
    كانت للمك نمر حروب كثيرة ضد بعض سرايا الأتراك في الحدود الحبشية، وضد كتائب من الأحباش. وقد صالحه الأحباش لاحقاً واقتطعوا له أرضاً أسس فيها مدينة أسماها المتمة أسوة بمتمة السودان التي حلت بها مجزرة الدفتردار الدامية، وبنى فيها المك نمر أربعة مساجد وخمسة وعشرين ناراً للقرآن «خلاوي». وقد عاش في مدينة المتمة الحبشية إلى ما بعد سنة 1846 أي بعد أكثر من خمسة وعشرين سنة منذ أن غادر شندي، وكان قد التقي به في تلك السنة الرحالة الإنجليزي «مانسفيلد باركنز» «النيل الأزرق، مورهيد/أبو الريش». ويوجد فيما أوردنا جوانب من تاريخ المك نمر خفيت عن بعض المؤرخين أو أخْفاها بَعْضُهم، وشوهت أقلامٌ مُغْرَضَةٌ جوانب أخرى. ولكن الحق يطغي دوماً على الباطل وإن تقادم العهد، إذ قد تم مؤخراً التحقق من أحداث تلك الحقبة وما حوته من مجاهدات المك نمر، وتم توثيق ذلك جيداً بواسطة المؤرخ الكبير الدكتور جعفر ميرغني الذي نشر خلاصة أبحاثه في إحدى عشرة مقالة في صحيفة «الرأي العام» في عام 2002 تحت عنوان «المك نمر والحركة الوطنية الأولي». وكتب أحمد عبد الله حنقة في مقالته بعنوان «المك نمر نموذج الكبرياء الوطني» في صحيفة «آخر لحظة» بتاريخ 6 مارس 2013 «وبالعودة ألى كتاب «المك نمر أول ثائر سوداني» نقول إن المك نمر وبعد أن استقر في المتمة الحبشية صار يهاجم الحكم التركي وقواته في فازوغلي الواقعة على النيل الأزرق قريباً من حدود سنار، واستطاع أن يأسر المفتش التركي في تلك المنطقة مما أجبر «محمد علي باشا» على أن يرسل في طلب التفاوض مع عمر بن نمر الذي كان يقود الحملات ضد الأتراك.. وبذلك فإن الحديث عن هروب المك نمر استخذاءً هو مجرد هراء وخطل». ثم كتب حنقة «وبعد، أعتقد أن سيرة المك نمر تلح علينا في أمر إعادة قراءة وتدوين تاريخ السودان الذي كتب أكثره بأيدي الأجانب الذين، وإن كان بعضهم من الأكاديميين الشرفاء، إلا أن الأمر لا يخلو من الغرض، وخاصة في الكتابات التي صدرت بخصوص سيرة المك نمر النضالية التي سطرت كفاح ثائر يعد رائداً في الوقوف ضد المحتل الأجنبي دفاعاً عن استقلال بلاده». انتهي. وفي حملات الدفتردار الدموية الانتقامية بالأسلحة النارية الفتاكة التي أعقبت مقتل إسماعيل باشا والتي استمرت لمدة سنتين، قَدّرَ عدد من المؤرخين عدد القتلى في السودان بحوالي خمسين ألفاً، فيهم وسط قبائل الجعليين وحدهم أكثر من ثلاثين ألفاًَ ماتوا رمياً بالرصاص وبالحرق والغرق بدءاً من ملتقى النيلين ومروراً بقرى السعداب بمنطقة الهوبجي التي أحْرَقَ الدفتردار أهلها وألْقَى بَجُثَثِهَم في نهر النيل ثم واصل الدمار حتى بربر، وكان نصيب المتمة وحدها حوالي ثلاثة آلاف قتيل في يوم واحد. وأُحْرِقَتْ مدينة شندي وصارت خاوية على عروشها لفترة طويلة، وشندي مدينة عريقة وكانت ملتقى طرق قارية تجارية ويرجع تاريخها إلى أكثر من ألف عام، وكانت معقل ملوك الجعليين السعداب لأكثر من مائتي عام.
    استمر حكم الدفتردار الهمجي للسودان واستمرت مجازره البربرية، ولمَّا لم يستلم جنوده رواتبهم لمدة ثمانية أشهر بدأوا بالبطش والنهب كي يعيشوا، إلى أن ثار الرأي العام الأوروبي، فأمر محمد علي باشا الدفتردار بالعودة إلى مصر سنة «1824» بغرض إنهاء الحكم العسكري وتأسيس نظام إداري أقل همجية.
    ونواصل في الحلقة القادمة لنكتب عن زيارة محمد علي باشا للسودان ثم هُبُوب الثورة المهدية ونصرة الجعليين لها



plghj hg]tjv]hv hgyhalm ,jvh[u hgl; klv: