دار حمر: بؤرة التمازج و بوتقة الانصهار

استرعى انتباهى وأنا أطالع كتاب الضابط الإدارى محمد المريود على " تجربتى الإدارية فى السودان بين النظرية والواقع" أن الكتاب قد حوى على 61 صفحة عن دار حمر من مجموع صفحات الكتاب البالغة 165 صفحة من القطع المتوسط. وهذا يدل على أن الكاتب اجتاز تجربة ثرة فى الحكم فى دار حمر التى قال إن الفترة التى قضاها فيها ( 1985ــ 1988) صقلت تجربته وأفادته أيما فائدة. ولعل المريود نحا فى كتاب تجربته فى الحكم المحلى منحى إداريين آخرين سبقوه مثل حسين شرفى الذى أودع تجربته فى مؤلف سماه " صور من الأداء الإدارى فى السودان" وتلك تجربة استغرقت 31 عاماً من 1942 إلى 1973 حيث أقاله النظام المايوى الجائر بعيْد أحداث شعبان 1393هـ. وما يلفت فى كتاب المريود الإسهاب الوافى عن تاريخ قبيلة حمر وتكويناتها العشائرية وتقاليدها وأنشطتها، فعندما يتحدث عن منطقة النهود يقول: ( تسكن هذه المنطقة قبيلة حمر وتنقسم إلى فرعين رئيسين هما العساكرة والدقاقيم يتفرع منهما بطون وأفخاذ وعدة أقليات متباينة عاشت وانصهرت وتصاهرت معهم منذ عهد الشيخ مكى أبو المليح. ولم تعد هناك أى فوارق أو حساسيات بينهم...) حيث يجمل الكتاب هذه الفروع فى 28 فرعاً والأقليات فى 18 فرعاً قبلياً ممتزجاً مع فروع حمر. وفى هذا يقول الشيخ مكى أبو المليح الذى خلف والده الحاج منعم على زعامة القبيلة فى الفترة ما بين 1850ــ 1870م أن حمر " فروة نمر" أى إذا كانت الألوان متعددة فإن أرضية " فروة" جلد النمر تتكون من لون واحد هو لون القبيلة.
ومن صفات هذه القبيلة ماضياً وحاضراً الفروسية حيث اشتهر أفرادها بالشجاعة وليس أدل على ذلك تاريخياً من معاركهم مع جيرانهم فى الشمال والجنوب بعد حصول زعيمهم الحاج منعم ود سالم تريشو على صك من السلطان حسين بن السلطان محمد الفضل لتمليكه داراً للقبيلة مقابل مبلغ من المال، كما كان أفرادها أنصاراً للمهدية كالشيخ عبد الرحيم أبودقل جدّ السيد/ محمد عمر عبد الرحيم " الأحدب" مفتش صحة النهود. ولعل الكيان الجغرافى والعشائرى تبلور بصورة واضحة بعد الحكم الإنجليزى والتقسيم الإدارى الذى انتظم البلاد لتصبح دار حمر كياناً إدارياً يحكمه مفتش إنجليزى جنباً إلى جنب مع زعيم الإدارة الأهلية منعم منصور محمد الشيخ " 1898ــ 1979" الذى تولى دفتها عام 1927م خلفاً لعمه إسماعيل قراض القش. وقد وصف مكاوى سليمان أكرت الشيخ منعم بأنه " رجلٌ وديع المظهر قوىّ المخبر ذو شخصية جذابة وله اليد الطولى فى توحيد قبيلة حمر وإذابة أى حساسيات بين بطونها وأفخاذها، وإذا كان الشيخ مكى أبو المليح هو جامع القبيلة فإن الشيخ منعم هو موحّدها فى نسيج متآلف متماسك" المريود صـ96.
وفى الواقع إن هذه القبيلة أريحية الطابع دأبت منذ زمن على استيعاب القبائل الأخرى ومنحها شرتاويات " عموديات" شريطة التزام القبيلة المعنية guest tribe بناموس القبيلة المضيفة host tribe. ولم تقتصر استضافة دار حمر على القبائل فحسب بل تعدتها لاستضافة الأسر أيضاً، ومثال ذلك أسرة تسكن فى إحدى قرى الخوى وتنتمى لقبيلة المرامْرة " دار حامد" حيث أتى والدها الأكبر من جهة المقنص " شرق بارا"، وقد كان العمدة عبد الماجد حامد عمدة المرامرة بالشاوة والمقنص يأتى لهذه الأسرة حتى عهد قريب لتحصيل ضريبة القطعان " الطلْبة". وقد عانت دار حمر ــ شأن الديار والقبائل الأخرى ــ من السيف الذى سلّطه الرجل المتسرع على الإدارة الأهلية دون تروّّ ٍ أو دراسة فى الفترة ما بين 1970ــ 1984م ولم يحفظ الدور المشهود والمشهور لها فى الحفاظ على البيئة والغابات ومحاربة الجريمة حيث جاس التنابلة المتقعرون من أنصار تلك الفترة خلال الديار خراباً فتداعى النسيج الاجتماعى إلى يومنا هذا. حدثنى أحدهم ــ والحديث على ذمة الراوى ــ أن جعفر محمد على بخيت كتب قبيل انقلاب مايو عن دور الإدارة الأهلية وأهميتها مستشهداً بنفوذها حتى فى البلدان المتقدمة مما جعل هذه البلدان تعيّن عُمداً للعواصم مثل عمدة لندن وعمدة نيويورك وعمدة أثينا، وسرعان ما عدل هذا المفكر عن رأيه بعد مجيىء مايو وانهال بقلمه الأكاديمى الدوغماتى انتقاداً للإدارة الأهلية!! ولو كان أمثال هذا المفكر ــ الذى اختلس الزمانَ اختلاساً فاختلسه الزمانُ اختلاساً ــ يَعُون الواقع ويفكرون بواقعية تفكير محمد المريود وقبله هندرسون مفتش غرب كردفان لوضعوا النقاط فوق الحروف وربطوا الحاضر بالماضى ربطاً عضوياً لا استلابياً. وهندرسون كتب مذكرته الضافية عن دار حمر عام 1934م تحت عنوان: " مذكرة حول تاريخ قبيلة حمر" وهى بين أيدينا الآن باللغة الإنجليزية وقد شملت محتوياتها تسعة فصول هى:
1. فروع حمر.
2. دار حمر وسكانها السابقون.
3. أصول قبيلة حمر ونموّها.
4. الحاج منعم واسماعين سكاك: 1796ــ 1849م.
5. مكى أبو المليح: 1850ــ 1870م.
6. الدقاقيم وخلفاء مكى: 1870ــ 1880م.
7. انشقاق الغريسية ــ عبد الرحيم أبودقل: 1870ــ 1898م.
8. دخول الأغراب وكسوف حمر: 1885ــ 1925م.
9. نهضة حمر: منعم منصور محمد الشيخ.
وبالطبع لم تقتصر الكتابة عن دار حمر على ما كتبه هندرسون ومحمد المريود على ــ وإن كتب هذان بإمعان ودراية وتفصيل ــ فقد تعرض لها أيضاً نعوم شقير وماكمايكل وغيرهما من المؤرخين، كما زارها الشعراء مثل العباسى والمحجوب وعبد الحليم على طه، وقد وصف العباسى رحلته إليها من الخرطوم وحيا فيها صديقه خلف الله خالد فى قصيدة ألقاها فى نادى السلام، حيث يقول:
أثرتها وهى بالخرطوم فانتبذت للغرب تقذف جلموداً بجلمـــــــــــود
تؤمّ تلقاء من نهوى وكم قطعت بنا بطاحاً وكم جابت لصيخــــــــــود
نجدّ يرفعنا آلٌ ويخفضنــــــــــا آلٌ وتلفظنـــــا بيـــــدٌ إلى بيــــــــــــد
حتى تراءت لحادينا النهود وقـد جئنا على قـدرٍ: حتمٍ وموعــــــــــــود
معالمٌ قد أثارت فى جوانحنـــــا شوق الغريـر لمهضوم الحشـا الـرود
ويتميز حمر بالكرم الأصيل، يكرمونك ولو على صحن بليلة، فقد عملنا معهم وعاشرناهم وأظلتنا قطاطيهم ورواكيبهم وأشجارهم وكأنهم هم الذين عناهم الجاغريو عندما قال:
أنحنا المامْنكِنّ الزاد ونتحشربو
ونحنا الما مندّى عطانا نتفشربو
ونحنا الموت بنتلقاهـو نتباشربو
ونحنا هنيـة الولد المنتعاشربـــو
ومن تقاليدهم الحميدة فى استغلال الأرض أن المواطن الحمرى إذا غاب عن منطقته وأرضه لمدة ثلاث سنوات فإن الشيخ يقوم بنزعها ومنحها لمواطن آخر لاستزراعها، لذا تجدهم مرتبطين بالأرض ارتباطاً وثيقاً. ومن تقاليدهم " دق النحاس" إذا طرأ طارىء، فالنحاس تقليد قبلى راسخ بمثابة الأداة الإعلامية. وقد استمرت هذه التقاليد حتى بعد حل الإدارة الأهلية، فالزعيم أو الناظر ظل ملجأ للمستغيث، وهكذا كان الناظر المرحوم/ منعم منصور حتى وفاته فى فبراير 1979م ولا يزال ابنه عبد القادر منعم الذى خلف أخاه المرحوم/ منصور منعم عام 1985م يدير دفة قبيلة حمر بحنكة واقتدار حيث يقول عنه محمد المريود فى صـ99: ( ويعتبر من أميز الشخصيات القبلية التى تمتاز بالثقافة والحنكة والتجربة فى مجال العمل الإدارى الأهلى، فقد تلقى تعليمه بمدرسة خور طقت الثانوية العليا وبعدها تم انتخابه شرتاى لمنطقة " أم قرناً جاك" وكانت منطقة جديدة كثيرة المنازعات وتقع فى الحدود مع أكثر القبائل احتكاكاً وهم المسيرية ولكنه استطاع ورغم صغر سنه تسيير أمورها إلى أن تم تعيينه رئيساً لمحكمتها أيضاً واستمر فى العمل الإدارى بجانب العمل القضائى. وكان من أوائل الشراتى الذين يقومون بتسديد ضريبة القطعان وفتح خطوط النار ومعالجة المشاكل المحلية والقبلية. وفى عام 1970م شملته التصفية ضمن جهاز الإدارة الأهلية. فاختار أن ينازل النظام الجديد وفق أصول اللعبة التى اختارها ووضع قواعدها. وترشح فى مجلس الشعب القومى الأول حيث حاز على أكبر الأصوات بالمنطقة عندما كانت الدائرة تشمل " النهود والأضية"، كما فاز فى البرلمان الثانى والثالث وكذلك البرلمان الرابع. وعندما عزف عن العمل السياسى فى ظل مايو تفرغ لأعماله التجارية المختلفة إلى أن اجتمعت القبيلة على اختياره ناظراً لها فى 23/10/1985م. ويتكون جهاز الإدارة الأهلية الذى يرأسه من 30 شرتاوية و1455 مشيخة). ولما كنت أعمل فى الإدارة المحلية لفترة فى هذه المنطقة رأيت حفظاً لحقوق الرجال وتأييداً لما جاء فى تقييم المريود لكفاءة ناظر حمر أن استشهد بحادثتين قبليتين كنت شاهداً على مؤتمريهما حيث استطاع الناظر/ عبد القادر منعم منصور حسمهما بحكمة وخبرة: الحادثة الأولى كانت " حمريةــ حمرية" وقعت بين فرعين من فروع حمر هما الصّبحة والتيايسة فى منطقة دردوق " ريف صقع الجمل" حيث عقد لها مؤتمر أهلى فى دردوق بضيافة المواطن/ البريدو عثمان يوم الجمعة 30/9/1988م، والحادثة الثانية كانت " حمرية- مجنونية" بسبب حوادث قتل فى السعاتة أبزرد " ريف أبى زبد" بين بنى بدر " حمر" والمساعيد " مجانين" آخر عام 1990م وقد رتب مؤتمر صلح لتسويتها فى قاعة مجلس منطقة النهود يوم السبت 2/2/1991م تم فيه رأب الصدع بين القبيلتين فى نفس اليوم.
ولا غرو أن اجتمعت قبائل السودان فى مؤتمر الإدارة الأهلية بالخرطوم عام 1991م على تنصيب عبد القادر منعم منصور أميراً للأمراء وهو الذى قال فيه الشاعر:
وبينهم ناظرٌ رقـت شمائلــــــه شهمٌ يعين على دفع المعانــــــاة
فإنّ سمعة عبد القادر اشتهرت بين القبائل أهـلاً للمــــــــروءاتِ
وشُرفت حمرٌ عزاً ومنزلــــة ً أنْ صار ناظرَها نجلُ الطرادات
ولتبق التحية لدار حمر: مواطنيها وناظرها وشراتيها وأعيانها الشامخين شموخ تبلديها من المفرية شرقاً وحتى الشرفة غرباً ومن دندنة جنوباً حتى عديد الفرش شمالاً والتحية لرجل الحكم المحلى صاحب الكفاءة الإدارية النادرة محمد المريود على الذى سلّط الضوء على دار حمر وأهلها أبناء محمد الأحمر.


سيف الدين عبد الحميد


]hv plv: fcvm hgjlh.[ , f,jrm hgYkwihv