- الجزء الأول - - ص 40 - بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ ، وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَذِهِ " فُصُولٌ وَأَبْوَابٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ " . تَشْمَلُ عَلَى مَعْرِفَةِ طُرُقِ اسْتِنْبَاطِ مَعَانِي الْقُرْآنِ ، وَاسْتِخْرَاجِ دَلَائِلِهِ ، وَأَحْكَامِ أَلْفَاظِهِ ، وَمَا تَتَصَرَّفُ عَلَيْهِ أَنْحَاءُ كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَالْأَسْمَاءُ اللُّغَوِيَّةُ ، وَالْعِبَارَاتُ الشَّرْعِيَّةُ ، وَاَللَّهَ نَسْأَلُ التَّوْفِيقَ لِمَا يُقَرِّبُنَا إلَيْهِ ، وَيُزْلِفُنَا لَدَيْهِ ، إنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ
|
|
|
|
|
|
|
|
- الجزء الأول - بَابُ الْعَامِّ
وَفِيهِ فُصُولٌ : فَصْلٌ فِي الظَّوَاهِرِ الَّتِي يَجِبُ اعْتِبَارُهَا
مِنْ الظَّوَاهِرِ الَّتِي يَجِبُ اعْتِبَارُهَا : مَا رُوِيَ فِي خَبَرِ ابْنِ عُمَرَ « أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : سُئِلَ عَنْ الْمَاءِ يَكُونُ فِي الْفَلَاةِ مِنْ - ص 41 - الْأَرْضِ ، وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ ، فَقَالَ : إذَا كَانَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا » ، فَسُئِلَ عَنْ حُكْمِ النَّجَاسَاتِ ، فَأَجَابَ عَنْ الدَّوَابِّ وَالسِّبَاعِ بِجَوَابٍ مُطْلَقٍ ، فَدَلَّ عَلَى نَجَاسَةِ سُؤْرِ السِّبَاعِ ، لَوْلَا ذَلِكَ لَبَيَّنَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَفَصَّلَ حُكْمَهُ فِي الْجَوَابِ . فَهَذَا ، وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ ، هُوَ مِنْ الظَّوَاهِرِ الَّتِي يَجِبُ اعْتِبَارُهَا فِي إيجَابِ الْأَحْكَامِ بِهَا . وَمِنْ الظَّوَاهِرِ الَّتِي يَجِبُ اعْتِبَارُهَا : أَنْ يَرِدَ لَفْظُ عُمُومٍ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ وَمَعَ ذَلِكَ فَيُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ فِي نَفْسِهِ إذَا أُفْرِدَ عَمَّا قَبْلَهُ .
فَالْجَوَابُ فِيمَا إذَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ اعْتِبَارُهُ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَضْمِينٍ بِمَا قَبْلَهُ إلَّا أَنْ تَقُومَ دَلَالَةُ النَّظِيرِ بِمَا عُطِفَ عَلَيْهِ . نَحْوُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ ) إلَى قَوْلِهِ - ص 42 - ( وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ ) وَإِنْ كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ إجْرَاءُ حُكْمِهِ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ ظَاهِرُ لَفْظِهِ مِنْ غَيْرِ تَضْمِينٍ لَهُ مَا تَقَدَّمَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَرَدَ مُنْفَرِدًا عَمَّا تَقَدَّمَهُ لَزِمَهُ الْحُكْمُ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ غَيْرِ افْتِقَارٍ إلَى وُرُودِ بَيَانٍ فِيهِ . وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْصُرَ هَذَا الْحُكْمَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ مِنْ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مِنْ أَجْلِ أَنَّ مَا تَقَدَّمَهُ مِنْ ذِكْرِ الْعِدَدِ وَارِدٌ فِي بَيَانِ الْمُطَلَّقَةِ دُونَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى ( وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ ) وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ لَفْظٍ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ غَيْرِ مُفْتَقِرٍ إلَى غَيْرِهِ مَتَى حَمَلْنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ وَقَصَرْنَا حُكْمَهُ عَلَيْهِ فَقَدْ خَصَّصْنَاهُ . وَالتَّخْصِيصُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلَالَةٍ ، فَوَجَبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مُقْتَضَاهُ مُنْفَرِدًا عَمَّا قَبْلَهُ . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) غَيْرُ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ غَيْرُ مَفْهُومٍ مِنْ ظَاهِرِهِ إذْ لَيْسَ الْأَجَلُ مُخْتَصًّا بِالْعِدَدِ دُونَ غَيْرِهَا . قِيلَ لَهُ : هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كَانَ مَعْقُولًا مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ بِهَا وَلَمْ يَكُونُوا مُفْتَقِرِينَ عِنْدَ سَمَاعِهَا فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِهَا إلَى بَيَانٍ يَرِدُ مِنْ غَيْرِهَا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ « أَنَّ فُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكٍ لَمَّا أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُهُ عَنْ الِانْتِقَالِ عَنْ بَيْتِ زَوْجِهَا فِي عِدَّتِهَا - وَكَانَ قَدْ قُتِلَ عَنْهَا - قَالَ لَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ » . - ص 43 - فَلَمْ تَحْتَجْ هَذِهِ الْمَرْأَةُ مَعَ سَمَاعِ هَذَا اللَّفْظِ إلَى بَيَانٍ مِنْ غَيْرِهِ مَعَ كَوْنِهَا جَاهِلَةً بِالْحُكْمِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا اللَّفْظُ مُكْتَفِيًا فِي إلْزَامِهَا السُّكُونَ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا مَا دَامَتْ مُعْتَدَّةً لَمَا اقْتَصَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَرُدَّهُ تِبْيَانٌ يَزُولُ مَعَهُ الْإِشْكَالُ لَا سِيَّمَا وَقَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا جَاءَتْ مُسْتَفْتِيَةً لَهُ جَاهِلَةً الْحُكْمَ . وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ ( مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ أَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى ( وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) نَزَلَ بَعْدَ قَوْلُهُ تَعَالَى ( أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ) - ص 44 - احْتَجَّ بِذَلِكَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ بِعِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا أَنَّهَا أَبْعَدُ الْأَجَلَيْنِ . فَكَانَ عِنْدَهُ أَنَّ عُمُومَ هَذَا اللَّفْظِ كَافٍ فِي اعْتِبَارِ الْحَمْلِ لِسَائِرِ الْمُعْتَدَّاتِ . فَبَانَ بِذَلِكَ صِحَّةُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ اعْتِبَارِ حُكْمِ اللَّفْظِ بِنَفْسِهِ دُونَ تَضْمِينِهِ بِمَا هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ مَتَى اكْتَفَى بِنَفْسِهِ فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ . وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا ) إلَى قَوْلِهِ ( فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ ) كَلَامٌ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ لَوْ اُبْتُدِئَ الْخِطَابُ بِهِ صَحَّ مَعْنَاهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَهُ مُضَمَّنًا لِبَيَانِ السَّرِقَةِ . فَنَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى سُقُوطِ الْقَطْعِ بِالتَّوْبَةِ ، وَلَيْسَ هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمُحَارِبِينَ : ( إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ) ، لِأَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى رَاجِعٌ إلَى الْمَذْكُورَيْنِ لِأَنَّ فِيهِ كِنَايَةً لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَظْهَرٌ يَرْجِعُ إلَيْهِ وَهُمْ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ ، وَلِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ غَيْرُ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ إلَّا بِتَضْمِينِهِ بِمَا قَبْلَهُ . وَكُلُّ لَفْظٍ مَعْطُوفٍ عَلَى غَيْرِهِ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ إلَّا بِتَضْمِينِهِ بِمَا قَبْلَهُ وَجَبَ رَدُّهُ إلَيْهِ - ص 45 - وَتَضْمِينُهُ بِهِ ، نَحْوُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) ، هَذَا خِطَابٌ لَوْ اُبْتُدِئَ لَمْ يُفِدْ مَعْنًى ، فَصَحَّ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَهُ ، وَأَنَّ النِّكَاحَ الْمَبْدُوءَ بِذِكْرِهِ مُضْمَرٌ فِيهِ ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ ) وَانْكِحُوا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ، وَيَكُونُ النِّكَاحُ الْمُضْمَرُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ هُوَ النِّكَاحَ الْمَبْدُوءَ بِذِكْرِهِ وَهُوَ الْعَقْدُ لِاقْتِضَاءِ اللَّفْظِ إضْمَارَهُ بِعَيْنِهِ . وَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْوَطْءِ فَإِنَّمَا أَضْمَرَ فِيهِ مَعْنًى لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ فِي الْخِطَابِ وَتَرَكَ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِيهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ .
- الجزء الأول - - ص 46 - فَصْلٌ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمَتَى تَنَاوَلَ اللَّفْظُ مَعْنَيَيْنِ هُوَ فِي أَحَدِهِمَا مَجَازٌ وَفِي الْآخَرِ حَقِيقَةٌ فَالْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَلَا يُصْرَفُ إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِدَلَالَةٍ لِأَنَّ الْأَظْهَرَ مِنْ الْأَسْمَاءِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَوْضِعِهِ ، وَلَا يُعْقَلُ مِنْهُ الْعُدُولُ بِهِ عَنْ مَوْضِعِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ . وَالْحَقِيقَةُ هِيَ اللَّفْظُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي مَوْضِعِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فِي اللُّغَةِ . وَالْمَجَازُ هُوَ الْمَعْدُولُ بِهِ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَالْمُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ الْمَوْضُوعِ لَهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْدَلَ بِهِ عَنْ جِهَتِهِ وَمَوْضِعِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ . وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ : لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لِلْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا فِي حَالٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ هَذَا يُوجِبُ كَوْنَ اللَّفْظِ حَقِيقَةً مَجَازًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، وَهَذَا مُحَالٌ أَوْ كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مَا اُسْتُعْمِلَ فِي مَوْضِعِهِ وَالْمَجَازُ مَا اُسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ . وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ لَفْظٌ وَاحِدٌ مُسْتَعْمَلًا فِي مَوْضِعِهِ وَمَعْدُولًا بِهِ عَنْ مَوْضِعِهِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ . - ص 47 - وَذَلِكَ نَحْوُ الْقُرْءِ إنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْحَيْضِ مَجَازٌ فِي الطُّهْرِ فَالْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْمَجَازِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ . - ص 48 - وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ ) وَاسْمُ النِّكَاحِ حَقِيقَةٌ لِلْوَطْءِ مَجَازٌ لِلْعَقْدِ . فَالْوَاجِبُ إذَا وَرَدَ مُطْلَقًا حَمْلُهُ عَلَى الْوَطْءِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى غَيْرِهِ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَظِمَهُمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لِمَا وَصَفْنَا . وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ فِي اللَّفْظِ إذَا تَنَاوَلَ مَعْنَيَيْنِ وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَحَدِهِمَا كِنَايَةٌ عَنْ الْآخَرِ إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ هَذَا يُوجِبُ كَوْنَ اللَّفْظِ صَرِيحًا كِنَايَةً فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ وَهَذَا مُحَالٌ ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَتَى أَرَادَ أَحَدَهُمَا فَكَأَنَّهُ قَدْ نَصَّ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ فَانْتَفَى أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ الْآخَرِ . وَمَتَى وَرَدَ مُطْلَقًا وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الصَّرِيحِ دُونَ الْكِنَايَةِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْكِنَايَةُ ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ ) . فَاللَّمْسُ حَقِيقَةٌ بِالْيَدِ وَنَحْوِهَا فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ الْجِمَاعِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ - ص 49 - الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ . وَيَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ إرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا أَنَّ الصَّحَابَةَ لَمَّا اخْتَلَفَتْ فِي مُرَادِ الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَثْبَتَ الْمُرَادَ أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ نَفَى الْمَعْنَى الْآخَرَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا ، وَذَلِكَ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا الْمُرَادُ الْجِمَاعُ ، وَكَانَ عِنْدَهُمَا أَنَّ اللَّمْسَ بِالْيَدِ - ص 50 - غَيْرُ مُرَادٍ ، وَقَالَ عُمَرُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا الْمُرَادُ اللَّمْسُ - [ أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ ] - بِالْيَدِ دُونَ الْجِمَاعِ ، فَكَانَا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَا يَرَيَانِ لِلْجُنُبِ أَنْ يَتَيَمَّمَ فَحَصَلَ مِنْ اتِّفَاقِهِمْ انْتِفَاءُ إرَادَةِ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُجِيزُونَ إرَادَةَ الْمَعْنَيَيْنِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي بَيَّنَّاهُ . |
|
- الجزء الأول - فَصْلٌ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمِنْ الظَّوَاهِرِ مَا يَقْضِي عَلَيْهِ دَلَالَةُ الْحَالِ فَيَنْقُلُ حُكْمَهُ إلَى ضِدِّ مُوجَبِ لَفْظِهِ فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ نَحْوُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ ) وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَلَوْ وَرَدَ هَذَا الْخِطَابُ مُبْتَدِئًا عَارِيًّا عَنْ دَلَالَةِ الْحَالِ لَكَانَ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي إبَاحَةَ جَمِيعِ الْأَفْعَالِ ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَعِيدٌ وَزَجْرٌ بِخِلَافِ مَا يَقْتَضِيهِ حُكْمُ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ الْعَارِي عَنْ دَلَالَةِ الْحَالِ . - ص 51 - وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ قَوْلُ النَّجَاشِيِّإذَا اللَّـــهُ عَــادَى أَهْــلَ لُــؤْمٍ وَرِقَّــةٍ |
|
فَعَـادَى بَنِـي الْعَجْـلَانِ رَهْطَ ابْنِ مُقْبِلِ |
قَبِيلَـــــةٌ لَا يَغْـــــدِرُونَ بِذِمَّـــــةٍ |
|
وَلَا يَظْلِمُــونَ النَّــاسَ حَبَّــةَ خَـرْدَلِ |
وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّاسَ يَتَمَدَّحُونَ بِنَفْيِ الْغَدْرِ وَالظُّلْمِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ذَمٌّ وَهِجَاءٌ فَخَرَجَ اللَّفْظُ مَخْرَجَ الْهِجَاءِ ، فَكَانَ مَعْنَاهُ : أَنَّهُمْ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يُوثَقَ لَهُمْ بِذِمَّةٍ يَغْدِرُونَ بِهَا ، وَأَعْجَزُ مِنْ أَنْ يَظْلِمُوا أَحَدًا فَكَانَتْ دَلَالَةُ الْحَالِ نَاقِلَةً لِحُكْمِ اللَّفْظِ إلَى ضِدِّ مُقْتَضَاهُ وَمُوجَبِهِ لَوْ كَانَ وُرُودُهُ مُطْلَقًا . وَمِمَّا اعْتَبَرَ أَصْحَابُنَا فِي هَذَا الْمَعْنَى مِنْ مَسَائِلِ الْفِقْهِ قَوْلُهُمْ : مَنْ قَامَتْ امْرَأَتُهُ لِتَخْرُجَ فَقَالَ لَهَا : إنْ خَرَجْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَنَّهَا إنْ قَعَدَتْ ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ . وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الرَّجُلُ : تَغَدَّ عِنْدِي الْيَوْمَ ، فَقَالَ : إنْ تَغَدَّيْت فَعَبْدِي حُرٌّ ، أَنَّ هَذَا عَلَى ذَلِكَ الْغَدَاءِ بِعَيْنِهِ ، فَإِنْ تَغَدَّى عِنْدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ . وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : ( وَاَللَّهِ إنْ تَغَدَّيْت الْيَوْمَ فَعَبْدِي حُرٌّ ) فَصَارَتْ الْيَمِينُ عَلَى الْيَوْمِ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهَا .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَمِمَّا يَجِبُ مُرَاعَاتُهُ مِنْ مُغَالَطَاتِ الْخُصُومِ فِي هَذَا الْبَابِ : احْتِجَاجُهُمْ فِي زَعْمِهِمْ - ص 52 - بِعُمُومِ أَلْفَاظٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَتَى حَصَلَتْ عَلَيْهِمْ وَكُشِفَ عَنْ حَقِيقَتِهَا لَمْ يَتَحَصَّلْ مِنْهَا شَيْءٌ نَحْوُ احْتِجَاجِ بَعْضِهِمْ فِي أَنَّ رَقَبَةَ الظِّهَارِ شَرْطُهَا أَنْ تَكُونَ مُؤْمِنَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) . وَالْكَافِرُ خَبِيثٌ وَلَا يَجُوزُ زَعْمٌ بِالظَّاهِرِ ، وَنَحْنُ مَتَى سَلَّمْنَا أَنَّ الْعِتْقَ مِنْ الْإِنْفَاقِ لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا قَالُوا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَبِيثَ هُوَ كُفْرُ الْكَافِرِ لَا عَيْنُ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُذَمَّ مِنْ أَجْلِهَا . وَاَلَّذِي أَنْفَقَهُ الْمُعْتِقُ بِعِتْقِهِ لَيْسَ هُوَ الْكُفْرَ وَإِنَّمَا هُوَ الْعِتْقُ ، وَالْعِتْقُ لَيْسَ بِخَبِيثٍ وَكَيْفَ يَكُونُ خَبِيثًا وَهُوَ قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَمْ يَحْصُلْ لِهَذِهِ الْآيَةِ تَعَلُّقٌ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ . وَنَظِيرُهُ احْتِجَاجُ مَنْ احْتَجَّ مِنْهُمْ بِسُقُوطِ حَقِّ الْإِمَامِ فِي أَخْذِ صَدَقَةِ السَّائِمَةِ ، إذَا - ص 53 - أَعْطَاهَا رَبُّ الْمَالِ الْمَسَاكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( إنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) . فَيَسْتَدِلُّ بِظَاهِرِ قَوْلُهُ تَعَالَى ( فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْإِمَامِ فِي أَخْذِهَا مَتَى أَخْرَجَهَا رَبُّ الْمَالِ . وَهَذَا نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إنَّمَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَعْطَاهَا الْفُقَرَاءَ وَأَخْفَاهَا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَأْخُذُهَا مِنْهُ ثَانِيًا . وَمَوْضِعُ دَلَالَةِ الْآيَةِ لَا يَتَنَافَى لِأَنَّا نَقُولُ : إخْفَاؤُهَا خَيْرٌ لَهُ ، وَلِلْإِمَامِ مَعَ ذَلِكَ أَخْذُهَا ، فَإِذَنْ لَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ ، بَلْ دَلَالَتُهَا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا أَظْهَرُ مِنْهَا عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِ ، لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ خَيْرٌ لَهُ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَأْخُذُ مَرَّةً أُخْرَى فَيَحْصُلُ لَهُ الصَّدَقَةُ مَرَّتَيْنِ فَيَكُونُ خَيْرًا لَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
وَمِنْ نَظَائِرِ احْتِجَاجِهِمْ بِمَا رُوِيَ عَنْ « النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ ثَلَاثًا فِي الْوُضُوءِ » قَالُوا : فَهَذَا أَوْلَى مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى " الْمَسْحَ مَرَّةً وَاحِدَةً " لِأَنَّهُ زَائِدٌ عَلَيْهِ وَخَبَرُ الزَّائِدِ أَوْلَى وَمَتَى حَمَلْت عَلَيْهِمْ مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ وَقَابَلْته بِمَوْضِعِ الْخِلَافِ لَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ لِأَنَّا لَمْ نَخْتَلِفْ فِيهِ أَنَّهُ يَمْسَحُ ثَلَاثًا وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِي تَجْدِيدِ الْمَاءِ لِكُلِّ مَسْحَةٍ ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْمَعْنَى ذِكْرٌ فِي الْخَبَرِ ، وَالِاحْتِجَاجُ بِهِ ضَرْبٌ مِنْ الْمُغَالَطَةِ . وَنَحْوُهُ الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَمِ الْحَيْضِ « حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ » . - ص 54 - عَلَى أَنَّ غَسْلَ النَّجَاسَاتِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالْمَاءِ وَهَذَا غَلَطٌ ، وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانُ مَوْضِعِ الْخِلَافِ لِأَنَّ الَّذِي تَضْمَنَّهُ الْخَبَرُ الْأَمْرُ بِغَسْلِ دَمِ الْحَيْضِ بِالْمَاءِ ، وَمَتَى أُزِيلَ الدَّمُ بِخَلٍّ أَوْ نَحْوِهِ لَمْ يَبْقَ هُنَاكَ دَمٌ تَنَاوَلَهُ لَفْظُ الْخَبَرِ ، فَإِذَنْ لَا تَعَلُّقَ لِهَذَا الْخَبَرِ بِمَسْأَلَةِ الْخِلَافِ . وَمِثْلُهُ اسْتِدْلَالُ مَنْ اسْتَدَلَّ عَلَى نَجَاسَةِ الْمَاءِ بِمَوْتِ ( الذُّبَابِ فِيهِ ) بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ ) وَالْآيَةُ إنَّمَا أَوْجَبَتْ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ ، وَالْمَاءُ الَّذِي فِيهِ مَيْتَةٌ لَا يُسَمَّى مَيْتَةً فَكَيْفَ يَجُوزُ اعْتِبَارُ عُمُومِ لَفْظٍ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْمَاءَ بِحَالٍ . وَنَظِيرُهُ اسْتِدْلَالُ مَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى ضَمَانِ الْعَارِيَّةِ وَالسَّرِقَةِ عِنْدَ الْهَلَاكِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّهُ » . وَالْخَبَرُ إنَّمَا أَوْجَبَ رَدَّ الْمَأْخُوذِ بِعَيْنِهِ ، وَالْقِيمَةُ الَّتِي يُرِيدُ الْمُخَالِفُ تَضْمِينَهَا إيَّاهُ لَا ذِكْرَ لَهَا فِي الْخَبَرِ فَاعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ سَاقِطٌ . وَمِمَّا يَكْثُرُ اسْتِعْمَالُهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ بَيْنَ الْمُنَاظِرِينَ حَدِيثُ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ - ص 55 - عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : « مَنْ أَدْخَلَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ » وَيُرْوَى : « مَنْ أَدْخَلَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنَّا فَهُوَ رَدٌّ » وَهَذَا اللَّفْظُ مِمَّا لَا يَصِحُّ ( لِأَحَدٍ ) الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى مُخَالَفَةٍ فِي فَسَادِ الْعُقُودِ وَالْقُرَبِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي إثْبَاتِ مَا رَامَ إثْبَاتِهِ إلَى دَلَالَةِ غَيْرِ اللَّفْظِ ، إذَا كَانَ أَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّ الشَّيْءَ إذَا حَصَلَ مَنْهِيًّا عَنْهُ كَانَ مَرْدُودًا . نَظِيرُ ذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ . إذَا احْتَجَّ مُبْطِلُوهَا بِهَذَا الْخَبَرِ . - ص 56 - قِيلَ لَهُمْ : قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ ، فَمَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ جَوَازَ الصَّلَاةِ فِي هَذَا الْحَالِ لَيْسَ مِنْ أَمْرِهِ ، إذْ لَيْسَ يُمْنَعُ أَنْ يَكُونَ إبَاحَةُ الصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ لَيْسَ مِنْ أَمْرِهِ ، وَيَكُونُ جَوَازُهَا وَسُقُوطُ الْفَرْضِ بِهَا مِنْ أَمْرِهِ ، وَهَذَا مَوْضِعُ خِلَافٍ ، فَيَحْتَاجُ الْمُحْتَجُّ بِالْخَبَرِ إلَى أَنْ يُقِيمَ دَلَالَةً مِنْ غَيْرِ الْخَبَرِ عَلَى أَنَّ جَوَازَهَا لَيْسَ مِنْ أَمْرِهِ فَيَسْقُطُ الِاسْتِدْلَال بِهِ وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ احْتِجَاجِ الْمُخَالِفِينَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا مِنْهُ طَرَفًا لِنُنَبِّهَ بِهِ عَلَى نَظَائِرِهِ ، وَلِئَلَّا يَحْسُنَ الظَّنَّ بِهِ فِيمَا يَدَّعِيهِ ظَاهِرًا حَتَّى يُوَافِقَ عَلَى تَصْحِيحِ وَجْهِ الدَّلَالَةِ مِنْهُ ، فَإِنَّ أَكْثَرَ احْتِجَاجَاتِهِمْ تَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى ، فَمَتَى طُولِبَ بِتَحْقِيقِهِ اضْمَحَلَّ .
- الجزء الأول - - ص 59 - بَابٌ فِي صِفَةِ النَّصِّ :
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : النَّصُّ : ( كُلُّ ) مَا يَتَنَاوَلُ عَيْنًا مَخْصُوصَةً بِحُكْمٍ ظَاهِرِ الْمَعْنَى بَيِّنِ الْمُرَادِ فَهُوَ نَصٌّ وَمَا يَتَنَاوَلُهُ الْعُمُومُ فَهُوَ نَصٌّ أَيْضًا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الشَّخْصِ الْمُعَيَّنِ إذَا أُشِيرَ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ وَبَيْنَ حُكْمِهِ وَبَيْنَ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعُمُومُ . إذْ كَانَ الْعُمُومُ اسْمًا لِجَمِيعِ مَا تَنَاوَلَهُ وَانْطَوَى تَحْتَهُ . - ص 60 - وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مَا نُصَّ عَلَيْهِ بِاسْمِهِ . وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَصَّ عَلَى تَحْرِيمِ الْأُمِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ) وَأَنَّ قَطْعَ السَّارِقِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ) وَكَذَلِكَ جَلْدُ الزَّانِي ، وَإِيجَابُ الْقِصَاصِ عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ . وَكُلٌّ إنَّمَا نَصَّ عَلَى حُكْمِهِ بِعُمُومِ لَفْظٍ يَنْتَظِمُ مَا شَمَلَهُ الِاسْمُ مِنْ غَيْرِ إشَارَةٍ إلَى عَيْنٍ مَخْصُوصَةٍ ، وَلَيْسَ جَوَازُ دُخُولِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى لَفْظِ الْعُمُومِ وَجَوَازُ تَخْصِيصِهِ بِمَانِعٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَصًّا إذَا لَمْ تَقُمْ دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ . كَمَا أَنَّ الْعَدَدَ الَّذِي يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْعَشَرَةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ بِذِكْرِ الْعَشَرَةِ مَعَ جَوَازِ دُخُولِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهَا ، وَلِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ يَجُوزُ إدْخَالُ الشَّرْطِ عَلَيْهِ وَتَعْلِيقُهُ بِحَالٍ أُخْرَى ، وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ نَصًّا إذَا عَرِيَ مِنْ شَرْطٍ أَوْ ذِكْرِ حَالٍ .
وَالنَّصُّ فِي اللُّغَةِ : هُوَ الْمُبَالَغَةُ فِي إظْهَارِ الشَّيْءِ وَإِبَانَتِهِ . فَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : نَصَصْت الْحَدِيثَ إلَى فُلَانٍ ، بِمَعْنَى أَنِّي أَظَهَرْتُ أَصْلَهُ . وَمَخْرَجَهُ . قَالَ الشَّاعِرُ :أَنُــــصُّ الْحَــــدِيثَ إلَــــى أَهْلِــــهِ |
|
فَـــــإِنَّ الْأَمَانَـــــةَ فِــــي نَصِّــــهِ |
وَمِنْهُ نَصَصْت الدَّابَّةُ فِي السَّيْرِ إذَا أَظْهَرْت أَقْصَى مَا عِنْدَهَا . - ص 61 - قَالَ الشَّاعِر :تَقْطَــــعُ الْخَـــرْقَ بِسَـــيْرِ نَـــصٍّ |
|
، وَمِنْهُ الْمِنَصَّةُ ، وَهُوَ الْفَرْشُ الَّذِي يُرْفَعُ لِيَقْعُدَ عَلَيْهِ الْعَرُوسُ ( لِيَكُونَ ظَاهِرًا ) لِلْحَاضِرَيْنِ ، وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ فِي مَعْنَى النَّصِّ نَحْوًا مِمَّا ذَكَرْنَا . وَكَانَ يَقُولُ أَيْضًا فِي اللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ لِضُرُوبٍ ( مِنْ ) التَّأْوِيلِ أَنَّ مَا قَامَتْ لَهُ الدَّلَالَةُ عَلَى بَعْضِ الْمَعَانِي أَنَّهُ ( هُوَ ) الْمُرَادُ جَازَ لَهُ أَنْ يَقُولَ ( إنَّ ) هَذَا نَصٌّ عِنْدِي ، وَكَذَلِكَ إذَا رَوَى ذَلِكَ التَّأْوِيلَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ إنَّ ذَلِكَ نَصُّ الْكِتَابِ لِبَيَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِ . وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ) يَحْتَمِلُ السُّلْطَانُ الْمَعَانِيَ الْمُخْتَلِفَةَ . فَإِذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ( بِهِ ) الْقَوَدُ جَازَ أَنْ يَقُولَ قَدْ نَصَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى إيجَابِ الْقَوَدِ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ ظُلْمًا
- الجزء الأول - - ص 63 - بَابٌ فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ .
فَصْلٌ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ : الْمُجْمَلُ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : يُقَارِبُ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْعُمُومِ ( لِأَنَّ الْعُمُومَ ) لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى جُمْلَةٍ إذَا كَانَ يَقْتَضِي جَمْعًا مِنْ الْأَسْمَاءِ وَكُلُّ جَمْعٍ فَهُوَ جُمْلَةٌ . فَمَعْنَى الْعَامِّ وَالْمُجْمَلِ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي هَذَا الْوَجْهِ . فَجَائِزٌ أَنْ يُعَبَّرَ بِالْمُجْمَلِ عَنْ الْعَامِّ
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو مُوسَى عِيسَى بْنُ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْعَامَّ فِي مَوَاضِعَ فَسَمَّاهُ مُجْمَلًا ، وَهَذَا كَلَامٌ فِي الْعِبَارَةِ لَا يَقَعُ فِي مِثْلِهِ مُضَايَقَةٌ . وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : أَنْ يَكُونَ الْإِجْمَالُ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ مَجْهُولٍ فَهَذَا لَا يَكُونُ عُمُومًا وَلَا عِبَارَةَ عَنْهُ نَحْوُ قَوْلُهُ تَعَالَى ( وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ) ، ( وَنَحْوُ قَوْلِ ) الْقَائِلِ أَعْطِ زَيْدًا ( حَقَّهُ ) وَهُوَ مَا أُبَيِّنُهُ لَك بَعْدَ هَذَا ، فَهَذَا مُجْمَلٌ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْعُمُومِ
فَالْمَعْقُولُ عِنْدَهُمْ مِنْ إطْلَاقِ لَفْظِ الْعُمُومِ : أَنَّهُ اللَّفْظُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى مُسَمَّيَاتٍ قَدْ عُلِّقَ - ص 64 - بِهِ حُكْمٌ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَمَا تَنَاوَلَهُ لَفْظُهُ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى بَيَانٍ مِنْ غَيْرِهِ . نَحْوُ قَوْلُهُ تَعَالَى ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ .
وَأَمَّا الْمُجْمَلُ : فَهُوَ اللَّفْظُ الَّذِي يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهِ عِنْدَ وُرُودِهِ ، وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى بَيَانٍ مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ . أَحَدُهُمَا : مَا يَكُونُ إجْمَالُهُ فِي نَفْسِ اللَّفْظِ - [ الْمُجْمَلِ ] - بِأَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ فِي نَفْسِهِ مُبْهَمًا غَيْرَ مَعْلُومٍ الْمُرَادُ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ . وَالْقِسْمُ الْآخَرُ : أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مِمَّا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ لَوْ خَلَّيْنَا - [ الْمُجْمَلَ ] - وَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ إلَّا أَنَّهُ يَصِيرُ فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ بِمَا يَقْتَرِنُ إلَيْهِ مِمَّا يُوجِبُ إجْمَالَهُ مِنْ لَفْظٍ أَوْ دَلَالَةٍ .
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : فَنَحْوُ قَوْلُهُ تَعَالَى ( قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ) وَ ( حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ) وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ص 65 - « أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا » . وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُؤْتَمَنُ فِيهِ الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهِ الْأَمِينُ وَيَتَكَلَّمُ فِيهِ الرُّوَيْبِضَةُ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ ؟ . قَالَ : سَفِيهُ الْقَوْمِ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ » وَقَدْ كَانَ السَّامِعُونَ لَهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَلَمْ يَعْرِفُوا مَعْنَاهُ حَتَّى بَيَّنَهُ لَهُمْ بَعْدَ سُؤَالِهِمْ إيَّاهُ . وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ أَعْطِ زَيْدًا حَقَّهُ فَهَذَا هُوَ الْمُجْمَلُ الَّذِي إجْمَالُهُ فِي نَفْسِ اللَّفْظِ وَلَا سَبِيلَ إلَى اسْتِعْمَالِ حُكْمِهِ إلَّا بِبَيَانٍ مِنْ غَيْرِهِ .
وَمِنْ هَذَا الضَّرْبِ أَسْمَاءُ الشَّرْعِ الْمَوْضُوعَةِ فِيهِ لِمَعَانٍ لَمْ تَكُنْ مَوْضُوعَةً لَهَا فِي اللُّغَةِ ، - ص 66 - نَحْوُ الرِّبَا فِي اللُّغَةِ الزِّيَادَةُ يُقَالُ : أَرْبَى فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ ، وَالرَّابِيَةُ هِيَ الْأَرْضُ الْمُرْتَفِعَةُ الزَّائِدَةُ عَلَى مَا يَلِيهَا . وَهُوَ فِي الشَّرْعِ اسْمٌ لَمَعَانٍ أُخَرَ غَيْرَ مَا كَانَ اسْمًا لَهُ فِي اللُّغَةِ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ » وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ " إنَّ مِنْ الرِّبَا أَبْوَابًا لَا تَخْفَى مِنْهَا السَّلَمُ فِي السِّنِّ " يَعْنِي ( فِي ) الْحَيَوَانِ . وَقَالَ عُمَرُ أَيْضًا " إنَّ آيَةَ الرِّبَا مِنْ آخَرِ مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ ( مِنْ ) قَبْلِ أَنْ يُبَيِّنَهُ لَنَا فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ " .
- ص 67 - وَكَانَ عُمَرُ مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ ، وَلَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إلَى الْبَيَانِ فِيمَا ( كَانَ ) طَرِيقُ مَعْرِفَةِ اسْتِدْرَاكِهِ اللُّغَةَ ، وَأَخْبَرَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ لَفْظَ الرِّبَا كَانَ مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ إذْ كَانَ لَفْظًا شَرْعِيًّا قَدْ أُرِيدُ بِهِ مَا لَا يَنْتَظِمُهُ الِاسْمُ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ . وَالزَّكَاةُ هِيَ النَّمَاءُ ، يُقَالُ : زَكَا الزَّرْعُ إذَا نَمَا . وَالصَّوْمُ : الْإِمْسَاكُ وَالْكَفُّ عَنْ الشَّيْءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا ) يَعْنِي صَمْتًا . وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ :فَدَعْهَــا وَسَــلِّ الْهَــمَّ عَنْـك بِجَسْـرَةٍ |
|
ذَمُـــولٍ إذَا صَـــامَ النَّهَـــارَ وَهَجَّــرَا |
- ص 68 - وَقَالَ النَّابِغَةُ :خَــيْلٌ صِيَــامٌ وَخَــيْلٌ غَــيْرُ صَائِمَـةٍ |
|
تَحْـتَ الْعَجَـاجِ وَخَـيْلٌ تَعْلُـكُ اللُّجُمَـا |
وَالصَّلَاةُ الدُّعَاءُ فِي اللُّغَةِ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) ، وَقَدْ أُرِيدَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ مَعَانِي لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ مَوْضُوعًا ( لَهَا ) فِي اللُّغَةِ ، فَمَتَى وَرَدَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مُطْلَقًا وَلَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ بِهَا إشَارَةً إلَى مَعْهُودٍ فَهُوَ مُجْمَلٌ مُحْتَاجٌ إلَى الْبَيَانِ . وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ مَرَّةً فِي قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ) إنَّهُ ( مِنْ الْمُجْمَلِ ) لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ - ص 69 - فِيهِ بِمَعَانٍ لَا يَنْتَظِمُهَا الِاسْمُ وَلَيْسَ هُوَ عِبَارَةً عَنْهَا ، مِنْ نَحْوِ الْمِقْدَارِ وَالْحِرْزِ فَصَارَ كَاسْمِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهَا لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ فِيهَا بِمَعَانٍ لَمْ يَكُنْ الِاسْمُ مَوْضُوعًا لَهَا فِي اللُّغَةِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا عِنْدِي يُوجِبُ إجْمَالَهُ وَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ قَدْ صَارَ مُجْمَلًا عِنْدِي مِنْ وَجْهٍ آخَرَ غَيْرَ هَذَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ ( مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ ) .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الْآخَرُ مِنْهُ : فَهُوَ أَنْ يَرِدَ لَفْظُ عُمُومٍ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فِيمَا انْتَظَمَهُ مَعْنَاهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ . فَتَعَلُّقُهُ بِمَعْنًى يُوجِبُ إجْمَالَهُ وَوُقُوعَهُ عَلَى وُرُودِ الْبَيَانِ فِيهِ نَحْوُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الْأَنْعَامُ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ) فَصَارَ اللَّفْظُ ( بِهِ ) مُجْمَلًا إذَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ ( إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ) ( مِمَّا ) قَدْ حَصَلَ تَحْرِيمُهُ الْآنَ وَأُبَيِّنُهُ لَكُمْ فِي الثَّانِي . - ص 70 - وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ( قَدْ يَجُوزُ أَنْ ) يُرِيدَ بِقَوْلِهِ ( إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ) إلَّا مَا يَتَبَيَّنُ لَكُمْ مِمَّا قَدْ حَصَلَ تَحْرِيمُهُ الْآنَ . وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ إلَّا مَا سَنُحَرِّمُ عَلَيْكُمْ . وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ الْوَجْهَ الثَّانِيَ لَمْ يَصِرْ لَفْظُ الْإِبَاحَةِ بِهِ مُجْمَلًا ، ( وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُجْمَلًا ) إذَا كَانَ الْمُرَادُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ . وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى ( وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ ) فَلَوْ خَلَّيْنَا وَظَاهِرَهُ وَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى عُمُومِهِ فَلَمَّا قَرَنَ إلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى ( مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ) احْتَمَلَ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَجْعَلَ كَوْنَهُ عَلَى صِفَةِ الْأَفْعَالِ شَرْطًا لِلْإِبَاحَةِ ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَاللَّفْظُ مُجْمَلٌ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ مُعَلَّقَةٌ بِشَرْطِ حُصُولِ الْإِحْصَانِ بِالنِّكَاحِ وَالْإِحْصَانُ لَفْظٌ مُجْمَلٌ فَصَارَتْ الْإِبَاحَةُ مُجْمَلَةً مُفْتَقِرَةً إلَى الْبَيَانِ . وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ( مُحْصِنِينَ ) الْإِخْبَارَ بِحُصُولِ الْإِحْصَانِ بِالنِّكَاحِ فَيَصِيرَ حِينَئِذٍ عَقْدُ النِّكَاحِ شَرْطًا لِحُصُولِ الْإِحْصَانِ وَلَا يَكُونُ لَفْظُ الْإِبَاحَةِ مُجْمَلًا ، وَ ( مِنْ ) نَحْوِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى ( فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ ) . فَهَذِهِ الْإِبَاحَةُ لَا تَقُومُ بِنَفْسِهَا حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ . - ص 71 - وَمِمَّا يُضَاهِي ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَا تَحْتَ الِاسْمِ مَعْلُومَ الْمَعْنَى إلَّا أَنَّ مُرَادَ الْمُخَاطِبِ فِيهِ الْبَعْضُ مِنْهُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فِي اللَّفْظِ يُعْلَمُ ذَلِكَ مَعَ وُرُودِ اللَّفْظِ لِاسْتِحَالَةِ اعْتِقَادِ الْعُمُومِ فِيهِ ، فَيَصِيرُ اللَّفْظُ مُجْمَلًا مُحْتَاجًا إلَى الْبَيَانِ . وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَافْعَلُوا الْخَيْرَ ) لَيْسَ يَخْلُو قَوْلُهُ : ( وَافْعَلُوا الْخَيْرَ ) مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْوُجُوبَ أَوْ النَّدْبَ . فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ ( بِهِ ) الْوُجُوبَ اسْتَحَالَ اعْتِقَادُ الْعُمُومِ فِيهِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مَعَ وُرُودِ اللَّفْظِ امْتِنَاعُ اسْتِيعَابِ جَمِيعِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ خَيْرٍ وَاجِبًا ، وَيَسْتَحِيلُ أَيْضًا مِنْهُ فِعْلُ كُلِّ مَا يُسَمَّى خَيْرًا لِأَنَّهُ لَا يُحِيطُ بِهِ وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ فِعْلُهُ . فَصَارَ حِينَئِذٍ كَقَوْلِهِ افْعَلُوا بَعْضَ الْخَيْرِ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ ، وَذَلِكَ الْبَعْضُ غَيْرُ مَعْلُومٍ مِنْ اللَّفْظِ فَحُكْمُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ ، وَهُوَ فِي هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ صُومُوا لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْإِمْسَاكَ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ صَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ امْسِكُوا عَنْ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ . فَاللَّفْظُ مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ . هَذَا إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِاللَّفْظِ الْإِيجَابَ . فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ ( وَافْعَلُوا الْخَيْرَ ) النَّدْبَ صَحَّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسَ كُلَّهُ عَلَى حَسَبِ مَا يَخْتَارُهُ ، فَيَصِيرُ تَقْدِيرُهُ افْعَلُوا مِنْ الْخَيْرِ مَا شِئْتُمْ فَإِنَّكُمْ مَنْدُوبُونَ إلَيْهِ وَمُثَابُونَ عَلَيْهِ .
وَكَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ الْحَالُ فَالِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ ( وَافْعَلُوا الْخَيْرَ ) فِي إيجَابِ شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ سَاقِطٌ . وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ) . - ص 72 - لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ فِي نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ مَتَى اخْتَلَفْنَا فِي مُسَاوَاةِ الْكَافِرِ الْمُسْلِمَ فِي الْقِصَاصِ وَالشَّهَادَةِ وَنَحْوِهِمَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يَصِحُّ اعْتِقَادُ ذَلِكَ فِيهِمَا لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ قَدْ حَصَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِنْ حَيْثُ هُمَا جِسْمَانِ وَمُحْدَثَانِ وَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي تَكْلِيفِ الْإِيمَانِ وَالْفَرَائِضِ وَمَا لَا يُحْصَى مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَسَاوَيَا فِيهَا .
فَصَارَ تَقْدِيرُ اللَّفْظِ لَا يَسْتَوِيَانِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ ، ثُمَّ لَا يَخْلُو ذَلِكَ ( الْبَعْضُ ) مِنْ أَنْ يُحَصِّلَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ وَيَكُونُ حُكْمُهُ مَوْقُوفًا عَلَى الْبَيَانِ ، وَدَلَالَةُ الْحَالِ الْمُوجِبَةِ لِكَوْنِ الْمَعْنَى مَعْلُومًا ظَاهِرَةٌ فِي الْآيَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ( أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ ) . فَإِنَّمَا نَفَى الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمْ فِي الْآخِرَةِ . وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ) مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُسَاوَاةَ فِي مَعْنَى الْبَصَرِ ( وَإِدْرَاكِ الْأَشْيَاءِ بِهِ فَشَبَّهَ الْكَافِرَ بِالْأَعْمَى وَالْمُؤْمِنَ بِالْبَصِيرِ ) فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الشَّهَادَةِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ . وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُخَالِفِينَ الَّذِينَ لَا يَرْجِعُونَ إلَى تَحْصِيلٍ فِيمَا يَقُولُونَ ( يَحْتَجُّونَ ) بِهَذَا وَأَشْبَاهِهِ ، إمَّا جَهْلًا مِنْهُمْ بِمَوَاضِعِ الِاحْتِجَاجِ ، وَإِمَّا قِلَّةَ دِينٍ . - ص 73 - وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) مِنْ خَبَرِ الْمُجْمَلِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ آنِفًا لِأَنَّهُ قَرَنَ إلَيْهِ مَا أَوْجَبَ إجْمَالَهُ بِقَوْلِهِ ( وَحَرَّمَ الرِّبَا ) وَلَيْسَ هَذَا مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ عِنْدَنَا . وَذَلِكَ لِأَنَّ الرِّبَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ لَفْظًا مُجْمَلًا أَوْ عُمُومًا .
فَإِنْ كَانَ عُمُومًا فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَصِيرَ لَفْظُ الْبَيْعِ مُتَعَلِّقًا بِعُمُومِهِ فِي الْبَيْعِ الَّذِي لَيْسَ بِرِبًا كَمَا لَوْ قَالَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ بَيْعَ مَا لَيْسَ عِنْدَك لَمْ يُوجِبْ عَلَيْك إجْمَالَ لَفْظِ إبَاحَةِ الْبَيْعِ فَإِنْ كَانَ لَفْظُ الرِّبَا مُجَمِّلًا مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ فَإِنَّ الَّذِي يَقَعُ الْإِجْمَالُ فِيهِ مِنْ لَفْظِ الْبَيْعِ مَا شَكَكْنَا فِيهِ أَنَّهُ رِبًا أَوْ لَيْسَ بِرِبًا . فَأَمَّا الْبَيْعُ الَّذِي قَدْ عُلِمَ ( أَنَّهُ ) لَيْسَ بِرِبًا فَاعْتِبَارُ عُمُومِ لَفْظِ الْبَيْعِ شَائِعٌ فِي إبَاحَتِهِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ( وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الْأَنْعَامُ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ) وَلَا مِثْلَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ ) لِأَنَّ مَا يُتْلَى عَلَيْنَا لَيْسَ يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ دُونَ نَوْعٍ ، وَالْإِحْصَانُ لَفْظٌ مُجْمَلٌ قَدْ عُلِّقَتْ الْإِبَاحَةُ بِهِ فَبَطَلَتْ دَلَالَةُ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ
- الجزء الأول - - ص 74 - فَصْلٌ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَكُلُّ لَفْظٍ مُجْمَلٍ قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى مَعْنًى قَدْ أُرِيدَ بِهِ صَحَّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِ الْمَعْنَى الَّذِي قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ) . إذَا قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ ( قَدْ أُرِيدَ ) الْعُشْرُ أَوْ زَكَاةُ الْمَالِ صَحَّ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِهِ فِي إيجَابِ الْعُشْرِ وَالزَّكَاةِ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ إلَّا مَا قَامَ دَلِيلُهُ . وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ) . فَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْقَوَدَ مُرَادٌ فَيَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ ( بِهِ ) فِي ( إيجَاب الْقَوَدِ ) عَلَى كُلِّ قَاتِلٍ ظُلْمًا .
وَقَدْ يَنْتَظِمُ آيَةً وَاحِدَةً الْعُمُومُ وَالْمُجْمَلُ مَعًا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ ، فَلَا يَمْنَعُ مَا فِيهَا مِنْ الْإِجْمَالِ الِاحْتِجَاجُ بِعُمُومِ مَا هُوَ ( عَامٌّ فِيهَا ) مَتَى اخْتَلَفْنَا فِي حُكْمٍ قَدْ تَنَاوَلَهُ الْعُمُومُ . وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلُهُ تَعَالَى ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ) . هُوَ مُجْمَلٌ فِي الصَّدَقَةِ عُمُومٌ فِي الْأَمْوَالِ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ ) . - ص 75 - هُوَ عُمُومٌ فِيمَا كَسَبَ وَفِيمَا أَخْرَجَتْهُ الْأَرْضُ ، مُجْمَلٌ فِي الْمِقْدَارِ الْوَاجِبِ . فَمَتَى اخْتَلَفْنَا فِي الْمُوجِبِ فِيهِ صَحَّ الِاحْتِجَاجُ بِالْعُمُومِ . وَمَتَى اخْتَلَفْنَا فِي الْوَاجِبِ احْتَجْنَا إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِ الْآيَةِ . وَنَحْوُ قَوْلُهُ تَعَالَى ( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ) . مَتَى اخْتَلَفْنَا فِي بَعْضِ الْمَقْتُولِينَ ظُلْمًا صَحَّ الِاحْتِجَاجُ ( بِالْآيَةِ ) فِي دُخُولِهِ فِي الْحُكْمِ لِأَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى ( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا ) عُمُومٌ فِي الْمَقْتُولِينَ ظُلْمًا فَدَخَلَ فِيهِ الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ . وَمَتَى اخْتَلَفْنَا فِي الْوَاجِبِ بِالْقَتْلِ لَمْ يَصِحَّ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ ( سُلْطَانًا ) حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي رَامَ الْخَصْمُ إثْبَاتَهُ مُرَادٌ ، فَيَصِحُّ ( حِينَئِذٍ الِاحْتِجَاجُ ) بِعُمُومِهِ فِي الْحُكْمِ الْوَاجِبِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ .
- الجزء الأول - - ص 76 - فَصْلٌ : وَالْأَسْمَاءُ الْمُشْتَرَكَةُ مَتَى وَرَدَتْ مُطْلَقَةً فَهِيَ مُجْمَلَةٌ لَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهَا . مِثْلُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا ) وَالسُّلْطَانُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ مُشْتَرَكَةٍ فِي ( هَذَا ) الِاسْمِ لِأَنَّ الْحُجَّةَ تُسَمَّى سُلْطَانًا . وَالسُّلْطَانُ الَّذِي يَمْلِكُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَغَيْرَ ذَلِكَ . وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ وَجَدْت يَكُونُ مِنْ الْمَوْجِدَةِ وَهِيَ الْغَضَبُ ، وَمِنْ الْمَحَبَّةِ ، وَمِنْ وُجْدَانِ الشَّيْءِ . وَكَقَوْلِهِ رَأَيْت عَيْنًا وَذَلِكَ يَقَعُ عَلَى الدَّنَانِيرِ ، وَعَلَى عَيْنِ الْحَيَوَانِ ، وَعَيْنِ الْمَاءِ ، وَعَيْنِ الرُّكْبَةِ . - ص 77 - وَمِثْلُ قَوْلِهِ ) ( وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ) . قِيلَ إنَّهُ الْفَارِغُ وَقِيلَ إنَّهُ الْمَلْآنِ . فَمَتَى وَرَدَ مِثْلُهُ مُطْلَقًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ عُمُومٌ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَا شَمَلَهُ الِاسْمُ بَلْ يَكُونُ مَوْقُوفُ الْمَعْنَى عَلَى الْبَيَانِ . وَ ( كَذَا ) كَانَ يَقُولُ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ ( الْكَرْخِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا وَيَحْتَجُّ فِيهِ بِأَنَّهُ مَتَى أَرَادَ أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ فَكَأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ ( بِهِ ) وَسَمَّاهُ بِعَيْنِهِ فَلَا يَتَنَاوَلُ الْمَعْنَى الْآخَرَ ، وَلَيْسَ هَذَا كَالْأُخُوَّةِ وَالْإِنْسَانِ فِي إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَالْأَخَ مِنْ الْأُمِّ وَالْأَخَ مِنْ الْأَبِ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ سُمِّيَ الْجَمِيعُ إخْوَةٌ هُوَ مَعْنًى وَاحِدٌ مِنْ أَجْلِهِ سُمِّيَ كُلُّ وَاحِدٍ أَخًا وَكُلُّ وَاحِدٍ إنْسَانًا . فَذَلِكَ عُمُومٌ يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ . وَأَمَّا سَائِرُ الْأَسْمَاءِ الَّتِي قَدَّمْنَا وَنَظَائِرُهَا فَإِنَّهَا تَتَنَاوَلُ الشَّيْءَ وَضِدَّهُ عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَادَ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ جَمِيعُ مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ . وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِمَوَالِيهِ وَلَهُ مَوْلًى أَعْلَى وَمَوْلًى أَسْفَلُ ، إنَّ الْوَصِيَّةَ بَاطِلَةٌ إذَا لَمْ يُبَيِّنْ . وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْتَجُّ لِذَلِكَ بِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهِ - ص 78 - الْحَقِيقَةِ وَأَحَدُهُمَا مُنْعِمٌ وَالْآخَرُ مُنْعَمٌ ( عَلَيْهِ ) ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَادَا جَمِيعًا بِاللَّفْظِ . وَكَانَ يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى ( أَنَّ ) الِاسْمَ الْوَاحِدَ إذَا تَنَاوَلَ ضِدَّيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُرَادَا ( جَمِيعًا ) بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، وَكَانَ يَذْكُرُ أَيْضًا أَنَّ مِنْ مَذْهَبِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْحَقِيقَةَ وَالْمَجَازَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَا جَمِيعًا بِلَفْظٍ وَاحِدٍ . وَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ فِيمَنْ قَالَ إنْ شَرِبْت مِنْ الْفُرَاتِ فَعَبْدِي حُرٌّ إنَّ هَذَا عَلَى الْكَرْعِ وَلَا يَحْنَثُ إنْ اسْتَقَى بِكُوزٍ أَوْ غَيْرِهِ فَشَرِبَ لِأَنَّ ( الْحَقِيقَةَ ) قَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا مُرَادُهُ ، وَأَنَّهُ يَحْنَثُ بِهَا عِنْدَ الْجَمِيعِ فَانْتَفَى الْمَجَازُ ، وَكَذَلِكَ قَالَ فِيمَنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ شَيْئًا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى عَيْنِ الْحِنْطَةِ أَنْ يَقْضِمَهَا وَلَا يَحْنَثُ إنْ أَكَلَهَا خُبْزًا لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ قَدْ - ص 79 - تَنَاوَلَهَا الْيَمِينُ فَلَا يَدْخُلُ فِيهَا الْمَجَازُ . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إنْ كَرَعَ أَوْ شَرِبَ بِكُوزٍ حَنِثَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَيَحْنَثُ إنْ أَكَلَ الْخُبْزَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَقَدْ صَارَ عِنْدَهُمَا اللَّفْظَةُ الْوَاحِدَةُ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ .
- الجزء الأول - - ص 83 - بَابٌ مَعَانِي حُرُوفِ الْعَطْفِ وَغَيْرِهَا
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : هَذَا الْبَابُ مِمَّا يُحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ فِي تَعْرِيفِ حُكْمِ الْأَلْفَاظِ الْمَعْطُوفِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ ، وَمَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ الْأَدَوَاتُ الَّتِي تَتَغَيَّرُ فَائِدَةُ الْكَلَامِ بِدُخُولِهَا عَلَيْهِ . الْوَاوُ فِي اللُّغَةِ لِلْجَمْعِ . وَذَلِكَ حَقِيقَتُهَا وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْكِي عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ : الْوَاوُ بَابُهَا الْجَمْعُ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الِاسْتِئْنَافِ . - ص 84 - وَعَلَى هَذَا بَنَى مَسَائِلَ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ فِي الْأَيْمَانِ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلُهُ تَعَالَى ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) . مَنْ جَعَلَهَا لِلْجَمْعِ جَعَلَ تَمَامَ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) فَيُفِيدُ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ لَهُمْ خَبَرًا آخَرَ فَقَالَ ( يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ) ( وَمَعْنَاهُ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ) . وَمَنْ جَعَلَهَا لِلِاسْتِثْنَاءِ ، وَجَعَلَ تَمَامَ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ إلَّا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ لِلرَّاسِخَيْنِ آخَرَ فَقَالَ : ( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ) فَهَذِهِ الْوَاوُ تَحْتَمِلُ الْجَمْعَ وَتَحْتَمِلُ الِاسْتِئْنَافَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى ( إنَّا أَوْحَيْنَا إلَيْك كَمَا أَوْحَيْنَا إلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) . هَذِهِ الْوَاوُ لِلْجَمْعِ لِأَنَّهَا أَدْخَلَتْ الْمَعْطُوفَ فِي حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ الْمَبْدُوءِ بِذِكْرِهِ . وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ هَذِهِ طَالِقٌ وَهَذِهِ ، فَدَخَلَتْ الثَّانِيَةُ فِي خَبَرِ الْأُولَى وَحُكْمِهَا لِأَجْلِ دُخُولِ الْوَاوِ عَلَيْهَا . وَلَوْ قَالَ هَذِهِ طَالِقٌ وَهَذِهِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ( أَوْ قَالَ وَهَذِهِ طَالِقٌ ، وَهَذِهِ طَالِقٌ إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ ) كَانَتْ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ وَتَطْلُقُ الْأُولَى وَاحِدَةً ، وَالثَّانِيَةُ ثَلَاثًا أَوْ بِالشَّرْطِ إذَا عَلَّقَهُ بِهِ . وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ حُجَّةٌ ( فِيمَا يَحْكِيهِ فِي اللُّغَةِ ، قَدْ احْتَجَّ بِهِ قَوْمٌ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ ، مِنْهُمْ - ص 85 - أَبُو عُبَيْدٍ فِي " غَرِيبِ الْحَدِيثِ " وَغَيْرُهُ . وَحَكَى لَنَا ثَعْلَبٌ أَنَّهُ قَالَ : مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ حُجَّةٌ فِي اللُّغَةِ . وَحَكَى ( لِي ) أَبُو عَلِيٍّ النَّحْوِيُّ ) الْفَارِسِيُّ عَنْ ابْنِ السِّرَاجِ النَّحْوِيِّ أَنَّ الْمُبَرَّدَ سُئِلَ عَنْ الْغَزَالَةِ مَا هِيَ ، فَقَالَ : الشَّمْسُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَكَانَ فَصِيحًا - ص 86 - لِغُلَامِهِ : ( اُنْظُرْ ) هَلْ دَلَكَتْ غَزَالَةُ فَخَرَجَ وَرَجَعَ فَقَالَ : لَمْ أَرَ غَزَالَةً . وَإِنَّمَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ هَلْ زَالَتْ الشَّمْسُ ، ثُمَّ أَنْشَدَ الْمُبَرَّدُ :يُوضِحْــنَ فِــي قَــرْنِ الْغَزَالَـةِ بَعْدَمَـا |
|
تَرَشَّــــفْنَ ذُرَابَ الْغَمَـــامِ الرَّكَـــائِكِ |
وَقَالَ الْمُبَرَّدُ : الْوَاوُ لِلْجَمْعِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا عَلَى التَّرْتِيبِ لِأَنَّك إذَا قُلْت : رَأَيْت زَيْدًا وَعَمْرًا لَمْ يُعْقَلْ مِنْ اللَّفْظِ رُؤْيَةُ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الْآخَرِ إذْ جَازَ أَنْ يَكُونَ رَآهُمَا مَعًا أَوْ رَأَى عَمْرًا قَبْلَ زَيْدٍ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَقَالَ لِي أَبُو عُمَرَ غُلَامُ ثَعْلَبٍ الْوَاوُ عِنْدَ الْعَرَبِ لِلْجَمْعِ وَلَا دَلَالَةَ ( عِنْدَهُمْ فِيهَا ) عَلَى التَّرْتِيبِ . وَأَخْطَأَ مَنْ قَالَ إنَّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ . وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ « لَا تَقُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ وَلَكِنْ قُولُوا مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ » . فَلَوْ كَانَتْ الْوَاوُ لِلتَّرْتِيبِ لَمَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ أَنْ تَقُولَهَا بِالْوَاوِ كَمَا لَمْ يُمْنَعْ أَنْ تَقُولَهَا بِثُمَّ . وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ مُوسَى وَهَارُونُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ فَبَدَأَ فِي - ص 87 - بَعْضِهَا بِمُوسَى ( وَفِي ) بَعْضِهَا بِهَارُونَ وَكَذَلِكَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ . فَلَوْ كَانَتْ لِلتَّرْتِيبِ لَامْتَنَعَ وُجُودُ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ ( مَعًا ) فِيهِمَا . فَإِنْ قِيلَ : يَلْزَمُك فِي الْجَمْعِ مِثْلُهُ لِأَنَّ الْجَمْعَ يُوجِبُ كَوْنَهُمَا مَعًا . قِيلَ لَهُ : لَمْ نُرِدْ بِقَوْلِنَا هِيَ لِلْجَمْعِ وُجُودَهُمَا مَعًا ، وَإِنَّمَا أَرَدْنَا أَنَّهَا تَجْمَعُ الِاسْمَيْنِ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ . وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَا مَجْمُوعَيْنِ فِي الْحُكْمِ وَيَكُونُ التَّالِي مُقَدَّمًا عَلَى الْأَوَّلِ فِي اللَّفْظِ تَارَةً ، وَالْأَوَّلُ مُقَدَّمًا عَلَى التَّالِي تَارَةً أُخْرَى .
وَإِنَّمَا مَنَعْنَا أَنْ يَكُونَ فِيهَا دَلَالَةٌ عَلَى تَرْتِيبِ الْحُكْمِ . فَأَمَّا التَّرْتِيبُ فِي اللَّفْظِ فَمَوْجُودٌ فِيمَا ذَكَرْنَا صَحِيحٌ لَا يَقْدَحُ فِيهِ مَا ذَكَرْت . وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ فِي اللُّغَةِ أَنَّ « رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا طَافَ بِالْبَيْتِ وَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ ، صَعِدَ الصَّفَا وَقَالَ نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ » . فَلَوْ كَانَ التَّرْتِيبُ مَعْقُولًا مِنْ اللَّفْظِ لَمَا احْتَاجَ أَنْ يَقُولَ « نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ » لِأَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَكُنْ يُشْكِلُ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ اللُّغَةَ .
- الجزء الأول - - ص 88 - وَقَدْ تَجِيءُ الْوَاوُ بِمَعْنَى " أَوْ " فَتَكُونُ لِأَحَدِ مَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ نَحْوُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ )
فَالْمَعْنَى أَوْ ثُلَاثَ أَوْ رُبَاعَ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى ( أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ) .
- الجزء الأول - وَأَمَّا " بَلْ " فَلِلِاسْتِدْرَاكِ وَإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ بَدْءًا بِالتَّالِي تَقُولُ رَأَيْت زَيْدًا بَلْ عَمْرًا ، وَهَذِهِ طَالِقٌ بَلَى هَذِهِ . فَهِيَ تُشَاكِلُ الْوَاوَ فِي هَذَا الْوَجْهِ .
- الجزء الأول - وَأَمَّا " الْفَاءُ " فَإِنَّهَا لِلْجَمْعِ أَيْضًا إلَّا أَنَّهَا تَقْتَضِي التَّعْقِيبَ مَعَ ذَلِكَ بِلَا مُهْلَةٍ وَلَا تَرَاخٍ ، لِأَنَّك إذَا قُلْت رَأَيْت زَيْدًا فَعَمْرًا عُقِلَ مِنْهُ رُؤْيَةُ عَمْرٍو بَعْدَ زَيْدٍ بِلَا تَرَاخٍ . وَكَذَلِكَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِيهَا . - ص 89 -
- الجزء الأول - وَأَمَّا " أَوْ " فَإِنْ أَهْلَ اللُّغَةِ قَالُوا هِيَ لِلشَّكِّ أَوْ لِلتَّخْيِيرِ وَأَصْلُهَا أَنَّهَا تَتَنَاوَلُ أَحَدَ مَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ لَا جَمِيعَهُ ، وَهَذَا حَقِيقَتُهَا وَبَابُهَا . نَحْوُ قَوْلُهُ تَعَالَى ( أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) وَقَوْلُهُ ( مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) تَتَنَاوَلُ أَحَدَ الْمَذْكُورَاتِ لَا جَمِيعَهَا . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا حُكْمُهَا إذَا دَخَلَتْ عَلَى الْإِثْبَاتِ . وَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّفْيِ تَنَاوَلَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ عَلَى حِيَالِهِ . نَحْوُ قَوْلُهُ تَعَالَى ( وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ) . قَدْ نَفَى بِهَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْكُورَاتِ عَلَى حِيَالِهِ لَا عَلَى مَعْنَى الْجَمْعِ .
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا : فِيمَنْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْت زَيْدًا أَوْ عَمْرًا أَنَّهُ أَيَّهُمَا كَلَّمَ حَنِثَ . قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا فِي الْمَعْنَى غَيْرُ مُخَالِفٍ لِحُكْمِهِ فِي الْإِثْبَاتِ لِأَنَّهَا حِينَ دَخَلَتْ عَلَى النَّفْيِ نَفَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ عَلَى حِدَةٍ ، لَا عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ . كَمَا أَنَّهَا إذَا دَخَلَتْ عَلَى الِاثْنَيْنِ أَثْبَتَتْ أَحَدَهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا فُعِلَ عَلَى الِانْفِرَادِ كَانَ فَاعِلًا بِمُوجَبِ حُكْمِ الْآيَةِ لَا ( عَلَى ) مَعْنَى الْجَمْعِ . .
- الجزء الأول - - ص 90 - وَقَدْ تَجِيءُ " أَوْ " بِمَعْنَى " الْوَاوِ " . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَأَرْسَلْنَاهُ إلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) مَعْنَاهُ وَيَزِيدُونَ ، وَقَالَ تَعَالَى : ( فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) ، وَمَعْنَاهُ وَأَشَدُّ قَسْوَةً . وَأَنْشَدَنَا أَبُو عُمَرَ غُلَامُ ثَعْلَبٍ عَنْ ( ثَعْلَبٍ عَنْ ) ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ :إنَّ بِهَــــــا أَكَتَــــــلَ أَوْ رِزَامَــــــا |
|
( خُوَيْرِبَــــانِ يُنْفِقَــــانِ ) الْهَامَــــا |
- ص 91 - وَأَنْشَدَنَا أَيْضًا :فَلَـــوْ كَـــانَ الْبُكَـــاءُ يَـــرُدُّ شَـــيْئًا |
|
بَكَــــيْت عَلَــــى زِيَـــادٍ أَوْ عَنَـــاقٍ |
عَلَـــى الْمَـــرْأَيْنِ إذْ مَضَيَـــا جَمِيعًــا |
|
لِشَـــــأْنِهِمَا بِحُـــــزْنٍ وَاحْــــتِرَاقٍ |
فَقَالَ زِيَادٌ أَوْ عَنَاقٍ ثُمَّ قَالَ : عَلَى الْمَرْأَيْنِ ، فَدَلَّ أَنَّهُ أَرَادَ الْجَمْعَ . .
- الجزء الأول - وَأَمَّا " ثُمَّ " فَهِيَ لِلتَّرْتِيبِ وَالتَّرَاخِي ، تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ كَذَا حُكْمُهَا فِي اللُّغَةِ . وَقَدْ تَجِيءُ بِمَعْنَى الْوَاوِ - [ ثُمَّ ] - كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) . مَعْنَاهُ وَكَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا . وَقَالَ تَعَالَى : ( ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ) ، يَعْنِي وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ . وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْمَعْنَى ( فِيهِ ) أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى خِطَابِ الْمُتَكَلِّمِ صِلَةً لِكَلَامِهِ لَا عَلَى حُكْمِ ( الْكَلَامِ ) الْمُتَقَدِّمِ ، كَأَنَّ تَقْدِيرَهُ ثُمَّ بَعْدَمَا وَصَفْنَا أَذْكُرُ لَكُمْ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ إنَّمَا ( هُوَ لِمَنْ ) كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَبَعْدَمَا ذَكَرْت ( لَكُمْ ) أَعْلَمْتُكُمْ أَنَّا آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ . وَنَحْوُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ) وَمَعْنَاهُ - ص 92 - وَاَللَّهُ شَهِيدٌ ( عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ) . وَقَوْلُهُ تَعَالَى ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) . الْمَعْنَى وَقَدْ اهْتَدَى . وَنَحْوُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ ) .
فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ خَلَقْنَاكُمْ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ فَقَوْلُهُ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ ( اُسْجُدُوا لِآدَمَ ) بِمَعْنَى وَقُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ . وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ آدَمَ كَقَوْلِهِ ( وَاَللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ) فَإِنَّ قَوْلَهُ ( ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اُسْجُدُوا ) مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ . .
- الجزء الأول - وَبَعْدُ لِلتَّرْتِيبِ فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ( ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ ) وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ .
وَقَدْ تَجِيءُ بِمَعْنَى مَعَ - [ بَعْدُ ] - : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ) يَعْنِي مَعَ ذَلِكَ . وَقَدْ قِيلَ ( إنَّهَا ) رَجَعَتْ إلَى جُمْلَةِ الْخِطَابِ كَأَنَّهُ قَالَ عُتُلٍّ وَأَقُولُ لَكُمْ بَعْدَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرِي لَهُ إنَّهُ زَنِيمٌ .
- الجزء الأول - - ص 93 - ، وَ " مَعَ " لِلْمُقَارَنَةِ ، وَقَدْ تَجِيءُ بِمَعْنَى بَعْدُ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ) .
- الجزء الأول - وَإِلَى لِلْغَايَةِ " بِمَعْنَى حَتَّى ، وَقَدْ تَدْخُلُ تَارَةً فِي الْحُكْمِ وَلَا تَدْخُلُ أُخْرَى . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ )
فَاللَّيْلُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيهِ ، وَقَالَ تَعَالَى : ( وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ ) وَالْمَرَافِقُ دَاخِلَةٌ ، وَقَالَ تَعَالَى : ( وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) فَالِاغْتِسَالُ شَرْطٌ فِي إبَاحَةِ الصَّلَاةِ . وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّ الْغَايَةَ تَدْخُلُ فِي الْكَلَامِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِإِسْقَاطِ بَعْضِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ اللَّفْظُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ( وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ ) وَالْيَدُ اسْمٌ يَتَنَاوَلُ الْعُضْوَ إلَى الْمَنْكِبِ فَدَخَلَتْ الْغَايَةُ لِإِسْقَاطِ مَا عَدَا الْمَرْفِقِ فَكَانَتْ الْمَرَافِقُ دَاخِلَةً فِيهِ .
- الجزء الأول - وَقَدْ تَجِيءُ " إلَى " بِمَعْنَى " مَعَ " . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ( وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ ) .
وَالْآخَرُ : أَنْ لَا يَنْتَظِمَ الِاسْمُ الْغَايَةَ وَمَا بَعْدَهَا فَتَصِيرُ الْغَايَةُ حِينَئِذٍ مَشْكُوكًا فِيهَا فَلَا نَثْبُتُهَا بِالشَّكِّ .
- الجزء الأول - بَابٌ فِي إثْبَاتِ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَذِكْرِ الِاخْتِلَافِ فِيهِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي حُكْمِ اللَّفْظِ الْعَامِّ الظَّاهِرِ إذَا وَرَدَ مُطْلَقًا عَارِيًّا مِنْ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ . فَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ : الْحُكْمُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ فِي الْأَخْبَارِ وَالْأَوَامِرِ جَمِيعًا فَلَا يُصْرَفُ شَيْءٌ مِنْهَا إلَى الْخُصُوصِ وَلَا يَتَوَقَّفُ فِيهَا إلَّا بِدَلَالَةٍ . وَأَبَتْ طَائِفَةٌ هَذَا الْقَوْلَ ، وَاخْتَلَفَتْ فِيمَا بَيْنَهَا . فَقَالَ : ( مِنْهُمْ ) قَائِلُونَ بِالْخُصُوصِ فِي الْأَوَامِرِ وَالْأَخْبَارِ جَمِيعًا وَحَكَمُوا فِيهَا بِأَقَلِّ مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْكُلِّ . وَزَعَمُوا أَنَّ اللَّفْظَ الْمَوْضُوعَ كَذَلِكَ بِالْخُصُوصِ أَوْلَى مِنْهُ بِالْعُمُومِ وَيُحْتَمَلُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْعُمُومُ . قَالُوا : وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِالْعُمُومِ بِالِاحْتِمَالِ لِأَنَّ الْمُحْتَمِلَ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ ، وَلَا يُعْلَمُ - ص 100 - أَنَّهُ مُرَادٌ بِاللَّفْظِ ، وَالْخُصُوصُ مُتَيَقَّنٌ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِهِ ، وَالْوُقُوفُ عِنْدَهُ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْعُمُومِ . وَقَالَ مِنْهُمْ آخَرُونَ : بِالْوَقْفِ فِيهِمَا جَمِيعًا . لِأَنَّ اللَّفْظَ عِنْدَهُمْ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ كَاحْتِمَالِهِ لِلْآخَرِ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ . فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُجْمَلِ الْمُفْتَقِرِ إلَى الْبَيَانِ . وَفَرَّقَتْ طَائِفَةٌ بَيْنَ الْأَخْبَارِ وَالْأَوَامِرِ ( فَوَقَفَتْ فِي الْأَخْبَارِ وَحَكَمَتْ بِالْعُمُومِ فِي الْأَوَامِرِ ، وَطَائِفَةٌ وَقَفَتْ فِي عُمُومِ الْأَوَامِرِ ) وَقَالَتْ بِالْعُمُومِ فِي الْأَخْبَارِ - ص 101 -
وَمَذْهَبُ أَصْحَابِنَا : الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ فِي الْأَخْبَارِ وَالْأَوَامِرِ جَمِيعًا وَذَلِكَ كَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ ( الْكَرْخِيُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْكِيهِ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا ، وَجَمِيعُ مِنْ شَاهَدْنَاهُمْ مِنْ شُيُوخِنَا وَاحْتِجَاجُهُمْ لِمَسَائِلِهِمْ فِي كُتُبِهِمْ بِعُمُومِ اللَّفْظِ مُجَرَّدَةٌ مِنْ دَلَالَةٍ تَقْتَرِنُ إلَيْهِ فِي إيجَابِ الْعُمُومِ يَقْتَضِي ذَلِكَ . وَذَلِكَ غَيْرُ خَافٍ عَلَى مَنْ عَرَفَ مَذَاهِبَهُمْ . ( قَالَ أَبُو بَكْرٍ ) : وَحَكَى لَنَا أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ شِهَابٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ قَالَ لَهُ : إنِّي أَقِفُ فِي عُمُومِ الْأَخْبَارِ ، وَأَقُولُ بِالْعُمُومِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . فَقُلْت لِأَبِي الطَّيِّبِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ مَذْهَبَهُ كَانَ الْوَقْفَ فِي وَعِيدِ فُسَّاقِ أَهْلِ الْمِلَّةِ . فَقَالَ لِي : هَكَذَا كَانَ مَذْهَبُهُ . وَحَكَى لِي أَيْضًا أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيِّ يَقِفُ فِي الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَفِي الْأَخْبَارِ جَمِيعًا . وَأَبُو الطَّيِّبِ هَذَا غَيْرُ مُتَّهَمٍ عِنْدِي فِيمَا يَحْكِيهِ ، وَقَدْ جَالَسَ أَبَا سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيِّ وَشُيُوخَنَا الْمُتَقَدِّمِينَ . - ص 102 - وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَا أَبَا الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي ذَلِكَ بَلْ كَانَ يَقُولُ بِالْعُمُومِ عَلَى الْإِطْلَاقِ . وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَوْلُ بِالْوَقْفِ فِي عُمُومِ الْأَخْبَارِ ، وَأَنَّهُ لَا يَقْطَعُ فِيهَا بِعُمُومٍ وَلَا خُصُوصٍ إلَّا بِدَلَالَةٍ ، لِأَنَّ مَذْهَبَهُ الْمَشْهُورَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْطَعُ بِوَعِيدِ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ وَيَجُوزُ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ . وَأَبُو حَنِيفَةَ وَإِنْ كَانَ هَذَا مَذْهَبَهُ فِي الْوَعِيدِ فَإِنَّهُ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ قَوْلِهِ بِالْوَقْفِ فِي عُمُومِ الْأَخْبَارِ . وَإِنَّمَا ذَهَبَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ عَلَى أَنَّ الْآيَ الْمُوجِبَةَ لِلْوَعِيدِ بِالتَّخْلِيدِ فِي النَّارِ إنَّمَا عَنَى بِهَا الْكُفَّارَ لِآيَاتٍ أَوْجَبَتْ خُصُوصَهَا فِيهِمْ . نَحْوِ قَوْلُهُ تَعَالَى ( إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا . وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ) ( وَقَوْلِهِ ( إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) . - ص 103 - وَقَوْلُهُ تَعَالَى ( لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ) وَإِنَّمَا جَعَلَ التَّخْلِيدَ فِي النَّارِ مَقْصُورًا عَلَى الْكُفَّارِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ وَنَحْوِهَا .
وَقَدْ ذَكَرَ ( أَبُو مُوسَى ) عِيسَى بْنُ أَبَانَ هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِهِ فِي الرَّدِّ عَلَى بِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْأَخْبَارِ . وَقَالَ إنَّا إنَّمَا وَقَفْنَا فِي وَعِيدِ فُسَّاقِ أَهْلِ الْمِلَّةِ لِأَنَّ آيَ الْوَعِيدِ بِإِزَائِهَا . هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي تَلَوْتهَا مِمَّا يَقْتَضِي ظَاهِرُهَا دُخُولَ فُسَّاقِ أَهْلِ الْمِلَّةِ فِيهَا فَجَوَّزْنَا لَهُمْ الْغُفْرَانَ بِهَا وَجَوَّزْنَا التَّعْذِيبَ بِالْآيِ الْأُخَرِ وَأَرْجَيْنَا أَمْرَهُمْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَمْ نَقْطَعْ فِيهِمْ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ . وَهَذَا تَصْرِيحٌ مِنْهُمْ بِالْقَوْلِ بِعُمُومِ الْأَخْبَارِ أَيْضًا . وَلَمْ يُحْكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا خِلَافُ ذَلِكَ . فَدَلَّ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا . .
- الجزء الأول - - ص 135 - بَابٌ الْقَوْلُ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ الْمُخْرَجِ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ يَرِدُ اللَّفْظُ الْعَامُّ وَالْمُرَادُ الْعُمُومُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ( إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ - ص 136 - شَيْءٍ عَلِيمٌ ) وَقَوْلِهِ ( إنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ) وَقَوْلُهُ : ( وَلَا يَظْلِمُ رَبُّك أَحَدًا ) وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ . وَقَدْ يَرِدُ اللَّفْظُ الْخَاصُّ وَالْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ) وَقَوْلِهِ ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْك مِنْ رَبِّك وَقَوْلُهُ تَعَالَى فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا ) وَنَظَائِرِهِ . وَقَدْ يَرِدُ اللَّفْظُ الْخَاصُّ وَالْمُرَادُ ( الْعُمُومُ ) ، وَقَدْ بَيَّنَّا قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّ الْعُمُومَ يَصِحُّ إطْلَاقُهُ فِي الْأَحْكَامِ مَعَ عَدَمِ اللَّفْظِ فِيهِ .
- الجزء الأول - - ص 137 - الْبَابُ السَّادِسُ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ الْمُخْرَجِ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ
وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلُهُ تَعَالَى ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ ) فَافْتَتَحَ الْخِطَابَ بِذِكْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ سَائِرُ مَنْ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ لِلْعِدَّةِ . وَقَالَ تَعَالَى ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ) وَالْمُرَادُ سَائِرُ الْمُكَلَّفِينَ . وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي جَوَازِ وُرُودِ اللَّفْظِ الْعَامِ وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ ، فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ هَذَا لَا يَمْتَنِعُ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى نَحْوُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ ) وَعُمُومُهُ يَقْتَضِي دُخُولَ جَمِيعِ النَّاسِ فِي اللَّفْظَيْنِ وَالْمُرَادُ بَعْضُهُمْ لِأَنَّ الْقَائِلِينَ غَيْرُ الْمَقُولِ لَهُمْ . وَنَحْوُ قَوْلُهُ تَعَالَى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ) لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْأَطْفَالُ وَالْمَجَانِينُ ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ . وَكَانَ ( شَيْخُنَا ) أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ مِمَّنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ وَيَقُولُ : إنَّ إطْلَاقَ اللَّفْظِ فِي مِثْلِهِ مَجَازٌ لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : لَا يَجُوزُ وُرُودُ لَفْظِ الْعَامِّ وَالْمُرَادُ ( بِهِ ) الْخُصُوصُ . - ص 138 - لِأَنَّ الدَّلَالَةَ الْمُوجِبَةَ لِلْخُصُوصِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِالْجُمْلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى ( فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا ) غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ إنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ عِبَارَةٌ عَنْ أَلْفِ ( سَنَةٍ ) كَامِلَةٍ . كَذَلِكَ قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى إرَادَةِ الْخُصُوصِ تَجْعَلُ اللَّفْظَ خَاصًّا ، وَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَفْظَ عُمُومٍ قَطُّ . وَلَيْسَ وُجُودُ اللَّفْظِ الَّذِي يَصْلُحُ لِلْعُمُومِ بِمُوجِبٍ أَنْ يَكُونَ عُمُومًا بَلْ هُوَ ( لَفْظٌ ) خَاصٌّ صُورَتُهُ غَيْرُ صُورَةِ لَفْظِ الْعُمُومِ كَمَا أَنَّ وُجُودَ لَفْظِ ( الْأَلْفِ مِنْ ) قَوْلِهِ ( أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا ) لَا يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الصِّيغَةُ هِيَ صِيغَةَ الْأَلْفِ الْمُطْلَقَةِ الْعَارِيَّةِ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ بَلْ الصِّيغَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ كَذَلِكَ اقْتِرَانُ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ إلَى اللَّفْظِ الَّذِي يَصْلُحُ لِلْعُمُومِ يُغَيِّرُ صِيغَةِ اللَّفْظِ وَيَمْنَعُ كَوْنَهُ عَامًّا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ . فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِيمَا وَرَدَ فِيهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَوْضِعِهِ .
وَلَيْسَ أَنَّ دَلَالَةَ التَّخْصِيصِ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ مَعَ اللَّفْظِ بِمَانِعِ أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِاللَّفْظِ لِأَنَّا قَدْ وَجَدْنَا اللَّفْظَ الْمُطْلَقَ الَّذِي قَدْ أُرِيدَ بِهِ فِي اسْتِثْنَاءِ بَعْضِهِ قَدْ اُقْتُصِرَ فِيهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الِاسْتِثْنَاءِ مُتَّصِلًا بِهِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَإِنْ كَانَ قَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِهَا وَلَمْ يَكُنْ وُجُودُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ وَجَوَازُهُ فِيهِ بِمَانِعٍ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُرَادًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قِصَّةِ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ - ص 139 - مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ) فَلَمْ يَسْتَثْنِ امْرَأَتَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ فِي الْمَعْنَى وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهَا ثُمَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ( فَأَسْرِ بِأَهْلِك بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إلَّا امْرَأَتَك ) فَأَظْهَرَ الِاسْتِثْنَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، ثُمَّ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ اللَّفْظَيْنِ فِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَثْنًى مِنْهُ الْمَرْأَةُ فِي الْمَعْنَى ، وَإِنْ كَانَتْ مَذْكُورَةً فِي أَحَدِهِمَا غَيْرَ مَذْكُورَةٍ فِي الْآخَرِ . وَنَحْوُ قَوْلُهُ تَعَالَى ( إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْمَسِيحَ وَعُزَيْرًا صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا ( أَجْمَعِينَ ) فَأَنْزَلَ الْآيَةَ مُطْلَقَةً اكْتِفَاءً بِالدَّلَالَةِ الَّتِي أَقَامَهَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُمَا ( فِي الْآخِرَةِ ) ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُتَّصِلِ بِاللَّفْظِ ، فَلَمَّا قَالَ الْمُشْرِكُونَ هَذَا الْمَسِيحُ وَالْعُزَيْرُ قَدْ عُبِدَا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ) ثُمَّ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ اللَّفْظِ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَبْلَهَا . فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَلَالَةَ التَّخْصِيصِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ فَيَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُ اللَّفْظِ فِيهِمَا فِي كَوْنِهِ حَقِيقَةً فِي مَوْضِعِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِلَفْظِ عُمُومٍ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : هَذَا الْقَوْلُ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ الْمَجَازِ وَالِاتِّسَاعِ فِي اللُّغَةِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى كَوْنِهِ مَجَازًا بِمَنْزِلَةِ الْمَذْكُورِ مَعَهُ وَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى ( إنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ - ص 140 - خَمْرًا ) ( بِمَنْزِلَةِ إنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ مَا يَصِيرُ خَمْرًا ) وَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) بِمَنْزِلِهِ : إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ ( وَجَاءَ رَبُّك ) كَقَوْلِهِ جَاءَ أَمْرُ رَبِّك " . فَتَصِيرُ الدَّلَائِلُ الْمُوجِبَةُ لِكَوْنِ اللَّفْظِ مَجَازًا هِيَ الْمُوجِبَةَ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً . قِيلَ لَهُ : لَمَّا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ لَمْ يَلْزَمْ ( مِثْلُهُ فِي ) الدَّلَائِلِ الْقَائِمَةِ مَقَامَ الِاسْتِثْنَاءِ . وَلَوْ جَازَ أَنْ يَتَطَرَّقَ بِمَا ذَكَرْت إلَى إبْطَالِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ اللَّفْظِ لَجَازَ أَنْ يَتَطَرَّقَ بِهِ إلَى أَنْ تَجْعَلَ اللَّفْظَ الْمُسْتَثْنَى مَجَازًا كَمَا قُلْت فِي دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ سَوَاءً . وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ : إنَّ دُخُولَهُ عَلَى الْكَلَامِ لَا يَجْعَلُهُ مَجَازًا - [ الِاسْتِثْنَاءُ ] - . وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْقَرْيَةَ لَا تَكُونُ عِبَارَةً عَنْ أَهْلِهَا عَلَى الْحَقِيقَةِ بِحَالٍ ، وَالْخَمْرَ لَا يَكُونُ عِبَارَةً عَنْ الْعَصِيرِ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَلْفَاظِ الْمَجَازِ ( يَجُوزُ أَنْ ) لَا يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ الْمُرَادِ بِهَا ( حَقِيقَةً ) . وَقَوْلُهُ ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) إذَا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ ، وَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ ، كَانَ اللَّفْظُ عِبَارَةً عَنْهُمْ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ ( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ) وَمُرَادُهُ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ لِدَلَائِلَ قَامَتْ وَبَيْنَ قَوْلِهِ اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ فِي أَنَّهُ لَا يُجْعَلُ اللَّفْظُ مَجَازًا بَلْ هُوَ حَقِيقَةٌ ( فِيهِمْ ) فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ مَا ذَكَرْت . - ص 141 - ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ ) هُوَ عُمُومٌ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ إبَاحَةَ جَمِيعِ النِّسَاءِ فَلَمَّا قَالَ ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ) وَمَا ذُكِرَ بَعْدَهَا دَلَّ عَلَى ( أَنَّ ) الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ ) مَنْ عَدَا الْمَذْكُورَاتِ بِالتَّحْرِيمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ . وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) فَلَوْ خَلَّيْنَا وَالْعُمُومَ كَانَتْ الْأَمَةُ وَالْحُرَّةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءً ، فَلَمَّا قَالَ فِي الْإِمَاءِ ( فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ ) خَصَّهُنَّ مِنْ الْآيَةِ الْأُولَى ، وَبَيَّنَ فِي الثَّانِيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُولَى الْحَرَائِرُ ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ .
وَقَالَ قَوْمٌ : لَا يَكُونُ تَخْصِيصُ الْقُرْآنِ بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ . لِأَنَّ التَّخْصِيصَ لَمَّا كَانَ بَيَانًا لِلْمُرَادِ بِاللَّفْظِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ إلَّا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ ) وَيُقَالُ لَهُمْ : إنَّ هَذَا فِيمَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَأَمَّا مَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فَلَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ .
hg;jhf: hgtw,g td hgHw,g hglcgt: Hpl] fk ugd Hf, f;v hgvh.d hg[whw hgpktd - [hlum hghlhl lpl] su,] hgHsghldm
مواقع النشر (المفضلة)