الحكم العسكري وأصنافه, وإسقاطات على التاريخ المعاصر

بقلم: د أيمن زغروت

يعرف الحكم العسكري بأنه وصول عسكريين من الجيش إلى سدة الحكم بوسائل غير دستورية, وغالباً باستخدام القوة المفرطة للجيش, حيث يعقبه تعطيل العمل بالدستور أو ببعض مواده, وفي بعض الاحيان يتم تعيين حكومة مؤقتة, وتنتهي عادة بانتخابات مسرحية لإضفاء الشرعية, وتخفيف الضغوط الدولية والإقليمية.


السؤال هنا ,

هل الحكم العسكري الذي تم تعريفه أعلاه هو نوع واحد؟ أم أن هناك عدة أنواع متباينة؟

وهل تختلف في طريقة الوصول للحكم؟ وكذا طريقة الإدارة وطريقة التداول أوالتوريث؟



الحقيقة أن المتخصصين في العلاقات المدنية العسكرية أجمعوا على أن هناك عدة أصناف للحكم العسكري تتميز كل واحدة منها بخصائصها وإن كانت كلها تندرج تحت مسمى الحكم العسكري مع تفاوت وقواسم.


تختلف أيدولوجيات وطريقة الحكم من دكتاتور لآخر

الجزء الأول: الحكم العسكري وأصنافه




أصناف الحكم العسكري:

1. حكم دكتاتور عسكري منفرد:

وفيه يصل جنرال من قادة الجيش إلى سدة الحكم, وقد يكون جاء بانقلاب قام به الجيش كاملا, أو جزء منه, وقد يكون مرشحاً من مجلس الجيش أو مرشحاً لرئيس سابق.

والفيصل هنا أنه بمجرد استتباب الحكم له يتنصل من الجيش الذي ينتمي إليه, وربما يلفق لبعضهم التهم أو يغتال بعض قيادات الجيش ليسهل له تهميشه والسيطرة عليه.

كما قد يتخلص من كل من ساعده من المدنيين على الوصول للحكم, ويقود البلاد بحكم فردي دكتاتوري يقوض فيه الدستور واستحقاقاته من شورى وبرلمان ويضرب فيه استقلال السلطات القضائية, ويكبل حرية الصحف وتشكيل الأحزاب, وعمل النقابات والطلاب وغيرها.

وداخليا غالباً ما يعتمد في استتباب حكمه على نموذج الدولة البوليسية, مستخدماً قوى الشرطة القمعية, أو فرقة محددة من الجيش تدين له بالولاء.

أما خارجياً فيعتمد على روابطه الشخصية وولاءاته مع القوى العظمى التي تدعمه دولياً, وكذلك تدعمه داخلياً بوسائلها الناعمة المخترقة لهذه الدولة النامية.


2. حكم لجنة عسكرية:

وفيه تصل لجنة عسكرية أو فريق من عدة قيادات عسكرية وسيطة أو رئيسية, أو تنظيم سري داخل الجيش إلى سدة الحكم بطريقة غير دستورية, حيث تقسم الوزارات والمسئوليات على أفراد اللجنة التي تتحول إلى مجلس حكم أو مجلس قيادة مؤقت أو دائم للبلاد.

وفي الطور الأول من حكم اللجنة/المجلس يكون حكمها قوياً, ويتمتع أعضاء اللجنة بمكانة فوق القانون والدستور, ويرثون خيرات ومقدرات الحكام السابقين, ويتم فرز الجيش بناء على ولائه للجنة أو التنظيم الحاكم.

حتى إذا دبت الخلافات بين أفرادها, هنا يبدأ الطور الثاني, حيث تعمل المؤامرات على تقليص عدد أفراد اللجنة أو القضاء عليها تماماً ويقوم المنتصر منها بالتبرؤ من سياساتها القديمة.

وفي الطور الثاني, طور المنافسة داخل اللجنة, يصبح الحكم ضعيفاً ويحتاج أن يؤسس المتغلبون فصيلاً داخلياً بديلاً يدعمهم أمام منافسيهم أصدقاء الأمس. كما يحتاجون إلى دعم خارجي وضوء أخضر من القوى العظمى.

عيوب حكم اللجنة:

ويعيب حكم اللجنة أنه يكون عشوائياً بحيث يقترب من حكم العصابة, وقد لا يهتم بصورة الجيش الذهنية أمام الشعب أو مستقبله في عيون الشعب, وذلك لوجود أجندات خاصة لأعضاء اللجنة.

كما تقمع اللجنة الجيش والشعب معاً, خوفاً من هاجس "الانقلاب" عليها الذي أذاقته لسابقيها.

وقد يطول الطور الاول للجنة فتصبح الدولة لها عدة رؤوس تحكمها وتظهر ظاهرة "مراكز القوى", وتفسد إدارة البلاد وتهدر الطاقات, وغالباً ما يسبب ذلك انهياراً عاماً لمقدرات الدولة, وقد يسبب ذلك الهزائم المريرة من أعدائها.

ويعتبر مآل "حكم اللجنة" بنسبة كبيرة إلى النوع الأول "الحكم الدكتاتوري" بعد أن يقضي أحد أعضائها على زملائه وينفرد بالحكم.


3. حكم مؤسسة الجيش:

وفيه يقرر الجيش أو أغلب أعضاء إدارته العليا الاستيلاء على السلطة من المدنيين, بغير الوسائل الدستورية في تداول السلطة, ويواكب ذلك تعطيل الدستور أو بعض مواده بصورة مؤقتة أو دائمة.

أسباب استيلاء الجيوش على السلطة

تتحرك المؤسسة العسكرية للاستيلاء على السلطة بالبلاد على الأعم الأغلب لأحد الأسباب التالية:

  1. لأخطار حقيقية تحيق بالدولة قرر الجيش التدخل لإنقاذها منها ولنبل هذه الحالة, فقد يكون تدخلا مؤقتاً ثم يعيد السلطة إلى الشعب بإشرافه على انتخابات نزيهة, مثل حالة سوار الذهب بالخرطوم.
  2. وقد يكون لطمع قيادة الجيش بالحكم, وذلك عند ضعف الحياة المدنية, وخلو البلاد من الأحزاب القوية.
  3. بإغراء من عضو مندس أو أكثر بإدارة الجيش العليا يملكون أجندات خفية لقوى عظمى, وهي بدورها قررت استخدام ذلك الجيش لإنفاذ خططها بالبلاد, وهذا النموذج هو الأوسع انتشاراً وتكرارا بالدول النامية.
  4. وفي هذا الصنف من الحكم العسكري, يقوم الجيش بالوصاية والإشراف على الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والمجتمعية, بدعوى حاجة البلاد لذلك, ويقوم بإضفاء الطابع العسكري على كافة مناحي الحياة, ويقسم أجهزة الدولة من أسفل لأعلى على قياداته العليا والوسيطة, ويتم تفعيل أنظمة الكوتة والأنصبة بين قادة الجيش في المناصب الرسمية كحكام الولايات أو المحافظات, والوزراء وأجهزة الدولة المدنية.
  5. وقد يتم ذلك من باب الكفاءة في بعض الحالات, ويتم في الأغلب على سبيل المكافئة لأهل الولاء المقربين, أو المتقاعدين من المؤسسة العسكرية.


من مميزات حكم مؤسسة الجيش:

تعد هذه الطريقة هي الطريقة الأمثل عند مرور البلاد بالكوارث أو الهزائم الكبرى, لقدرة العسكريين على حشد واستنفار الطاقات بصورة جافة قد لا يقدر عليها المدنيون.
من أهم ما يميز هذا الحكم الترابط بين أفراد الحكم وقيادة الجيش, وصعوبة التفريق بين القيادتين أو شرخ العلاقة بينهما.
استعمال آليات إدارة الجيش وأجهزته الجاهزة في إدارة المشكلات والأزمات عندما تكون كافة الادارات المدنية مفككة أو ملغاة. وقد تجدي هذه الطريقة في حالة الدول المستهدفة بأخطار محدقة, أو الدول الخارجة من حروب طاحنة, كما حدث في الحالة الكورية الجنوبية من سنة 1945 إلى سنة 1988م, وغيرها.
يتبنى هذا الصنف من الحكم مصادرة فرص المدنيين السياسية والاقتصادية لصالح مؤسسة الجيش, عندما يكون هناك ترهل في الحياة المدنية, والظرف يحتاج إلى علاج سريع, وأغلب مبررات العسكريين تندرج تحت:
ضرورة تحقيق أعلى معايير الانضباط لخطورة حالة البلاد, وأن ذلك لا يتوفر إلا في العسكريين آنذاك.
أن الدولة تحتاج إلى سرعة في إنجاز الأهداف لدقة المرحلة وحساسيتها, وأن هذا لا يتوفر إلا في أجهزة عسكرية.

ومن عيوب "حكم مؤسسة الجيش":

إن مبررات العسكريين لمصادرة حق المدنيين في الإدارة تكون مبالغاً فيها في أغلب الأحيان, حيث تتكرس هذه المبررات لدى بعض العسكريين نتيجة لتعظيم الذات العسكرية خصوصاً عقب النجاح الباهر في الوصول للحكم, حيث يتبنون رأياً مفاده أنهم الأصلح والأكثر جاهزية, والأقدر على التخطيط والتنفيذ, والأقل فساداً, وغالباً ما يكون هذا الرأي غير دقيق.
أثبتت الإحصاءات فشل هذا النموذج في كل الحالات تقريباً, بسبب أن العسكريين يتعاملون بفوقية مع بقية الشرائح , وفي بعض الحالات سنوا قوانين تمييزية وتحصينية خاصة لهم.
يقوم العسكريون في الغالب بتهميش قوى المجتمع المدنية وإقصاء طاقاتهم في الإدارة والإنتاج, مما يؤدي إلى انعدام شعورهم بالانتماء والمشاركة في إدارة بلادهم.
بسبب الولاء العسكري والعصبية للزيّ, فقد يتم مجاملة عسكريين غير أكفاء بتعيينهم في مناصب أعلى من إمكاناتهم.
بسبب الولاء قد يتم التغطية على فساد زملاء قدامى في السلاح رغم انخراطهم بالحياة المدنية منذ عقد أو أكثر.
في بعض الحالات قد يتحول الجيش كاملا إلى ما يشبه حزباً سياسياً يتعاطى السياسة والحكم, ولا يمكن محاسبته برلمانياً أو تداول السلطة معه سلمياً ودستورياً, فيؤدي ذلك إلى انهيار الدولة على المدى البعيد.
من شبه المستحيل على الشعب مصدر السلطات تقويم/إصلاح حكم المؤسسة العسكرية عند اعوجاجه, فأغلب الشعوب معزولة السلاح تماماً, ولا فرصة لديها تقريباً أمام قوة الجيش الغاشمة بدون دفع فاتورة كبيرة ربما يتم فيها تدمير بنية البلاد التحتية واقتصادها في حرب أهلية مريرة, كما حدث في حالة الجنرال فرانكو في إسبانيا.


الجزء الثاني :
إسقاطات بالتاريخ المعاصر


* صور من حكم "دكتاتور عسكري منفرد"

يعد حكم كلاً من العقيد معمر القذافي, واللواء طيار حافظ الأسد, حكماً من الصنف الأول من أصناف الحكم العسكري, وهو "حكم الدكتاتور العسكري المنفرد".
فقد اعتليا سدة الحكم إما بانقلاب عسكري مباشر, أو بامتلاك قوى كفيلة للانقلاب على سابقيهم, أو بالتوريث المباشر من سابقه بتعيينه نائباً, مع امتلاك قوى ناعمة كافية وتربيطات مع قوى عظمى كفلت نجاح وثبتهم على كرسي الحكم ببلادهم.

حسني مبارك وحافظ الأسد


وبصعودهم سدة الحكم, قاموا بتقليص الحريات المدنية, وقمعوا أي حراك مجتمعي , وألغوا البرلمانات المنتخبة, وقيدوا الصحافة , ولم تعد هناك حرية في تأسيس الأحزاب أو الهيئات, وقيدوا عمل للنقابات, وقاموا بقمع شديد للشيوعيين والاسلاميين والقوميين جميعا, وتصدر الحزب الحاكم الواحد المشهد, ولم تتح للشعوب خيارات غيره.

ويشاركهم اللواء طيار حسني مبارك في ذلك بصورة جزئية, فرغم أنه تقلد السلطة بتوريث من السادات, الذي عينه نائبا له وكلفه بمتابعة المخابرات وعدة مهام كبرى سهلت له انتقال السلطة بسلاسة بدعم من المؤسسة العسكرية والاجهزة.

القذافي والأسد ومبارك


إلا أن مبارك شاركهم في قمع الأحزاب والنقابات واتحادات الطلاب, وقيد الصحافة وسيطر على السلطة القضائية والإعلام وغيرها من الحريات, مع إبقاء مشهد كرتوني غير حقيقي لحياة ديمقراطية افتراضية بها بعض الأحزاب الهزيلة, وصحيفة أو أكثر سمح لها بهامش حرية محدد ذراً للرماد بالعيون.

ويتشارك الثلاثة جميعا في تطلعهم لتوريث ابنائهم حيث وقعوا في هذا الفخ بضوء أخضر من قوى خارجية, مما أضعفهم وقوض شرعيتهم, وطعن في نزاهتهم, وسهل على الربيع العربي دوره في اقصائهم من الحكم.


* صور من حكم "لجنة عسكرية"

تعد حركة 23 يوليو 1952م عند الخبراء انقلابا عسكريا للجنة/ تنظيم سري بالجيش, حيث خطط تنظيم الضباط الأحرار المكون من قيادات صغيرة ووسيطة شابة لذلك الانقلاب, ثم حكم البلاد بواسطة لجنة من قياداته اسميت " مجلس قيادة الثورة" وأخذت صلاحيات مجلس رئاسي ترأس البلاد. وقد واكب ذلك فرضهم لما يلي بالقوة:

إجلاء الملك السابق إلى خارج البلاد.
تعطيل العمل بالدستور.
حل البرلمان المنتخب.
حل كافة الأحزاب وتخوينها.
تقييد حرية الصحف.
قمع المعارضة بكافة أطيافها والزج بقادتها بالمعتقلات.
تفعيل المحاكم الثورية الاستثنائية والعسكرية.
وحقيقة فإن هذه السبع إجراءات هي قاسم مشترك لدى جميع أطياف الحكم العسكري.


وفي الطور الأول تم توزيع الوزارات والهيئات على مجلس الثورة,
وفي الطور الثاني جيّش قائد التنظيم جمال عبد الناصر بقية زملائه ضد محمد نجيب رئيس المجلس المجلوب لانجاح الثورة, قبل أن يتخلص منهم جميعا تقريباً بوسائل مختلفة, آخرها عبد الحكيم عامر قائد الجيش المتمرد حيث وظّف الهزيمة المذلة في 1967م لإخراجه من المشهد.
ولم يبق إلا السادات وحسين الشافعي, حيث صنفهما غير خطرين عليه.
وتاريخيا فإن ما فعله عبد الناصر هو سلوك متكرر لحكم أغلب اللجان العسكرية في طوريها الأول والثاني.


ويشبه ذلك في أطواره ومآلاته حكم لجنة من الجنرالات بالأرجنتين بقيادة الديكتاتوريين العسكريين الجنرال خورخي رافائيل فيديلا، والجنرال روبرتو إدواردو فيولا, والتي استمرت من سنة 1976م حتى حرب فوكلاند 1982م, حيث تسببوا في أن ضربت البلاد حالة من الفشل الاقتصادي والركود والغضب الشعبي, وأراد العسكريون إلهاء الشعب عن المشاكل المزمنة التي سببها حكمهم الإقصائي, فاندفعوا في حرب غير مدروسة لاسترداد جزر الفوكلاند, حيث مُنُوا فيها بهزيمة عسكرية مذلة من بريطانيا, وأعقبها استسلام الأرجنتين, وهو ما أدى إلى ثورة الشعب عليهم, حيث لم يغفر الشعب للعسكريين هزيمتهم العسكرية.

يتبع ..



hgp;l hgus;vd ,Hwkhti< ,Ysrh'hj ugn hgjhvdo hgluhwv